طموحات لبنانية وفلسطينية وعراقيل إسرائيلية

طموحات لبنانية وفلسطينية وعراقيل إسرائيلية
TT

طموحات لبنانية وفلسطينية وعراقيل إسرائيلية

طموحات لبنانية وفلسطينية وعراقيل إسرائيلية

تاريخياً، بدأت أول أعمال استكشافية في حوض شرق المتوسط خلال النصف الثاني من عقد الثمانينات في مصر بعدما قررت السلطات البترولية المصرية مساواة التعامل بالاكتشافات الغازية بالاكتشافات النفطية، بمعنى منح الشركات العاملة نفس الامتيازات لاكتشاف الغاز كما لاكتشاف النفط.
وكانت حتى عقد السبعينات للقرن الماضي، تغلق فوهة البئر عند اكتشاف الغاز لعدم توفر الطلب على الغاز بشكل كاف حتى تلك الفترة. لكن تدريجيا ومع ارتفاع أسعار النفط منذ أوائل عقد السبعينات، ازداد استهلاك الغاز ليصبح الوقود المفضل في توليد الكهرباء والصناعات البتروكيماوية والثقيلة وتعاظم الطلب على الغاز نظرا لانخفاض نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون منه مقارنة بالانبعاثات من النفط. وازداد بشكل مضطرد الطلب عليه عالميا، وبالذات في مصر، حيث تشكل محطات الكهرباء التي تستعمل الغاز نحو 85 في المائة من محطات الكهرباء اليوم في مصر.
واستطاعت مصر استقطاب كبرى شركات البترول العالمية في صناعتها الغازية، مثل «شل» و«إيني» و«توتال» و«بريتش بتروليوم» و«بريتش غاز» هذا عدا العديد من الشركات البترولية الأصغر حجما. واهتمت شركات البترول بمصر لأسباب عدة، بينها: تاريخ الاستكشافات في أرضها ومياهها الواسعة وعقودها الاستكشافية والتطويرية، وتوفر يدا عاملة ماهرة محلية، هذا ناهيك عن سوقها المحلية التي تضم نحو مائة مليون نسمة. واستطاعت مصر قبل غيرها من الدول العربية مد أنابيب الغاز للاستهلاك المنزلي، بالإضافة طبعا إلى المصانع ومحطات الكهرباء. واستطاعت الشركات العالمية اكتشاف حقول غازية ضخمة في المناطق الاقتصادية الخالصة المصرية، حيث اكتشفت شركة «إيني» حقل «ظهر» العملاق في صيف 2015 وهو أكبر حقل غازي في البحر المتوسط تم اكتشافه حتى الآن. وساعد اكتشاف هذا الحقل العملاق بالذات، بالإضافة إلى الحقول البحرية الأخرى في تمكن مصر من الاكتفاء الذاتي الداخلي من الغاز الطبيعي ولو لسنوات محدودة (حتى عام 2025 تقريبا)، ومن ثم يتوجب اكتشاف حقول جديدة لملاءمة الطلب المتزايد على الغاز وتعويض ما يتم إنتاجه. هذا طبعا بالإضافة إلى الزيادة العالية لعدد السكان المحلي الذي يزداد حوالي 5 في المائة سنويا. يعني هذا أنه يتوجب على مصر الاستمرار في عمليات الاستكشاف البحرية (شرق المتوسط ودلتا النيل والبحر الأحمر) واليابسة (الصحراء الغربية). كما يتوجب على مصر إعادة النظر بشكل كامل بسياسة تصدير الغاز. وبالفعل تستمر مصر في إضافة قطع جديدة للاستكشاف سنويا.
- عراقيل إسرائيلية
أدى نجاح مصر الاستكشافي في منطقتها الاقتصادية الخالصة شمال الإسكندرية وبورسعيد إلى تشجيع الدول القريبة منها للاستكشاف في المنطقة الجيولوجية «دلتا النيل»، فبادرت السلطة الفلسطينية في 1999 بالتوقيع على عقد حصري مع شركة «بريتش غاز» للاستكشاف والتنقيب عن البترول في مياه غزة. وانضمت كل من «شركة اتحاد المقاولات» (مقرها في أثينا) وصندوق الاستثمار الفلسطيني، شريك «بريتش غاز» التي اكتشفت حقل «غزة مارين» البحري في عام 2000، ويبلغ الاحتياطي المؤكد للحقل حوالي 1.50 مليار متر مكعب من الغاز. ورغم أن هذا الاحتياطي يعتبر محدودا نسبيا، فإنه يفي الطلب المحدود في نفس الوقت لكل من قطاع غزة والضفة الغربية. وعند البدء بتطوير الحقل استعدادا للإنتاج، تمنعت إسرائيل عن إعطاء الموافقة ولا يزال الحقل دون تطوير حتى يومنا هذا. وبعد فترة، قررت شركة «بريتش غاز» بيع أصولها وممتلكاتها العالمية لشركة «رويال داتش شل». وشملت عملية البيع ونقل الممتلكات هذه حقل «غزة مارين»، لكن «شل» قررت رغم شرائها للحقل، تحويل ملكيته لشركة أخرى. ولا تزال عملية تحويل الملكية من «شل» هذه جارية حتى يومنا هذا، وإسرائيل تخلق العراقيل المتواصلة أمام تطوير الحقل والبدء بالإنتاج.
- حدود بحرية
تبنت كل من قبرص ولبنان سياسات لاكتشاف البترول على أثر الاكتشافات في المناطق المجاورة. فبادرت قبرص برسم حدودها البحرية مع مصر ولبنان وإسرائيل. وعند محاولة رسم الحدود مع لبنان برزت مشكلة رسم الحدود شمالا (مع سوريا) وجنوبا (مع إسرائيل)، إذ إن الحدود البحرية بين لبنان وسوريا غير مرسومة، بناء على قرار دمشق. أما بالنسبة للحدود مع إسرائيل، فبما أن لبنان في حالة حرب مع إسرائيل، فمن غير الممكن للمفاوض اللبناني الجلوس على طاولة مشتركة مع إسرائيل.
ومن ثم، تم رسم الحدود اللبنانية - القبرصية بطريقة غير نهائية، مع النص في الاتفاقية الحدودية هذه أنه لا يحق لأي من الطرفين (اللبناني أو القبرصي) الاتفاق مع طرف ثالث دون الحصول على موافقة مسبقة من الطرف الآخر (اللبناني أو القبرصي). وفي نفس الوقت، أرسلت الحكومة اللبنانية مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة توثق فيها حدودها البحرية حسب الاتفاقات والأعراف الدولية، لكن اتفقت قبرص وإسرائيل على حدود بحرية مشتركة بينهما، ما أدى إلى وضع إسرائيل اليد على مساحة كبيرة من القطع اللبنانية الجنوبية البحرية 8 و9 و10. وبادرت الولايات المتحدة إلى الوساطة بين بيروت وتل أبيب لحل المشكلة، بعد أن اعتذر الأمين العام للأمم المتحدة عن ذلك. ولا تزال هذه الوساطة جارية، مع مؤشرات وتصريحات من بعض المسؤولين المشاركين في الوساطة الدبلوماسية لحل المشكلة قريبا رغم النزاعات السياسية الداخلية في لبنان. والمسؤول عن ملف المفاوضات من الجانب اللبناني رئيس مجلس النواب نبيه بري ومن الجانب الأميركي وزارة الخارجية.
وبادرت كل من لبنان وقبرص إلى تقسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منهما إلى قطع بحرية. فقسم لبنان منطقته إلى 10 قطع، تم حتى الآن حفر بئر واحدة من قبل كونسورتيوم تقوده «توتال» وعثر على شواهد غازية، لكن ليس المكمن في قطعة رقم 4 في المياه الشمالية. ومن المفروض أن يحفر الكونسورتيوم بقيادة «توتال» أيضا في القطعة رقم 9 في المياه الجنوبية مقابل ساحل صور في الجنوب قبل نهاية العام، والقطع الجنوبية منطقة موعودة نظرا لطبيعتها الجيولوجية.
كما بادرت قبرص، رغم التهديدات التركية المستمرة، في تنفيذ برنامج استكشافي طموح اجتذب اهتمام ومشاركة عدد من كبرى الشركات النفطية العالمية (توتال وإيني وإكسون موبيل وقطر بتروليوم ونوبل إينرجي). وتم اكتشاف حقل «أفروديت» باحتياطي نحو 5 مليارات متر مكعب غازي، هذا بالإضافة إلى عدة حقول أخرى.
وتبنت مصر سياسة غاز جديدة بعد السياسات السابقة خلال عامي 2011 و2012 عندما لم تستطع الحكومة تلبية التزاماتها لتوفير الإمدادات لكل من السوق المحلية والتزامات التصدير عبر خط الغاز العربي لكل من الأردن وسوريا ومن خلال محطتي تسييل الغاز على ساحل البحر المتوسط لتصدير الغاز المسال إلى السوق الأوروبية. وقد أعطيت الأولوية الآن لاستعمال الإنتاج الغازي المحلي للاكتفاء الداخلي، بالذات بعد اكتشاف حقل «ظهر» في عام 2015 وبدء الإنتاج منه بوقت قياسي في عام 2017.
أما بالنسبة للتصدير، فأعطت الأولوية لتصدير الغاز المسال من مصنعي دمياط وإدكو (وهما الوحيدان لتسييل الغاز في شرق المتوسط حتى الآن) ما يوفر لمصر موقعا تنافسيا مميزا في المنطقة، إذ يعطيها الفرصة لتصدير الغاز للسوق الأوروبية بشحنه في بواخر مخصصة لنقل الغاز المسال، دون الاعتماد كليا على تشييد الأنابيب لنقل الغاز عبر المتوسط إلى الساحل الجنوبي لأوروبا . وبالاعتماد على مصنعي دمياط وإدكو تستطيع مصر أن تفي بتعهداتها للشركات الأوروبية في تصدير الغاز بعد أن توقفت عن ذلك منذ بداية هذا العقد وما خلفه هذا من التزامات مالية باهظة.
لكن، ومن أجل تغذية المصنعين بالغاز، اتفقت مصر مع كل من إسرائيل وقبرص لتزويدها بالإمدادات الغازية اللازمة التي ستعيد مصر تصديرها كغاز مسال، هذا بالإضافة إلى كميات محدودة جدا من الغاز المصري. وبهذا تكون مصر قد أعادت تشغيل المصنعين ووفت باتفاقاتها الدولية، والتزمت أيضا باستعمال معظم الإنتاج الداخلي لاستهلاك السوق المحلية. أما بالنسبة لخط الغاز العربي، والمفروض أن يمتد إلى تركيا ثم تصدير الغاز منه عبر أنابيب التصدير المتوفرة لنقل الغاز عبر تركيا إلى السوق الأوروبية، فقد توقف تشييد الخط في وسط غرب سوريا بسبب الحرب. ولا يتوقع تبني سياسة محددة بشأن الخط في القريب العاجل.


مقالات ذات صلة

تركيا تندد باتفاق دفاعي بين واشنطن ونيقوسيا يتجاهل القبارصة الأتراك

شؤون إقليمية قبرص كشفت في يوليو الماضي عن إنشاء قاعدة جوية أميركية قرب لارنكا (وسائل إعلام تركية)

تركيا تندد باتفاق دفاعي بين واشنطن ونيقوسيا يتجاهل القبارصة الأتراك

نددت تركيا بتوقيع الولايات المتحدة اتفاقية خريطة طريق لتعزيز التعاون الدفاعي مع جمهورية قبرص، ورأت أنه يُخلّ بالاستقرار الإقليمي ويُصعِّب حل القضية القبرصية.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية إردوغان استقبل السيسي بحفاوة خلال زيارته أنقرة الأربعاء (الرئاسة التركية)

أصداء واسعة لزيارة السيسي الأولى لتركيا

تتواصل أصداء الزيارة الأولى للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لأنقرة، في وسائل الإعلام وعبر منصات التواصل الاجتماعي في تركيا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الاقتصاد حقل «أفروديت» البحري للغاز (أ.ف.ب)

خطة لتطوير حقل الغاز القبرصي «أفروديت» بـ4 مليارات دولار

قالت شركة «نيوميد إنرجي» الإسرائيلية، إن الشركاء بحقل «أفروديت» البحري للغاز الطبيعي، قدموا خطة للحكومة القبرصية لتطوير المشروع بتكلفة تبلغ 4 مليارات دولار.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شؤون إقليمية ترقب واسع في تركيا لزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (أ.ف.ب)

لماذا استبقت «الإخوان» زيارة السيسي لتركيا بمبادرة جديدة لطلب العفو؟

استبقت جماعة «الإخوان المسلمين»، المحظورة، زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المرتقبة لتركيا بمبادرة جديدة للتصالح وطلب العفو من الدولة المصرية.

سعيد عبد الرازق (أنقرة:)
المشرق العربي مسؤولون لبنانيون على متن منصة الحفر «ترانس أوشن بارنتس» خلال عملها في البلوك رقم 9... أغسطس 2023 (رويترز)

حرب الجنوب تُعلّق النشاط الاستكشافي للنفط بمياه لبنان الاقتصادية

تضافر عاملان أسهما في تعليق نشاط التنقيب عن النفط والغاز في لبنان؛ تَمثّل الأول في حرب غزة وتداعياتها على جبهة الجنوب، والآخر بنتائج الحفر في «بلوك 9».

نذير رضا (بيروت)

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.