الريف اللبناني ينتعش بسواعد الجيل الشاب... ومنطقة الباروك تقدِّم النموذج

يمتدُّ مشروع «Farmville» على مساحة 10 آلاف متر مربَّع ويظلِّله أرز الباروك المعمِّر (الشرق الأوسط)
يمتدُّ مشروع «Farmville» على مساحة 10 آلاف متر مربَّع ويظلِّله أرز الباروك المعمِّر (الشرق الأوسط)
TT

الريف اللبناني ينتعش بسواعد الجيل الشاب... ومنطقة الباروك تقدِّم النموذج

يمتدُّ مشروع «Farmville» على مساحة 10 آلاف متر مربَّع ويظلِّله أرز الباروك المعمِّر (الشرق الأوسط)
يمتدُّ مشروع «Farmville» على مساحة 10 آلاف متر مربَّع ويظلِّله أرز الباروك المعمِّر (الشرق الأوسط)

الريف اللبناني ثروة لا يُدرِك قيمتها سوى قاطنيه، ولا سيما كبار السنِّ منهم. الريف أو «الضيعة»، كما يسمِّيه اللبنانيون، ليس طبيعة خلَّابة فحسب، وفصولاً تتحوَّل إلى لوحاتٍ ربيعيَّة وشتويَّة، وعاداتٍ وتقاليد يتناقلها الأهالي أباً عن جدٍّ. القرية اللبنانية أكثرُ من ذلك، فهي خزَّانٌ بيئي وزراعي وسياحي ينتظر فقط مَن يعرف كيف ينهل منه.

رغم ذلك، فإنَّ مفهوم التنمية الريفيَّة ما زال غريباً على البلد وأهله، وسط غيابٍ شبه تامٍّ للمبادرات الرسمية في هذا الإطار. تبقى بالتالي المبادرات الفرديَّة التي قد تولد من فكرة في رأسِ شاب، وهو يسمع الموسيقى أو يمارس التأمُّل في أرض العائلة الجرداء، محاطاً ببعض أشجار الصنوبر.

هكذا بدأت حكاية سيزار محمود الذي حوَّل أرضاً توارثَها أهله عن أجداده في الباروك، من عقارٍ مهجور إلى مشروعٍ يُدرُّ المال والآمال على البلدة وجوارها، في منطقة الشوف بجبل لبنان.

وضع سيزار محمود التنمية الريفية والسياحة المستدامة في صدارة اهتماماته (الشرق الأوسط)

عام 2017، وبعد أن نال شهادته الجامعية في علوم التسويق، قرر محمود تحويل منزل العائلة بمحاذاة الأرض، إلى بيت ضيافة يستقبل السيَّاح والزوَّار. لم يكن قد بلغ الـ25 من عمره حينها، فإن أفكاره فاقت عدد سنواته. خاطر بالرصيد المصرفي، وبعلاقته مع أفراد العائلة، عندما قرر استقدام منازل خشبية صغيرة إلى العقار. راهنَ على حلمه بالاكتفاء الذاتي، وبنشر ثقافة السياحة المستدامة والتنمية الريفية، واستوحى الاسم من لعبة إلكترونية كانت رائجة في تلك الآونة، «Farmville Barouk» مع أن لا شيء افتراضياً أو رقمياً في المكان.

البيوت الخشبية التي تستضيف زوَّار «Farmville» (الشرق الأوسط)

اتَّسعت الـ10 آلاف متر مربَّع لبيت الضيافة، وللمنازل الخشبية، ولمساحاتٍ خضراء تستقبل الزوَّار في إقامة غير تقليديَّة. لن يصحوا هنا على منبِّه الغرفة، إنما على صياح الديك، ثم سيجمعون بأنفسهم مكوِّنات الفطور، قاطفين الخضراوات العضويَّة الطازجة، وجامعين البيض البلدي من قنِّ الدجاج.

وفي مطبخ «Farmville» تُعدُّ سيِّدات من البلدة الطعام، من مناقيش، وبيض بالقاورما، وفول، وغيرها من الأطباق التقليدية.

باستطاعة الزوَّار أن يجمعوا بأنفسهم مكوِّنات الفطور الطازج (الشرق الأوسط)

ثم تنطلق الرحلة إلى أعالي الباروك؛ حيث محميَّة أرز الشوف التي تظلِّل برهبتِها المشروع السياحي وسائر المنطقة. «نحن جزء من المحيط الحيوي للمحميَّة التي تحاكي السياحة البيئية، منذ تأسيسها عام 1996»، هذا ما قاله محمود لـ«الشرق الأوسط».

ويضيف الشاب الذي بدأ مشواره موظفاً في المحميَّة، فنبتت أحلامه بين جذوع أرزِها المعمِّر: «زوَّار هذا المكان لا يأتون من أجل (ستوري) على (إنستغرام) أو جلسة في مطعم؛ بل يقصدون الطبيعة الشوفيَّة لاختبارها، وللتعرُّف إلى المجتمع المحلي». هي سياحة تجمع بين الترفيه والأهداف البيئية والصحية.

أما محبُّو المغامرة، فبإمكانهم اكتشاف غابة أرز الشوف عبر الطيران الشراعي، ومن على ارتفاع 1900 متر.

الطيران الشراعي على ارتفاع 1900 متر فوق غابة أرز الباروك (الشرق الأوسط)

ولأنَّ الطبيعة مُلهِمة وولَّادة أفكار، لا تتوقَّف التجربة عند الإقامة في «Farmville» وزيارة المحميَّة؛ بل تنسحب على أنشطة متنوِّعة. منها ما هو داخل المكان، ومنها ما يحصل خارجه، بما أنَّ شبكة من المشاريع السياحية الريفيَّة الهادفة قد انبثقت عن المشروع الأساسي. فسحة إبداعيَّة يقدِّمها «استوديو الفنون»؛ حيث بإمكان الزوَّار أن يتعلَّموا صناعة الفخَّار، وممارسة هواية الرسم، والمشاركة في أنشطة ثقافية عدة.

كما يفتح المشروع أبواب متجره الصغير أمام الحرفيين من ذوي الاحتياجات الخاصة، لبيع منتجاتهم من صابون، وخزَف، وحليٍّ، وسواها من إكسسوارات.

في الاستوديو التابع للمشروع بإمكان الزوَّار تعلُّم صناعة الفخَّار والرسم (الشرق الأوسط)

لا تعود الفائدة في «Farmville» على الزوَّار فحسب؛ بل على أهالي المنطقة كذلك. فبالتعاون مع جهاتٍ غربية مانحة، أسس محمود «المطبخ المجتمعي» الذي يستقبل السكَّان المحليين إن أرادوا أن يصنعوا فيه مؤونتهم بواسطة المعدَّات الحديثة التي يضعها في خدمتهم. هذه التعاونية الزراعية هي بمنزلة ملتقى للأهالي الذين يقصدونها لطحن الكشك، أو عصر منتوجهم من الطماطم، وسواها من المحاصيل الزراعية والغذائية.

ليست التنمية المستدامة أنانية، فهي تقوم على مبدأ الشراكة. «إذا كان جارُك بخير فأنت بخير»، مقولة يردِّدها أهل الريف في لبنان، ويستلهمها سيزار محمود. لذلك، فقد حوَّل مشروعه الحلم إلى شبكة من المشاريع، حقَّق عبرها أحلام أشخاصٍ آخرين من أهالي المنطقة.

الفطور والغداء والعشاء من صناعة سيِّدات البلدة (الشرق الأوسط)

انبثقت عن «Farmville» مبادراتٌ ريفيَّة قوامُها السياحة المستدامة. دعمَ محمود لميا، السيِّدة التي حوَّلت بيتها الصغير إلى دار ضيافة تُعلِّم فيه الزوَّار أصول الطبخ اللبناني. فبعد أن طوَت لميا سنواتٍ في قطاع التدريس، ها هي تخوض تجربة من نوعٍ جديد جعلتها تحقِّق ذاتها معيشياً، وحوَّلتها إلى قدوة في قريتها. «وبذلك نكون، ومن قلب قرية بريح الصغيرة، قد نفَّذنا شعار تمكين المرأة»، كما قال محمود.

صارت لميا قدوة في قريتها بعد أن حوَّلت منزلها إلى دار للضيافة وتعليم الطبخ (إنستغرام)

أما ليلى وسجيع، اللذان تقاعدا من الوظيفة في الجامعة اللبنانية، وكادا يغرقان في إحباط التقاعد، فعادا إلى الفرح والإيجابية والتطوُّر. في بلدتهما عين وزين، حوَّلا بيتهما إلى طاولة ضيافة تعجُّ بمحبِّي الطعام العضوي التقليدي، والطبيعة اللبنانية الساحرة.

جلسة قرويَّة لبنانية بامتياز في بيت ليلى وسجيع الذي تحوَّل هو أيضاً إلى دار للضيافة (إنستغرام)

ومن بين المشاريع الرديفة والهادفة للتنمية الريفية: «مزرعة الحمير» (Donkey Farm)؛ حيث يحظى الزوَّار بفرصة الاقتراب من أحد ألطف المخلوقات والاعتناء به. ولا يقتصر الأمر على الحمار؛ بل يتعرَّف الزوَّار، كباراً وصغاراً، إلى سائر حيوانات المزرعة، كالدواجن والمواشي، كما يعتنون بالخضراوات الموسمية، ويقطفون العسل، ويقطِّرون الأعشاب؛ كل ذلك في إطار التوعية البيئية.

في «مزرعة الحمير» تتنوَّع الأنشطة ما بين التعرُّف على حيوانات المزرعة وقطف العسل (الشرق الأوسط)

ولمَن ظنُّوا أنَّ الحياة نسيَتهم، يفتح المشروع أبواب الأمل. «خالتي رهيجة» خير مثال. فالثمانينيَّة التي تصنع منذ الصغر الكانون التقليدي (أو الموقد) من مادَّة الطين، وجدت مَن يُنعش شغفها ويمنحه هوية وانتشاراً. يزورها روَّاد منطقة الباروك من ضمن جولتهم، يستمعون منها إلى حكايات القرية، ويتذوَّقون حلواها التقليدية، كما يتعلَّمون صناعة الكانون. «كانون رهيجة سافر معنا إلى إسبانيا وتونس، وعرضناه في جامعات إيطاليا، بالتعاون مع منظمات غير حكومية وهيئات تربوية»، كما أخبر محمود.

«خالتي رهيجة» المتخصصة في صناعة كانون الطين (الشرق الأوسط)

لم تنعش تلك المشاريع السياحة في المنطقة فحسب؛ بل جذَّرت مجموعة كبيرة من الأهالي في أرضهم. حتى اليوم، أمَّن مشروع سيزار محمود الإنمائي، بما انبثق عنه من مبادرات، أكثر من 70 فرصة عمل، مستقبلاً نحو 25 ألف سائح وزائر. كل ذلك إيماناً بأنَّ ثروة لبنان الريفيَّة لا تستحق المشاهَدة والتصوير فحسب، إنما يجب أن تُحصَّن بالاستدامة.


مقالات ذات صلة

صفقات عقارية مرتقبة تتجاوز 43 مليار دولار في «سيتي سكيب» بالسعودية

الاقتصاد وزير البلديات والإسكان السعودي يفتتح معرض «سيتي سكيب 2025»... (إكس)

صفقات عقارية مرتقبة تتجاوز 43 مليار دولار في «سيتي سكيب» بالسعودية

كشف وزير البلديات والإسكان السعودي، ماجد الحقيل، عن أن معرض «سيتي سكيب 2025» سيشهد توقيع اتفاقيات وصفقات عقارية بأكثر من 161 مليار ريال (43 مليار دولار).

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد رئيس اللجنة التنفيذية والرئيس التنفيذي بالإنابة لمعهد «مبادرة مستقبل الاستثمار»... (الموقع الرسمي)

السعودية تختتم مؤتمر «مستقبل الاستثمار» بإضاءة مستقبل الاقتصاد العالمي

استعرضت الجلسات الختامية للنسخة التاسعة من مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار» ملامح النمو المتسارع في قطاعات الاستثمار السعودية.

عبير حمدي (الرياض) زينب علي (الرياض)
الاقتصاد خلال تنفيذ المرحلة الأولى من أكبر مشروع تراثي وثقافي في العالم لتطوير «الدرعية التاريخية» (واس)

«الدرعية» ترسي عقداً بـ56 مليون دولار على «بارسونز» لأعمال التصميم والإشراف

فازت شركة «بارسونز»، المدرجة في بورصة نيويورك، بعقد جديد بالمرحلة الثانية من مشروع الدرعية، التابع لـ«صندوق الاستثمارات العامة» السعودي، بقيمة 210 ملايين ريال.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد الرئيس التنفيذي لشركة «إكسبو 2030 الرياض» خلال إحدى جلسات النسخة الـ9 من مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»... (الشرق الأوسط)

السعودية: البنية التحتية لـ«إكسبو 2030» تبدأ قبل نهاية العام

قال الرئيس التنفيذي لشركة «إكسبو 2030 الرياض»، طلال المري، إن العمل على البنية التحتية للمعرض سيبدأ قبل نهاية العام الحالي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
شمال افريقيا رئيس موريتانيا أكد أن الفساد يعرقل التنمية في البلاد (أ.ب)

رئيس موريتانيا يتوعد بـ«محاسبة المتورطين» في الفساد

قال الرئيس الموريتاني، محمد ولد الشيخ الغزواني، إن كل من يتورط في شبهة فساد ستطوله المحاسبة.

«الشرق الأوسط» (نواكشوط)

«مناوبة متأخرة»... فيلم ألماني يرد الاعتبار للممرضات في مهرجان «البحر الأحمر»

الفيلم يركزعلى الصعوبات التي تواجه الممرضات في عملهن (الشركة المنتجة)
الفيلم يركزعلى الصعوبات التي تواجه الممرضات في عملهن (الشركة المنتجة)
TT

«مناوبة متأخرة»... فيلم ألماني يرد الاعتبار للممرضات في مهرجان «البحر الأحمر»

الفيلم يركزعلى الصعوبات التي تواجه الممرضات في عملهن (الشركة المنتجة)
الفيلم يركزعلى الصعوبات التي تواجه الممرضات في عملهن (الشركة المنتجة)

بدت بيترا ڤولپي، مخرجة وكاتبة الفيلم الألماني - السويسري «مناوبة متأخرة»، وكأنَّها تدخل هذا المشروع وهي مُثقلة بوعيٍ طويل الأمد تجاه قطاع لا يحظى بالإنصاف الذي يستحقه، فموضوع العاملين في الرعاية الصحية كان يشغلها لسنوات، حتى قبل جائحة «كورونا». «أزمة نقص الممرّضين لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت ظاهرةً متفاقمةً في سويسرا وأوروبا والعالم»، وفق قولها.

تضيف بيترا ڤولپي لـ«الشرق الأوسط» أن احتكاكها الشخصي بالمهنة، عبر تجربة سكنها مع ممرّضة لسنوات، جعلها تشهد يومياً حجمَ الضغوط التي يعيشها العاملون في هذا القطاع الحيوي، الأمر الذي دفعها إلى التفكير في تحويل هذا الهمّ إلى مادة سينمائية.

وتتابع: «على الرغم من أن جائحة كورونا أعادت الاعتبار للممرّضين بوصفهم العمود الفقري للمجتمع، فإن العالم سرعان ما نسي تضحياتهم بمجرد انتهاء الأزمة، وهو ما أثار لديَّ شعوراً بضرورة التذكير، عبر الفن، بما يتعرَّضون له يومياً؛ لذا رأيتُ في الفيلم فرصةً للتعبير عن موقفي السياسي، وعن اهتمامي بقضايا النساء، إذ إنهنَّ يشكّلن الغالبية الساحقة من العاملين في التمريض».

وتوضح المخرجة الألمانية أن «نقطة الانطلاق الحقيقية بدأت عندما قرأتُ روايةً توثيقيةً كتبتها ممرّضة ألمانية تتناول مناوبةً واحدةً فقط ضمن واقع مرهق، وقد شعرتُ بأن سرد نقطة زمنية واحدة يمكن أن يحمل طابعاً من الإثارة والتوتر، كأنها بنية فيلم تشويقي». لكن الرواية، كما تقول، لم تكن سوى شرارة الفكرة، إذ طوّرتْ ڤولپي الحكاية من خلال بحثٍ موسّع استند إلى عشرات المقابلات مع ممرّضات، وتقصّي تفاصيل المهنة من داخل المستشفيات، ومن ثَمَّ شرعت في كتابة السيناريو الذي استغرق عاماً كاملاً، قبل أن تبدأ التصوير الذي امتد لـ26 يوماً.

مخرجة الفيلم انطلقت من تجربة شخصية (الشركة المنتجة)

وعن مرحلة الإنتاج، تشير إلى أن الأمر لم يكن معقّداً كما يحدث عادةً مع مشروعات سينمائية أخرى، إذ سارعت الجهات المموّلة في سويسرا إلى دعم الفيلم، ربما لأن موضوعه واضح وملحّ، ولأن أزمة نقص العاملين في الرعاية الصحية باتت واقعاً ملموساً للجميع. لذلك لم تواجه المخرجة صعوبات في تأمين التمويل، بخلاف كثير من المشروعات التي تتطلّب مساراً طويلاً ومعقّداً.

أمّا على مستوى الإخراج، فتصف التحدي الأكبر بأنه «كيفية تمثيل 10 ساعات من العمل المتواصل في زمن سينمائي لا يتجاوز 90 دقيقة. فقد أردتُ للمشاهد أن يعيش الإحساس نفسه الذي تعيشه الممرّضة، وأن يشعر بالإنهاك نفسه الناتج عن الدوران المستمر بين المرضى، والركض خلف التفاصيل، والاستجابة للتنبيهات المتتابعة».

ولتحقيق هذا الإحساس، اعتمد الفريق لقطات طويلة غير مقطوعة في بداية الفيلم، ما استدعى تدريبات دقيقة وتنسيقاً صارماً بين الممثلين والفريق الفني، بحيث لا يُسمح لأيِّ عنصر بأن يتعثَّر خلال الحركة المستمرة للكاميرا.

وتشدّد على أن الفيلم، الذي يُعرَض ضمن فعاليات الدورة الخامسة من مهرجان «البحر الأحمر السينمائي»، لا يُعدّ اقتباساً مباشراً من الرواية الملهمة، بل هو استلهام لطريقتها في النظر إلى المناوبة الواحدة. فجميع الشخصيات والأحداث في الفيلم متخيَّلة، لكنها مستمَدة من حوارات كثيرة أجرتها مع العاملين في القطاع، ومن تجارب شخصية عايشتها. وتضرب مثالاً على ذلك قصة المريض الذي يقلقه مصير كلبه، وهي حالة استوحتها من حياتها الخاصة بوصفها صاحبة حيوانٍ أليف.

وحين ينتقل الحوار إلى البعد الإنساني للفيلم، توضّح ڤولپي أنها أرادت تقديم صورة شاملة لواقع المرضى داخل المستشفيات، «باعتبار أن الجميع مُعرَّضون لأن يكونوا في مكانهم مهما اختلفت طبقاتهم وأعمارهم وثقافاتهم. فالفيلم يعرض نماذج لشبابٍ وشيوخ ومرضى بحالات متفاوتة، في محاولة لعكس مجتمعٍ كامل داخل جناح واحد».

الفيلم يبرز جوانب تفصيلية في حياة الممرضات (الشركة المنتجة)

الأهم، من وجهة نظر المخرجة السينمائية، هو إبراز التعقيد النفسي والوجداني في مهنة التمريض؛ فالممرّضة ليست مسؤولةً فقط عن حالة طبية، بل مطالَبة بفهم ما يحتاج إليه كل مريض بوصفه إنساناً: هل يحتاج إلى دعم، أو كلمة طمأنة، أو لحظة صمت، أو لمسة حنان؟ هذا البعد، في رأيها، هو ما يجعل المهنة أكثر تعقيداً مما يظنه الجمهور.

وعن المقارنات التي يطرحها النقّاد بين فيلمها والمسلسلات الطبية التقليدية، ترى ڤولپي أن أغلب الأعمال التي تتناول بيئة المستشفيات تُقدِّم الأطباء بوصفهم الأبطال المركزيين، في حين يختفي دور الممرّض في الخلفية، رغم أنه الأقرب إلى المريض والأقدر على قراءة التحوّلات الدقيقة في حالته. لذلك حرصت على قلب هذا المنظور تماماً، فجعلت الممرّضة محور الحكاية، لا بوصفها بطلة خارقة، بل لكونها الإنسان الأكثر حضوراً وتأثيراً في مسار العلاج.

وتعود لتؤكّد أن اهتمامها بقضايا النساء حاضرٌ في كل عمل تقدّمه، «لأن التمريض مهنة تعتمد في الأساس على النساء، ومع ذلك لا يحظين فيها بما يليق من تقدير أو مكانة، سواء اجتماعياً أو مؤسّساتياً». ومن هنا جاء سعيها لتسليط الضوء على هذا التناقض، وعلى الجهد الهائل الذي تبذله ملايين النساء حول العالم من دون الاعتراف الكافي بقيمتهنّ الحقيقية.


من «المنطقة المميتة» إلى شاشات جدة... حين تتحوَّل القمم إلى مرآة للإنسان

بوستر الوثائقي السعودي «سبع قمم» (الشرق الأوسط)
بوستر الوثائقي السعودي «سبع قمم» (الشرق الأوسط)
TT

من «المنطقة المميتة» إلى شاشات جدة... حين تتحوَّل القمم إلى مرآة للإنسان

بوستر الوثائقي السعودي «سبع قمم» (الشرق الأوسط)
بوستر الوثائقي السعودي «سبع قمم» (الشرق الأوسط)

على امتداد 7 سنوات، عَبَر السعودي بدر الشيباني قارات العالم الـ7 ليعتلي أعلى قممها، لكنّ الفيلم الذي وصل إلى مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لم يكن روايةً عن الارتفاع الجغرافي بقدر ما كان رحلةً داخليةً نحو أكثر مناطق الذات عزلةً وصدقاً. هكذا قدَّم وثائقي «سبع قمم» سيرة رجل فَقَد ملامح المدير التنفيذي عند «المنطقة المميتة» في «إيفرست»، ليبقى أمام عدسة الكاميرا إنساناً يسأل نفسه: لماذا أواصل؟

بين رؤية المتسلّق، وصنعة المخرج أمير كريم، جاءت الحكاية بلغة سينمائية تمزج الثلج الذي يغطي العدسة بأنفاس ترتجف فوق ارتفاعات الموت، وبسكون البيوت السعودية التي عادت لتُفسّر دوافع المُغامِر حين يعود من القمم إلى العائلة.

قصة لا تُروى من القمة فقط

يقول بدر الشيباني لـ«الشرق الأوسط» إنّ اللحظة الفاصلة وقعت عند أحد المخيمات المرتفعة في «إيفرست». هناك، حين كان الأكسجين شحيحاً وصوت الريح أعلى من دقات القلب، اكتشف أنّ «ما يحدث داخلي أهم مما يحدث حولي». تلك اللحظة، كما يصف، «حوَّلت الرحلة من إنجاز رياضي إلى مشروع إنساني يستحق أن يُروى للعالم».

في الوثائق التي سجَّلها بنفسه، يظهر صوت متقطّع من البرد، وعدسة تُبللها الثلوج، ويد ترتجف وهي تثبّت الحبل قبل الخطوة التالية. لكن بدر يعترف: «كنت أظن أنّ الهدف هو الوصول إلى القمة، ثم اكتشفتُ أن القمة الحقيقية كانت داخلي». هذه اللقطات الخام التي لم تُصنع لأجل السينما بل لأجل النجاة، أصبحت أساس الفيلم، ومرآته الأصدق.

الجبال ليست قمماً بل مسرح للتحوّل الإنساني

حين تسلم المخرج أمير كريم المواد الأولى للقمم التي صوَّرها الشيباني، وجد نفسه أمام صعوبة من نوع مختلف. فاللقطات ليست مأخوذة بكاميرات سينمائية ولا بإضاءة مدروسة؛ إنها لحظات حقيقية لم تعد بالإمكان إعادة تمثيلها. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «لم أتعامل مع الفيلم على أنه مغامرة جغرافية، بل رحلة نفسية يسأل فيها بدر نفسه: مَن أنا؟ ولماذا أواصل؟ الجبال بالنسبة إليّ ليست قمماً، بل مسرح يتحوَّل فيه الإنسان».

ويضيف أن أصعب تحدٍّ لم يكن في البيئات الخطرة كما يُعتقد، بل في بناء جسر بصري بين عالمين: عزلة الجبال القاسية، ودفء البيت السعودي مع العائلة.

فرؤية المخرج اعتمدت على مفارقة مقصودة: الجبال خشنة، غير مصقولة، تترك المُشاهِد يشعر بالبرد والعزلة، والمَشاهِد المحلية دافئة، حميمة، تكشف عن الدوافع والإنسان خارج المغامرة.

يقول أمير: «تركت للجبال خشونتها، وللبيت دفئه. وهذه المفارقة هي روح الفيلم وخلاصته الدرامية».

متسلّق الجبال السعودي بدر الشيباني وعودة الروح إلى نقطة البدء (الشرق الأوسط)

لحظة مواجهة الذات في «المنطقة المميتة»

يتّفق كلّ من الشيباني والمخرج على أنّ المشهد المفصلي في الفيلم هو لحظة الصمت على ارتفاع يفوق 8 آلاف متر فوق سطح البحر، في «المنطقة المميتة» لـ«إيفرست»، خلال رحلة استغرقت 38 يوماً من الصعود.

هناك، كما يروي أمير، «تختفي ملامح المدير والقائد، ويظل الإنسان وحده أمام قراره: التراجع أو المضي قدماً». هذا المشهد لا يروي صراعاً مع الطبيعة فقط، بل يكشف الصراع البشري الداخلي: حين يصبح الانتصار الحقيقي هو رفض الاستسلام.

القصة السعودية خلف القمة

يُقدِّم الشيباني عبر الفيلم صورة أوسع من تجربة فردية؛ إنها كما يقول رمز للتجربة السعودية الجديدة. فالقيم التي حملته بين القارات الـ7، من الانضباط إلى الصبر وإدارة الخوف، ليست حكايته وحده، بل انعكاس لرحلة مجتمع كامل يُعيد تعريف طموحه.

يُعلّق كريم: «قصة بدر ليست عن الجبال فقط، بل عن الإنسان السعودي الذي يتخطَّى الحدود التقليدية ليصنع مستقبله».

أما الجوانب الخفية التي عمل المخرج على إبرازها، فهي لحظات الشكّ والتعب والخوف، تلك التي كان يُخفيها المُغامِر خلف الشخصية القوية. وقد ظهر بدر أمام الكاميرا شخصاً يبحث عن ذاته بقدر بحثه عن القمة.

قيمة فكرية تتجاوز التوثيق

يرى الشيباني أنّ الفيلم يتجاوز التوثيق البصري نحو «رحلة تحوّل ذهني وروحي». العزلة في الجبال حرّرته من ضجيج الحياة، ودفعته إلى التأمُّل وإعادة ترتيب حياته.

الفيلم، كما يشرح، يدعو المُشاهدين إلى اختبار حدودهم العقلية والجسدية، ويضعهم أمام سؤال: ما الذي يمكن أن يحدث عندما نخرج من منطقة الراحة؟ ويؤكد أن عرضه في مهرجان «البحر الأحمر» ليس مجرد مشاركة سينمائية، بل رسالة بأن السعودية الجديدة تحتفي بقصص أبنائها وتضع الإنسان في قلب تحوّلها الثقافي.

بين الدبلوماسية الثقافية وصناعة الفرص

يرى الشيباني، بخبرة رائد أعمال، أن الفيلم الوثائقي ليس مجرّد فنّ، بل أصل استثماري يُعزّز رواية المملكة دولياً. ويعتقد أنّ قوة الوثائقيات تتجاوز الحملات التقليدية لأنها تعتمد على السرد الواقعي العميق.

كما يشير إلى أنّ محتوى مثل «سبع قمم» يمكن أن يتحوَّل إلى نماذج أعمال في سياحة المغامرات والتدريب القيادي، وأيضاً المحتوى التعليمي والصناعات الإبداعية. وهو ما ينسجم مع أهداف «رؤية 2030» في تحويل القصص المحلّية إلى قيمة اقتصادية عالمية. «سبع قمم» ليس فيلماً عن الارتفاعات الشاهقة، بل عن الأعماق الإنسانية. وليس عن الوصول إلى القمة، بل عن القوة الذهنية التي تمنع السقوط. إنه عمل يعكس اللحظة السعودية الراهنة: وطن يواجه قممه الخاصة، ويصعد درجاتها بثقة، بحثاً عن نسخة أوضح وأقوى من ذاته.


في حفل استعراضي صُمم خصيصاً له... ترمب يحضر قرعة كأس العالم

عامل نظافة ينظّف السجادة الحمراء بجوار لافتة كُتب عليها: «قرعة كأس العالم 2026» في مركز كيندي بواشنطن (د.ب.أ)
عامل نظافة ينظّف السجادة الحمراء بجوار لافتة كُتب عليها: «قرعة كأس العالم 2026» في مركز كيندي بواشنطن (د.ب.أ)
TT

في حفل استعراضي صُمم خصيصاً له... ترمب يحضر قرعة كأس العالم

عامل نظافة ينظّف السجادة الحمراء بجوار لافتة كُتب عليها: «قرعة كأس العالم 2026» في مركز كيندي بواشنطن (د.ب.أ)
عامل نظافة ينظّف السجادة الحمراء بجوار لافتة كُتب عليها: «قرعة كأس العالم 2026» في مركز كيندي بواشنطن (د.ب.أ)

سيحضر الرئيس الأميركي دونالد ترمب قرعة كأس العالم لكرة القدم اليوم (الجمعة)، في حفل مليء بالاحتفالات والاستعراضات والعروض الباذخة التي تليق بـ«فنان الاستعراض».

ويقام هذا الحدث في «مركز كيندي» بواشنطن، الذي تولى ترمب رئاسته في وقت سابق من هذا العام، في حين قام بتنصيب رئيس ومجلس إدارة جديدين.

وحضور ترمب قرعة كأس العالم يضعه في صدارة المشهد خلال واحد من أبرز الأحداث الرياضية على الإطلاق؛ إذ يبدو أن منظمي الحفل أخذوه في الاعتبار منذ مرحلة التخطيط لهذا الحدث.

وستؤدي فرقة «فيلدج بيبول» أغنيتها الشهيرة «واي إم سي إيه» التي أصبحت عنصراً أساسياً في تجمعات حملة ترمب الانتخابية، وحفلات جمع التبرعات في مارالاغو، حيث شوهد الرئيس السابق يرقص على أنغامها، في حين يخطط الاتحاد الدولي (الفيفا) للكشف عن «جائزة السلام» الخاصة به.

وقام ترمب بحملة علنية للحصول على جائزة «نوبل للسلام»، مستشهداً بمشاركته في إنهاء صراعات متعددة في الخارج، وأسفرت هذه الجهود عن نتائج متباينة.

ومن المقرر أيضاً أن يقدم مغني الأوبرا الشهير أندريا بوتشيلي عرضاً اليوم، وكذلك نجم البوب البريطاني روبي وليامز، وسفيرة الموسيقى في «الفيفا» المغنية الأميركية نيكول شيرزينغر.

واستغل ترمب مراراً امتيازات الرئاسة ليشارك في فعاليات رياضية وثقافية كبرى هذا العام. وحضر نهائي السوبر بول في فبراير (شباط)، وسط هتافات وصيحات استهجان من الجمهور، ويعتزم يوم الأحد حضور حفل تكريم «مركز كيندي»، الذي تجنبه خلال ولايته الأولى.

وستبرز الجغرافيا السياسية في نهائيات كأس العالم؛ إذ يشارك وفد إيراني في مراسم القرعة بعد أن كان أعلن سابقاً مقاطعة الحفل بسبب مشاكل في التأشيرات، وفقاً لتقارير إعلامية. ويأتي ذلك في ظل توتر العلاقات بعد أن قصفت الولايات المتحدة مواقع نووية إيرانية في يونيو (حزيران) الماضي.