طموحات لبنانية وفلسطينية وعراقيل إسرائيلية

طموحات لبنانية وفلسطينية وعراقيل إسرائيلية
TT

طموحات لبنانية وفلسطينية وعراقيل إسرائيلية

طموحات لبنانية وفلسطينية وعراقيل إسرائيلية

تاريخياً، بدأت أول أعمال استكشافية في حوض شرق المتوسط خلال النصف الثاني من عقد الثمانينات في مصر بعدما قررت السلطات البترولية المصرية مساواة التعامل بالاكتشافات الغازية بالاكتشافات النفطية، بمعنى منح الشركات العاملة نفس الامتيازات لاكتشاف الغاز كما لاكتشاف النفط.
وكانت حتى عقد السبعينات للقرن الماضي، تغلق فوهة البئر عند اكتشاف الغاز لعدم توفر الطلب على الغاز بشكل كاف حتى تلك الفترة. لكن تدريجيا ومع ارتفاع أسعار النفط منذ أوائل عقد السبعينات، ازداد استهلاك الغاز ليصبح الوقود المفضل في توليد الكهرباء والصناعات البتروكيماوية والثقيلة وتعاظم الطلب على الغاز نظرا لانخفاض نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون منه مقارنة بالانبعاثات من النفط. وازداد بشكل مضطرد الطلب عليه عالميا، وبالذات في مصر، حيث تشكل محطات الكهرباء التي تستعمل الغاز نحو 85 في المائة من محطات الكهرباء اليوم في مصر.
واستطاعت مصر استقطاب كبرى شركات البترول العالمية في صناعتها الغازية، مثل «شل» و«إيني» و«توتال» و«بريتش بتروليوم» و«بريتش غاز» هذا عدا العديد من الشركات البترولية الأصغر حجما. واهتمت شركات البترول بمصر لأسباب عدة، بينها: تاريخ الاستكشافات في أرضها ومياهها الواسعة وعقودها الاستكشافية والتطويرية، وتوفر يدا عاملة ماهرة محلية، هذا ناهيك عن سوقها المحلية التي تضم نحو مائة مليون نسمة. واستطاعت مصر قبل غيرها من الدول العربية مد أنابيب الغاز للاستهلاك المنزلي، بالإضافة طبعا إلى المصانع ومحطات الكهرباء. واستطاعت الشركات العالمية اكتشاف حقول غازية ضخمة في المناطق الاقتصادية الخالصة المصرية، حيث اكتشفت شركة «إيني» حقل «ظهر» العملاق في صيف 2015 وهو أكبر حقل غازي في البحر المتوسط تم اكتشافه حتى الآن. وساعد اكتشاف هذا الحقل العملاق بالذات، بالإضافة إلى الحقول البحرية الأخرى في تمكن مصر من الاكتفاء الذاتي الداخلي من الغاز الطبيعي ولو لسنوات محدودة (حتى عام 2025 تقريبا)، ومن ثم يتوجب اكتشاف حقول جديدة لملاءمة الطلب المتزايد على الغاز وتعويض ما يتم إنتاجه. هذا طبعا بالإضافة إلى الزيادة العالية لعدد السكان المحلي الذي يزداد حوالي 5 في المائة سنويا. يعني هذا أنه يتوجب على مصر الاستمرار في عمليات الاستكشاف البحرية (شرق المتوسط ودلتا النيل والبحر الأحمر) واليابسة (الصحراء الغربية). كما يتوجب على مصر إعادة النظر بشكل كامل بسياسة تصدير الغاز. وبالفعل تستمر مصر في إضافة قطع جديدة للاستكشاف سنويا.
- عراقيل إسرائيلية
أدى نجاح مصر الاستكشافي في منطقتها الاقتصادية الخالصة شمال الإسكندرية وبورسعيد إلى تشجيع الدول القريبة منها للاستكشاف في المنطقة الجيولوجية «دلتا النيل»، فبادرت السلطة الفلسطينية في 1999 بالتوقيع على عقد حصري مع شركة «بريتش غاز» للاستكشاف والتنقيب عن البترول في مياه غزة. وانضمت كل من «شركة اتحاد المقاولات» (مقرها في أثينا) وصندوق الاستثمار الفلسطيني، شريك «بريتش غاز» التي اكتشفت حقل «غزة مارين» البحري في عام 2000، ويبلغ الاحتياطي المؤكد للحقل حوالي 1.50 مليار متر مكعب من الغاز. ورغم أن هذا الاحتياطي يعتبر محدودا نسبيا، فإنه يفي الطلب المحدود في نفس الوقت لكل من قطاع غزة والضفة الغربية. وعند البدء بتطوير الحقل استعدادا للإنتاج، تمنعت إسرائيل عن إعطاء الموافقة ولا يزال الحقل دون تطوير حتى يومنا هذا. وبعد فترة، قررت شركة «بريتش غاز» بيع أصولها وممتلكاتها العالمية لشركة «رويال داتش شل». وشملت عملية البيع ونقل الممتلكات هذه حقل «غزة مارين»، لكن «شل» قررت رغم شرائها للحقل، تحويل ملكيته لشركة أخرى. ولا تزال عملية تحويل الملكية من «شل» هذه جارية حتى يومنا هذا، وإسرائيل تخلق العراقيل المتواصلة أمام تطوير الحقل والبدء بالإنتاج.
- حدود بحرية
تبنت كل من قبرص ولبنان سياسات لاكتشاف البترول على أثر الاكتشافات في المناطق المجاورة. فبادرت قبرص برسم حدودها البحرية مع مصر ولبنان وإسرائيل. وعند محاولة رسم الحدود مع لبنان برزت مشكلة رسم الحدود شمالا (مع سوريا) وجنوبا (مع إسرائيل)، إذ إن الحدود البحرية بين لبنان وسوريا غير مرسومة، بناء على قرار دمشق. أما بالنسبة للحدود مع إسرائيل، فبما أن لبنان في حالة حرب مع إسرائيل، فمن غير الممكن للمفاوض اللبناني الجلوس على طاولة مشتركة مع إسرائيل.
ومن ثم، تم رسم الحدود اللبنانية - القبرصية بطريقة غير نهائية، مع النص في الاتفاقية الحدودية هذه أنه لا يحق لأي من الطرفين (اللبناني أو القبرصي) الاتفاق مع طرف ثالث دون الحصول على موافقة مسبقة من الطرف الآخر (اللبناني أو القبرصي). وفي نفس الوقت، أرسلت الحكومة اللبنانية مذكرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة توثق فيها حدودها البحرية حسب الاتفاقات والأعراف الدولية، لكن اتفقت قبرص وإسرائيل على حدود بحرية مشتركة بينهما، ما أدى إلى وضع إسرائيل اليد على مساحة كبيرة من القطع اللبنانية الجنوبية البحرية 8 و9 و10. وبادرت الولايات المتحدة إلى الوساطة بين بيروت وتل أبيب لحل المشكلة، بعد أن اعتذر الأمين العام للأمم المتحدة عن ذلك. ولا تزال هذه الوساطة جارية، مع مؤشرات وتصريحات من بعض المسؤولين المشاركين في الوساطة الدبلوماسية لحل المشكلة قريبا رغم النزاعات السياسية الداخلية في لبنان. والمسؤول عن ملف المفاوضات من الجانب اللبناني رئيس مجلس النواب نبيه بري ومن الجانب الأميركي وزارة الخارجية.
وبادرت كل من لبنان وقبرص إلى تقسيم المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منهما إلى قطع بحرية. فقسم لبنان منطقته إلى 10 قطع، تم حتى الآن حفر بئر واحدة من قبل كونسورتيوم تقوده «توتال» وعثر على شواهد غازية، لكن ليس المكمن في قطعة رقم 4 في المياه الشمالية. ومن المفروض أن يحفر الكونسورتيوم بقيادة «توتال» أيضا في القطعة رقم 9 في المياه الجنوبية مقابل ساحل صور في الجنوب قبل نهاية العام، والقطع الجنوبية منطقة موعودة نظرا لطبيعتها الجيولوجية.
كما بادرت قبرص، رغم التهديدات التركية المستمرة، في تنفيذ برنامج استكشافي طموح اجتذب اهتمام ومشاركة عدد من كبرى الشركات النفطية العالمية (توتال وإيني وإكسون موبيل وقطر بتروليوم ونوبل إينرجي). وتم اكتشاف حقل «أفروديت» باحتياطي نحو 5 مليارات متر مكعب غازي، هذا بالإضافة إلى عدة حقول أخرى.
وتبنت مصر سياسة غاز جديدة بعد السياسات السابقة خلال عامي 2011 و2012 عندما لم تستطع الحكومة تلبية التزاماتها لتوفير الإمدادات لكل من السوق المحلية والتزامات التصدير عبر خط الغاز العربي لكل من الأردن وسوريا ومن خلال محطتي تسييل الغاز على ساحل البحر المتوسط لتصدير الغاز المسال إلى السوق الأوروبية. وقد أعطيت الأولوية الآن لاستعمال الإنتاج الغازي المحلي للاكتفاء الداخلي، بالذات بعد اكتشاف حقل «ظهر» في عام 2015 وبدء الإنتاج منه بوقت قياسي في عام 2017.
أما بالنسبة للتصدير، فأعطت الأولوية لتصدير الغاز المسال من مصنعي دمياط وإدكو (وهما الوحيدان لتسييل الغاز في شرق المتوسط حتى الآن) ما يوفر لمصر موقعا تنافسيا مميزا في المنطقة، إذ يعطيها الفرصة لتصدير الغاز للسوق الأوروبية بشحنه في بواخر مخصصة لنقل الغاز المسال، دون الاعتماد كليا على تشييد الأنابيب لنقل الغاز عبر المتوسط إلى الساحل الجنوبي لأوروبا . وبالاعتماد على مصنعي دمياط وإدكو تستطيع مصر أن تفي بتعهداتها للشركات الأوروبية في تصدير الغاز بعد أن توقفت عن ذلك منذ بداية هذا العقد وما خلفه هذا من التزامات مالية باهظة.
لكن، ومن أجل تغذية المصنعين بالغاز، اتفقت مصر مع كل من إسرائيل وقبرص لتزويدها بالإمدادات الغازية اللازمة التي ستعيد مصر تصديرها كغاز مسال، هذا بالإضافة إلى كميات محدودة جدا من الغاز المصري. وبهذا تكون مصر قد أعادت تشغيل المصنعين ووفت باتفاقاتها الدولية، والتزمت أيضا باستعمال معظم الإنتاج الداخلي لاستهلاك السوق المحلية. أما بالنسبة لخط الغاز العربي، والمفروض أن يمتد إلى تركيا ثم تصدير الغاز منه عبر أنابيب التصدير المتوفرة لنقل الغاز عبر تركيا إلى السوق الأوروبية، فقد توقف تشييد الخط في وسط غرب سوريا بسبب الحرب. ولا يتوقع تبني سياسة محددة بشأن الخط في القريب العاجل.


مقالات ذات صلة

تركيا تندد باتفاق دفاعي بين واشنطن ونيقوسيا يتجاهل القبارصة الأتراك

شؤون إقليمية قبرص كشفت في يوليو الماضي عن إنشاء قاعدة جوية أميركية قرب لارنكا (وسائل إعلام تركية)

تركيا تندد باتفاق دفاعي بين واشنطن ونيقوسيا يتجاهل القبارصة الأتراك

نددت تركيا بتوقيع الولايات المتحدة اتفاقية خريطة طريق لتعزيز التعاون الدفاعي مع جمهورية قبرص، ورأت أنه يُخلّ بالاستقرار الإقليمي ويُصعِّب حل القضية القبرصية.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية إردوغان استقبل السيسي بحفاوة خلال زيارته أنقرة الأربعاء (الرئاسة التركية)

أصداء واسعة لزيارة السيسي الأولى لتركيا

تتواصل أصداء الزيارة الأولى للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لأنقرة، في وسائل الإعلام وعبر منصات التواصل الاجتماعي في تركيا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الاقتصاد حقل «أفروديت» البحري للغاز (أ.ف.ب)

خطة لتطوير حقل الغاز القبرصي «أفروديت» بـ4 مليارات دولار

قالت شركة «نيوميد إنرجي» الإسرائيلية، إن الشركاء بحقل «أفروديت» البحري للغاز الطبيعي، قدموا خطة للحكومة القبرصية لتطوير المشروع بتكلفة تبلغ 4 مليارات دولار.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شؤون إقليمية ترقب واسع في تركيا لزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (أ.ف.ب)

لماذا استبقت «الإخوان» زيارة السيسي لتركيا بمبادرة جديدة لطلب العفو؟

استبقت جماعة «الإخوان المسلمين»، المحظورة، زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المرتقبة لتركيا بمبادرة جديدة للتصالح وطلب العفو من الدولة المصرية.

سعيد عبد الرازق (أنقرة:)
المشرق العربي مسؤولون لبنانيون على متن منصة الحفر «ترانس أوشن بارنتس» خلال عملها في البلوك رقم 9... أغسطس 2023 (رويترز)

حرب الجنوب تُعلّق النشاط الاستكشافي للنفط بمياه لبنان الاقتصادية

تضافر عاملان أسهما في تعليق نشاط التنقيب عن النفط والغاز في لبنان؛ تَمثّل الأول في حرب غزة وتداعياتها على جبهة الجنوب، والآخر بنتائج الحفر في «بلوك 9».

نذير رضا (بيروت)

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».