التشكيلية اللبنانية زينة الخليل... الألم خطَّاطُ المسار

تُخبر «الشرق الأوسط» بأنها سمعت الأرض تُناديها قائلةً: «تعالي نُشفى معاً»

الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
TT

التشكيلية اللبنانية زينة الخليل... الألم خطَّاطُ المسار

الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)

كانت على الدوام فنانة، تتمدَّد كمَن يُراقب الكون، وتحلُم. ألحَّ شعورٌ بالانسلاخ عن العالم والبحث المرير عن شيء مفقود تُطارده ويهرُب. فضَّلت التشكيلية اللبنانية زينة الخليل العزلة. طَرْحُ الأسئلة الصعبة نَبَت منذ الصغر: «مَن أنا وما معنى الحياة؟». تعجَّبت لانشغال رفاق الصفّ باللعب دون سيطرة الهَمّ. «لِمَ يلهون ولا ألهو؟»، تساءلت. تأمّلت من دون أن تدري ماهية التأمُّل، وفكَّرت في الوجود من دون علمها بأنها الفلسفة.

ولمَّا رسمت؛ فوجئت: «آه، إنني أرسم! لا أدري كيف ولكنني أرسم! أستطيع نقل الأشياء إلى الورق. ذلك يُشعرني ببهجة». الرسم ضمَّد جراح العقل. وجَّه طاقتها نحو شيء آخر غير البحث المُنهك عن شرح. ومن هنا بدأت.

من التأمُّل والتفكير في الوجود رسمت للمرة الأولى (زينة الخليل)

تُخبر الفنانة زينة الخليل المقيمة في لندن «الشرق الأوسط» أنّ نشأتها في أفريقيا أتاحت الوقت الكافي للتفكير. شدَّتها الطبيعة، وراحت تشعر برابط بين الجسد الإنساني والأرض. وبالصلة بين جبّارين: الروح والتراب. تقول: «عبر النجوم والأشجار، حدث اتصالي مع الوجود. بالتأمّل والرسم، كتبتُ الفصل الأول من حياتي».

يأتي الألم بوعي مختلف لم يُعهَد من قبل ويتيح النموّ الداخلي (زينة الخليل)

عام 1994 عادت إلى لبنان. كانت مدافع الحرب الأهلية قد هدأت، مُتسبِّبةً بعطوب وبرك دم: «كنتُ في الـ18 حين شعرتُ بأنّ شيئاً يجرُّني للعودة ويقذفني نحو بلدي المُثقل. أتيتُ وحيدةً، وعائلتي في نيجيريا. اليوم أتفهّم عمق العلاقة بالأرض والطاقة. تلك التي لاحت في الطفولة ولم أستقرّ على تعريف لها. جسَّدها شعور تجاه صخرة أو شجرة أو ورقة تتساقط. الصوت الذي ناداني للعودة، سمعتُه جيداً. لم أقوَ على صدِّه. ورغم هواجس العيش على أرض هشَّمتها الحرب، اخترتُ المجيء».

طَرْحُ الأسئلة الصعبة نَبَت منذ الصغر وألهمها الرسم (زينة الخليل)

الفنّ عند زينة الخليل ليس للنفس فقط، وإنما للآخرين. وفي وقت واجهت التجارب القاسية في بلد شهد عقدين من احتدام المعارك، شعرت، بكونها امرأة، بالاعتداء المستمرّ عليها. مسلّحون يتجوّلون ومظاهر تفلُّت. ذلك يفسِّر ميل أعمالها المُبكرة إلى «النسوية المُفرطة»: «أردتُ إيجاد مكاني بوصفي امرأة والنضال للشعور بالأمان. لم أجسِّد الحركة النسوية المألوفة التي شهدتها أوروبا وأميركا آنذاك. مواجهة الميليشيا والإحساس بالخطر الفردي جعلا نسويتي تتجاوز حيّزها. راحت أعمالي تنتقد الحرب والأسلحة. وضعتُ فنّي بمواجهة هذه الإشكالية: هل حقاً يحتاج الإنسان إلى سلاح لإثبات نفسه؟».

الرسم ضمَّد جراح العقل (زينة الخليل)

ولمحت مُحرِّك العنف ومؤجِّجه: «البشر والدول يتقاتلون حول الموارد والثروات. العناوين الأخرى، منها الأديان، ذريعة. أدخلتُ مادة البلاستيك في أعمالي لإدراكي قوة العلاقة بين المُستهلك والمعركة. البلاستيك مصنوع من النفط، والنفط يُشعل الحروب. تجرَّد الإنسان من الحسِّ وأصبح العالم مُجمَّعاً تجارياً ضخماً. بتبنّي (الكيتش) في الرسم، سجّلتُ موقفي ضدّ تغليب القوة والحلول السريعة على وَضع استراتيجيات السلام. طغى اللون الزهريّ على رسومي مُجسِّداً البلاستيك والعلكة واللامعنى. شكَّل فنّي محاكاة للعبة الباربي بصورتها النمطية وما مثّلته من سطحية وانعدام العمق».

تسلُّل السخرية إلى الموضوع الجدّي محاولةٌ لجَعْل النقاش أقل غرابة (زينة الخليل)

تسلُّل السخرية إلى الموضوع الجدّي محاولةٌ لجَعْل النقاش أقل غرابة. لسنوات واصلت الفنانة تبنّي هذا الأسلوب وبه عرفت. وباندلاع حرب 2006 في لبنان، تحوَّلت إلى تدوين الأحداث، وإنما الرغبة بمواصلة الرسم تأجَّجت: «دوري ناشطةً ومدوّنةً لم يُشبع نهمي. وذات يوم، عشتُ تجربة صوفية لا أملك شرحها. كأنني عدتُ إلى زينة في أفريقيا والرابط بين الوجود والإنسان. البعض يسمّيه النداء الروحي. فجأة، لم يعُد عالم المادة مهماً، وشعرتُ بحبل في داخلي يُقطَع. غمرني الشعور بألم الأرض، فلم أجد منزلاً لي. مسقطا أمي وأبي، كلاهما تألّم بتداعيات الحروب. سمعتُ نداء الأرض: (تعالي لنُشفى معاً!). كأنني كنتُ أتعرّف إلى وجعي من أوجاعها. كان نداء عميقاً. أمضيتُ الوقت في تلمُّس التراب. شعوري بأنني لستُ في منزل؛ لا أنتمي، ولا أعرف مَن أنا، جرَّ فنّي إلى مكان آخر. رسمتُ ولم أدرك ماذا أرسم. أجريتُ مراسم لشفاء الأرض، فأشعلتُ النار من أجلها ورفعتُ الصلاة. سألتُ الطاقة أن تتبدَّل. والأشياء العالقة في الكون أن تتّخذ مجراها. مثل مَن ماتوا بلا دفن لائق، وبلا جنازة ووداعات. طاقة هؤلاء ظلَّت عالقة. لم تحدُث المصالحة بعد الحرب. بزيارتي الأماكن حيث حلَّت مجازر، وإشعالي النار، حَدَث التواصل. كأنني أقول للموتى الذين أرسم أرواحهم بأنني هنا؛ أراكم وأعترف بكم. أنتم منسيّون بجميع الطرق. الدولة لم تعترف بكم، لم تُؤبَّنوا. أنا هنا لأراكم وأكون شاهدة. بهذا بنيتُ اتصالاً فريداً مع لبنان».

طغى اللون الزهريّ مُجسِّداً البلاستيك والعلكة واللامعنى (زينة الخليل)

أرادت لفنّها التصدّي للعنف، فوظَّفت رماد النار التي أقامتها للمراسم مادةً للرسم. أنجزت مجموعات بتلك المادة السوداء ومن الحبر. وبدل الفرشاة، فضَّلت الأقمشة. بالكوفية مثلاً، لمست وحدة الشعوب، فأدخلتها في لوحاتها: «كل حفل شفاء أردتُه لنفسي وللبنان وللشرق الأوسط والكون. غمّستُها بالحبر ورسمتُ بها لنحو 10 سنوات. في الهند، درستُ الروحانيات ولمستُ اختفائي. الرسوم تتحوّل انعكاساً لروحي، كما أنّ روحي تُغذّي فنّي، فيتكاملان تماماً».

وظَّفت رماد النار التي أقامتها لمراسم الشفاء مادةً للرسم (زينة الخليل)

يأتي الألم بوعي مختلف لم يُعهَد من قبل ويتيح النموّ الداخلي. الألم أحياناً يختار المرء؛ يتعرّف إليه. ولا ينتظره. يُناديه ليخطَّ مساره. تقول: «بعد انفجار بيروت عام 2020، شاهدتُ الدخان والتصدُّع. سرتُ على شوارع يفترشها الزجاج. في تلك اللحظة، تجمَّد الزمن كأنه سينما. بحركة بطيئة، رأيتُ انهيار جانب ضخم من سقف منزل، ووجوهاً مُدمَّاة، وهلعاً. فكّرتُ أنها الحياة. كفَّ الوقت عن التحلّي بأي معنى. لمحتُ التقبّل المريع لفكرة أنّ العنف جزء من الوعي الإنساني. هنا شعرتُ بأنني فكرة تأتي وتعبُر. أو لحظة ونَفَس. جسدٌ مُعرَّض لانتهاء تاريخ الصلاحية، وجوهر واحد يُعبِّر عن نفسه بمليارات الطرق. فنّي إعلان للسلام الداخلي ولحقيقة أننا مُنتقلون. ألم الانسلاخ هو الأقسى. في موضع إحساسنا بالانفصال عن الكون، عن الهوية، وعن الفردية؛ تبدأ رحلة الشفاء».


مقالات ذات صلة

معركة ضدّ «آكلة البشر»... أميركا في مواجهة الذباب القاتل

يوميات الشرق «آكلة البشر» تُقلق أميركا (أ.ب)

معركة ضدّ «آكلة البشر»... أميركا في مواجهة الذباب القاتل

دودة «New World» الحلزونية بدأت في الانتشار شمالاً، وظهورها في جنوب المكسيك أثار قلق المسؤولين في الزراعة وصناعة الماشية، وكذلك الجمعيات البيطرية.

«الشرق الأوسط» (تكساس)
يوميات الشرق «تريك وتراك» تكسران عزلة الانقراض (أ.ف.ب)

«تريك وتراك»... سلحفاتان نادرتان تولدان في قلب كورسيكا

وُلدت سلحفاتان من نوع «ميلانوشيليس تريكاريناتا» المُهدَّد بالانقراض، والذي يعود أصله إلى سفوح جبال الهملايا، في محمية «أ كوبولاتا» للسلاحف في فيرو.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «أودري» تغادر مكانها الأول بعد عقود (مجلس مدينة ليدز)

بعد نصف قرن في ليدز... نبتة جبن عملاقة تجد موطناً جديداً

انتقلت نبتة جبن عملاقة كانت تنمو في كلية الطبّ في ليدز منذ سبعينات القرن الماضي إلى حديقة حيوانات داخلية قريبة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق يُحمِّل الأشجار رمزية ويمنحها صوتاً لتقول ما يشاء قوله (محمد شرف)

محمد شرف في «ذكريات أشجار بعلبك»: الفنّ ضد الأسمنت واليباس

في لوحات محمد شرف، لا تنمو الأشجار فقط على الوسيط الفنّي، فهي تمتدّ مثل جذور في ضمير المكان، كأنها تحاول أن تستعيد هواءها، وأن تنهض من ركام الذاكرة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق اتجاه حكومي نحو التوسُّع في تصدير نباتات الظلّ والزينة (الشرق الأوسط)

زهور الربيع «تذبل» تحت عبء الغلاء في مصر

تبرز في المعرض أجنحة مخصَّصة لنباتات الظلّ المنزلية التي لا تحتاج إلى ضوء شمس مباشر؛ مما يستلزم إعداد الأجنحة بحيث تكون أسطحها مغطّاة.

منى أبو النصر (القاهرة )

خلافات حسام حسن وزوجته تصل إلى «الأعلى لتنظيم الإعلام»

شكوى حسام حسن تصل إلى الأعلى لتنظيم الإعلام (فيسبوك)
شكوى حسام حسن تصل إلى الأعلى لتنظيم الإعلام (فيسبوك)
TT

خلافات حسام حسن وزوجته تصل إلى «الأعلى لتنظيم الإعلام»

شكوى حسام حسن تصل إلى الأعلى لتنظيم الإعلام (فيسبوك)
شكوى حسام حسن تصل إلى الأعلى لتنظيم الإعلام (فيسبوك)

وصلت خلافات الكابتن حسام حسن، مدرب منتخب مصر، وزوجته السيدة دانا، إلى «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام»، بمصر، على خلفية ظهورها، أخيراً، في بث مباشر، لعدد من المواقع الإخبارية المحلية، للحديث عن بعض الأمور المشتركة بينهما، وفق بيان أصدره محامي حسام حسن.

وأكدت دانا، في حديثها لأحد المواقع، أنه لا توجد قضايا بينها وبين زوجها، كما أن الأمور الحياتية تسير على ما يرام، بينما كان آخر تواصل معه منذ أيام، بجانب تطرقها لبعض التفاصيل التي تتعلق بأحد العقارات الخاصة.

من جانبه رد أشرف عبد العزيز، محامي حسام حسن، على ما أثير حول هذه التصريحات، في بيان إعلامي نشره عبر حسابه بـ«فيسبوك»، حيث أكد تقديمه شكوى للمجلس الأعلى للإعلام، ضد عدد من المواقع الإخبارية بمصر، وأعلن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز، عن تلقي شكوى محامي حسام حسن، الاثنين.

الكابتن حسام حسن وزوجته دانا (حسابها على فيسبوك)

وطلب المحامي المصري اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد القائمين على إدارة هذه المواقع، والوسائل الإعلامية، وفقاً للوائح والقوانين المنظمة، بما يضمن حماية حقوق الأفراد وكرامتهم، والحفاظ على حرمة الحياة الخاصة، وعدم المساس بها وإصدار قرار بوقف هذه الإساءات، التي وصفها بـ«المتعمدة».

وأوضح البيان، على لسان محامي حسام حسن، أن «هذه المواقع قامت بالتشهير بموكلي، على مدى 3 أيام متواصلة دون تدخل منهم، وفتحت هذه المواقع البث المباشر لزوجة موكله للحديث عن خلافات لا مجال لها في المواقع، ولا منصات التواصل».

وأكد المحامي، في بيانه، أن موكله تضرر من قيام بعض الوسائل الإعلامية، والمواقع الإخبارية، والصفحات والقنوات التابعة لها بـ«السوشيال ميديا»، بنشر أخبار تنتهك حرمة الحياة الخاصة، لافتاً إلى أن «بعض هذه الوسائل دأبت على النشر اليومي لهذا المحتوى، مع تغيير طرق العرض، مما يعكس النية للإساءة والتشهير»، وفق ما ورد بالبيان.

وعدّت العميد الأسبق لكلية الإعلام، جامعة القاهرة، الدكتورة هويدا مصطفى، «البث المباشر جاذباً للجمهور، كما أن له خصوصية ووضعية مهمة تتماشى مع المسؤولية الكبيرة التي تنتج عنه».

وكيل حسام حسن يتقدم بشكوى للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام (حسابها على فيسبوك)

وقالت لـ«الشرق الأوسط» إن «من يتصدى له لا بد أن يكون لديه دراية بالقواعد والأعراف المهنية والأخلاقية؛ لأن الكلمة التي تبث مباشرة لها مردود سريع وخطورة، إذا خرجت عن القواعد والأكواد الإعلامية، خصوصاً إذا كانت من مشاهير لديهم قدر من المتابعة والتأثير».

وأكدت على «ضرورة مراعاة هذا الأمر»، لكنها أشارت إلى «وجود مواقع تنتهك القواعد أملاً في جذب متابعين لتحقيق أرباح، دون الاهتمام بالمضمون وبالقواعد والأعراف، وذلك عبر حوارات مع مشاهير تنتهك الأعراض والخصوصية، وتنشر ادعاءات وشائعات لتحقيق ما يطلق عليه (التريند)، وهو ما يضر بالجماهير والعمل الإعلامي»، وفق قولها.

ولفتت إلى أن المجلس الأعلى للإعلام يسعى من خلال لجنة تلقي الشكاوى لتفعيل العقوبات التي تتراوح ما بين الغرامة والإيقاف، وهذا الأمر يتطلب من الجمهور نفسه الإيجابية في رصد هذه الانتهاكات، وتقديم شكوى لإلقاء الضوء عليها، لاتخاذ موقف حيالها، على حد تعبيرها.

وقبل واقعة حسام حسن وزوجته، أعلن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، خلال الأيام الماضية، عن استدعاء الممثلين القانونيين لعدد من القنوات الفضائية بسبب شكاوى حول مخالفة الضوابط والمعايير، بجانب التحقيق في شكوى الإعلامية مها الصغير، ضد بعض المواقع الإلكترونية، والوسائل الإعلامية بسبب انتهاكها حرمة الحياة الخاصة.

وفي وقت سابق أحال المجلس شكوى نوارة نجم، ابنة الشاعر أحمد فؤاد نجم، والفنانة ياسمين رئيس، ضد بعض القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية، إلى لجنة الشكاوى، حيث شكت الأولى من معاودة التطاول على والدها الشاعر الراحل، وعلى محاميها، بينما تضررت الثانية، من بث أخبار وتصريحات تسيء إليها، وتجاهل حقها في الرد.