أسواق الملابس المستعملة تلبي حاجات وأذواق اللبنانيين.. فقراء وأغنياء

طلبا للتوفير وبحثا عن الماركات الأشهر

يبحثون عن ثياب في «البالة» تلبي أذواقهم وعلى قياسهم
يبحثون عن ثياب في «البالة» تلبي أذواقهم وعلى قياسهم
TT

أسواق الملابس المستعملة تلبي حاجات وأذواق اللبنانيين.. فقراء وأغنياء

يبحثون عن ثياب في «البالة» تلبي أذواقهم وعلى قياسهم
يبحثون عن ثياب في «البالة» تلبي أذواقهم وعلى قياسهم

بصمت وصبر كبيرين، ورغم تقدمها في العمر، تلفتك نجاة. س. (60 عاما) وهي تبحث عن حذاء صالح في أحد المستوعبات الكرتونية؛ إذ إنها غير قادرة «ماديا» على شراء الأحذية ذات النوعية الأفضل المعروضة على الرفوف في محلات الثياب الجديدة نظرا لأسعارها الباهظة، بينما هنا في «البالة» بإمكانها إيجاد حذاء بألفي ليرة لبنانية، حسبما تشرح لنا.
بين الملابس الجديدة والمستعملة، يفضل قسم من اللبنانيين الأخيرة، لأنها تراعي جيوبهم، إضافة إلى أنها ذات نوعية جيدة، لمن يعرف كيف يختار. وفي محلات «البالة» أو سوق الألبسة المستعملة، أصوات الباعة تصم الآذان (غالبا عبر المذياع)، تصدح في كل مكان: «أوكازيون.. بضاعة أوروبية، القطعة بين الـ2000 و5000 ليرة.. يا بلاش».
في منطقة الشياح (في الضاحية الجنوبية لبيروت) التي أضحت مقصدا لفقراء بيروت حيث تنتشر محال الألبسة والأحذية والمواد المستعملة (البالات) في معظم شوارع هذه المنطقة، كما نجدها في ضواحي بعض المدن الأخرى، هذه الأماكن باتت ملجأ لكثيرين، مع تدهور الأوضاع الاقتصادية.
في الشياح، مثلا، انعكس توسع محلات الملابس المستعملة سلبا على محال الألبسة والأحذية الجديدة، مما دفع عددا كبيرا من هذه المحال إلى الإغلاق خلال السنوات الأخيرة.
تعود ظاهرة انتشار البالات في لبنان إلى ما قبل بدء الحرب الأهلية عام 1975، وفي بعض المناطق كطرابلس انتشرت هذه الظاهرة منذ عام 1950، ثم توسعت تدريجيا في السنوات الماضية حتى وصلت إلى «بالتين» في كل بلدة على أقل تقدير.
وتصل البالات إلى الزبون بعد رحلة طويلة، تبدأ بمراكز بيع السلع المستعملة المنتجة في الدول الأوروبية غالبا، وتمر بمستوردي هذه السلع، لتصل إلى التجار في الأسواق، ومنهم إلى المستهلك.
ويقول أبو جعفر ش. وهو صاحب أحد محلات «البالة» في الشياح: «يصل سعر الكيلو الواحد من هذه الثياب أحيانا إلى 13 دولارا، وسبب انتشار هذه الظاهرة ليست أسعار البضائع الرخيصة، بل وجود ماركات داخلها تمتاز بنوعية جيدة، حتى إن بعض ميسوري المنطقة يقصدونني لشراء الأحذية الألمانية والكندية، وهذه الماركات تتوفر لدي بأسعار معقولة وأقل من سعرها في السوق العادية بـ(أضعاف)».
وأضاف في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «هناك كثير من الناس، خصوصا النساء، يقصدنني لمعرفتهن بموعد عرضي بضائع جديدة نظرا لقرب محلي من منازلهن، فيسارعن إلى شراء أفضل البضائع قبل أن تبقى البضائع الأقل جودة». في سوق الشياح ما يزيد على 120 محلا تتوزع بين بالات ومحلات للألبسة الجاهزة. وعلى الرغم من تفوق محال الألبسة الجاهزة عدديا، فإن دفة المنافسة والأرباح تميل إلى محال الألبسة المستعملة».
ثمة مفهوم خاطئ عند بعض الناس، وهو أن ملابس البالة حكر على شريحة معينة من الناس، أي للفقراء فقط، هذا المفهوم صحيح نوعا ما، لكن الأوضاع تغيرت، خاصة بعد أن دخلت «البالة» الآتية إلى بلاد الأرز من ألمانيا وفرنسا وأميركا في تنافس مع البضاعة الصينية الجديدة التي تغزو الأسواق، وتحولت البالات إلى مرتع للأهالي الباحثين عن جودة «القطعة» بأسعار زهيدة، سيما لاحتوائها موديلات مميزة غير متوفرة في السوق المعتادة.
واقع اجتماعي جديد تتلمسه في سوق «البالة» التي توسعت رقعتها في الآونة الأخيرة في مختلف المناطق اللبنانية بسبب النزوح السوري، وارتفاع نسبة الفقر، وغلاء الأسعار، حيث تجد فيها الغني الباحث عن قطعة «ماركة»، والفقير الذي يفتش عن ملابس لأولاده، والشاب الذي يبحث عن أناقة الستينات والأحذية ذات الماركات الشهيرة.
وانتقالا إلى سوق البالة في مدينة النبطية ومحيطها (جنوب لبنان) حيث أغلب الرواد من النازحين السوريين، نجدها تبيع إلى جانب البضائع والألبسة المستعملة بعض الملابس الجديدة التي غالبا ما تكون «ستوكات» لبعض المصانع أو تصفيات المصانع الكبيرة أو المحال التي تعاني من الكساد، وتباع جميعها جنبا إلى جنب وبأسعار مختلفة. وهكذا تحولت «البالة» إلى سوق مفتوحة على تجارة واسعة وصفها البعض بأنها «الذهب» الذي يدر المال الوفير على التاجر.
بدورها، ترى نجيبة ك. أن البالة تجمع بين النوعية والتوفير، وتضيف: «اشتريت حذاء طبيا بـ50 ألفا (نحو 33 دولارا) ثمنه حين يكون جديدا 250 دولارا، والأهم أنك ترتدي حذاء طبيا»، مؤكدة أن الحل «بالتوجه إلى هذه الأمكنة ليس فقط من أجل اتباع سياسة التوفير، بل وسياسة اختيار النوعية الأفضل».
في المقابل، يعترف حسن أن معظم ثيابه يشتريها من «البالة»، فيغسلها ويكويها، فتبدو جديدة، أمر يوفر له بعض الأموال التي تصب لصالح متطلبات العمل والعائلة، لافتا إلى أنه لا يزور الأسواق الكبير التي تبيع الجديد إلا في موسم الحسومات، داعيا الجميع للتوجه إلى «البالة» لربما حالفهم الحظ ووجدوا ضالتهم من الثياب والأحذية الجيدة.
ويلعب الحظ دورا كبيرا في تجارة البالة أيضا، لأن البائع يشتري البضاعة من دون أن يراها ووفقا للوزن بعد تقسيمها إلى بالة بنطلونات جينز وقماش، أو بالة جلود، وبالة قمصان، ومعاطف، وكنزات صوفية، أو بالة أحذية، أو بالة ملابس داخلية، وأحيانا بالة أثاث وغيرها.
ومن ثم يقوم البائع بفرزها لإبعاد التالف منها وتنظيف القابل للاستعمال، فيما تتراوح نوعية البضائع بين باب أول، وثان، و«ستوك»، وهي تستورد من الخارج بعدة طرق؛ منها في «حاويات» كبيرة (كونتينرات) مغلقة، وأحيانا توضع هذه البضائع داخل السيارات المستوردة مما يخفف من قيمة الضرائب عليها.
وفي الختام، يبدو أن الأسواق الشعبية للملابس أضحت ‏ ‏المتنفس الوحيد أمام الطبقتين الوسطى والفقيرة لتلبية احتياجاتهم، خصوصا في ظل ‏الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يعيشها لبنان.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».