الطاهي يقتل... الكاتب ينتحر

النوع الأسوأ من الروائيين هم الذين لا يعرفون كيف يموتون في النص بسلام

مشهد من فيلم «رحلة المائة قدم» إخراج لاسي هالستر... وفي الإطار نجيب محفوظ
مشهد من فيلم «رحلة المائة قدم» إخراج لاسي هالستر... وفي الإطار نجيب محفوظ
TT

الطاهي يقتل... الكاتب ينتحر

مشهد من فيلم «رحلة المائة قدم» إخراج لاسي هالستر... وفي الإطار نجيب محفوظ
مشهد من فيلم «رحلة المائة قدم» إخراج لاسي هالستر... وفي الإطار نجيب محفوظ

قدرة نجيب محفوظ على التكتم استثنائية، حتى أنه لم يُقدم على كتابة مذكرات، وبحسه الساخر أراد أن يلاعب هواة التلصص؛ فقال مبرراً عدم حماسه لكتابة سيرة إنه كتب كل شيء في الروايات
بينما كنت أقطع قرن فلفل أحمر متفاخرٍ بانسياب جسمه وورقتين تزينان عنقه كشارب أبي الفوارس عنترة، جزعت فجأة، إذ تذكرت في اللحظة ذاتها ما قالته سيدة هندية لابنها عندما كانت تُعلِّمه مهنة الطبخ وتُبصِّره بتبعاتها: لكي تطبخ، يجب أن تتحمل تبعات أن تكون قاتلاً. إنك تقبض أرواحاً لكي تصنع منها شبحاً. تلك الأم كانت في فيلم «رحلة المائة قدم» (The hundred foot Journey).
وهي لم تتعد الحقيقة؛ فما يصنعه الطبَّاخ بالفعل هو استدراج الأرواح الساذجة من المكونات الحية إلى مطبخه، وتقطيعها وخلطها وسبكها بالنار. يضع كل جهوده ومهارته في إعداد طبخة واحدة منسجمة مع نفسها من كل تلك الأرواح التي كانت حية قبل قليل.
ولن يستطيع أن يعيد إلى المكونات الطازجة أرواحها الأصلية. لا يستطيع حسن ـ وهذا اسم طباخ الفيلم ـ أن يعيد الأومليت بيضة، مثلما لم يكن بمقدوري بعث قرن الفلفل المتفاخر، أو إعادة حمرة الخجل لوجه ثمرة طماطم، ولا الطبع الحاد لقشرة قرفة. لا يمكن لأحد أن يجعل قطعة اللحم تتجمع مع غيرها في خروف بعينين جميلتين تنظران إلى المرعى ببال خال.
لا يرتكب الطبَّاخ القتل إلا بسبب وجود من يُقدِّر فعلته، ويُقبل على الأشباح التي يصنعها، ويشكره لأنه ارتكب نيابة عنه حماقة قطف كل هذه الأرواح.
الكاتب يختلف قليلاً عن الطاهي، فهو لا يقتل، بقدر ما ينتحر. لكن بعض ممن يعرفون القليل عن حرفة الأدب يوقعونني في الحرج، عندما يشعرون بحاجتهم للفضفضة معي، لمجرد الراحة، أو لأخذ رأيي في شأن يؤرقهم، ثم يتذكرون فجأة أنني روائي؛ فيوقفون حكايتهم بجملة اعتراضية: «لا بد أنك ستكتب ذلك». بعد هذه الملاحظة أشعر بالحرج، وأجد نفسي مُلاماً إذا انصرفت عن ثرثرة الراوي، مريباً إذا انتبهت إليه.
لا يعرف المتشكك أن ساعات من الثرثرة على رأس كاتب قد لا تصلح لشيء، وربما بالكاد، يمكن أن يتفوه ذلك الشخص بجملة قد تصلح في حوار ما برواية، أو يحكي موقفاً يصلح نسبته بعد سنوات طويلة لبطل رواية له حياة أخرى لا تشبه حياة صاحب الحكاية الأصلي في شيء.
ويظل الرافد الأساسي لنهر الرواية هو روح الكاتب نفسه. يكتب الروائي آلامه ومخاوفه هو في العادة؛ يمنح كل شخصية من شخصياته شيئاً من أفكاره، من ذكرياته، من أحلامه. وكل مجهوده أثناء الكتابة أن يخفي أي أثر لحياته وملامحه، أي أن يتقن قتل روحه ليخلق منها شبحاً.
بعض الكُتَّاب يرفضون تقبل فكرة قتل أنفسهم داخل النص، ويبقون كباراً مع ذلك، في هذه المنطقة من الكتابة يمكن أن نضع هنري ميللر، أناييس نن، جان جينيه، وغيرهم. وهم إلى فن السيرة أقرب، وهذا ليس بالفن قليل الشأن. ومع ذلك لا يمكن أن نعرف بشكل مُطلق إلى أي حد هم طهاة يأخذون من حيوات الآخرين ما ينسبونه إلى أنفسهم، وإلى أي حد هم كتَّاب سيرة، وأن ما يعرضونه هو حيواتهم الخاصة!
النوع الأسوأ من الكتاب هم الذين لا يعرفون كيف يموتون في النص بسلام. لا خبرة لديهم في التخفي، ويُقبل على رواياتهم قراء يشبهونهم يحبون نشرات أخبار.
لكن أغلبية الروائيين يعشقون الموت في رواياتهم، ويعرفون كيف يفعلون ذلك، وكيف يواصلون التكتم متقبلين تضحياتهم بشهامة، ورغم ذلك، فإن القراء لا يتركونهم يموتون بسلام!
نجيب محفوظ من هذا النوع المتكتم، لا يترك أثراً يدل عليه داخل النص، ويحتاج إلى تنقيب جيد والاستعانة ببوح الأصدقاء، لكي نكتشف أي أجزاء من نفسه أودعها كمال عبد الجواد في الثلاثية، وأي أجزاء وزعها على الساهرين في عوَّامة «ثرثرة فوق النيل» أو أي من شخصيات رواياته الأخرى.
ومن يقرأ كتاب رجاء النقاش الحواري معه، يجد الكثير من الأبواب التي رفض عميد الرواية العربية أن يفتحها لمحاوره. ورغم ذلك يصر الكثير من القراء على البحث عن حياته وحياة عائلته داخل أعماله، وهناك ما يشبه الإيمان المستقر بأن السيد أحمد عبد الجواد صاحب الحياة المزدوجة في الثلاثية هو والد نجيب محفوظ، بينما أكد الكاتب للنقاش أن والده كان على النقيض تماماً.
قدرة نجيب محفوظ على التكتم استثنائية، حتى أنه لم يُقدم على كتابة مذكرات، وبحسه الساخر أراد أن يلاعب هواة التلصص؛ فقال مبرراً عدم حماسه لكتابة سيرة إنه كتب كل شيء في الروايات. وكأنها دعوة للتنقيب!
بعكس محفوظ، يحرص الكثير من الكُتّاب على كتابة سيرة أو مذكرات، ويتركون للقارئ الشغوف مهمة المطابقة بين وقائع حياة الكاتب وآرائه الخاصة وبين وقائع الروايات وملامح أبطالها.
من هؤلاء البواحين نيكوس كازنتزاكس في سيرته «الطريق إلى غريكو» وماركيز في «عشت لأروي». وربما كان ماركيز الأكثر انكشافاً بين كُتَّاب القرن العشرين بحكم عمله الطويل في الصحافة؛ ذلك الموقد الذي يُجبر العاملين فيه على استمرار تغذيته بالحطب، ويتصادف أن يكون ذلك الحطب جزءاً من روح الكاتب، أو سراً شخصياً، يُرضي به قارئ الصحيفة المتعجل. وهكذا عرف العالم مبكراً جداً أن ماركيز متربص لرواية ياسوناري كاواباتا «الجميلات النائمات» فلما كتب «ذكريات عاهراتي الحزينات» كان أطباء الأدب الشرعيون جاهزين لتشريح جثتي الروايتين لكشف ما بينهما من تشابهات.
خوسيه ساراماجو أخذ الطريق الأقصر للاعتراف. في سيرته «الذكريات الصغيرة» قام بدور الدليل، أمسك بالقارئ من يده، وأخذ يحكي له موقفاً من حياته، ثم يرشده إلى مكانه في الروايات.
ولا يتطلب استمرار التخفي صمت الكاتب وحده؛ بل صمت أصدقائه وأسرته. وفي تاريخ الكتابة لا نجد نموذجاً أكثر انكشافاً من دوستويفسكي. أصبحت لدينا يومياته ومراسلاته ومذكرات الزوجة والابنة والصديقات والأصدقاء، صرنا نعرف مصدر كل مشهد من رواياته، بفضل كل عناصر الإفشاء التي اجتمعت معاً.
ومن حسن الحظ أن من يتعقبون حياة وأقوال الكاتب في كل خطوة من خطواته هم حفنة من الباحثين والقراء الأكثر افتتاناً، وبعض الكُتَّاب الذين يهمهم التلصص على الصنعة، بينما يبقى عموم قراء الرواية بعيدين عن دروس التشريح، يستمتعون بصحبة الأشباح في الروايات دون أن يشغلوا أنفسهم بالبحث عن الحمض النووي للكاتب في كل منها!



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.