العقوبات الأميركية الجديدة تبدأ اليوم ضد النظام السوري

خبراء في واشنطن يتوقعون ضغوطاً كبيرة على موسكو وطهران

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوقع موازنة الدفاع التي تضمنت «قانون قيصر» في ديسمبر الماضي (غيتي)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوقع موازنة الدفاع التي تضمنت «قانون قيصر» في ديسمبر الماضي (غيتي)
TT

العقوبات الأميركية الجديدة تبدأ اليوم ضد النظام السوري

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوقع موازنة الدفاع التي تضمنت «قانون قيصر» في ديسمبر الماضي (غيتي)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوقع موازنة الدفاع التي تضمنت «قانون قيصر» في ديسمبر الماضي (غيتي)

يدخل اليوم «قانون قيصر» حيز التنفيذ حيث يتوقع خبراء أن تسقط عقوباته كالصاعقة على رؤوس كل من يمد يد العون للنظام السوري، ذلك أن القانون «لن يرحم النظام وحلفاءه وأن نتائجه ستكون وخيمة وقاسية على الأفراد والمجموعات التي تتعامل مع نظام الأسد».
وكان المشرعون والخبراء الأميركيون أعدوا مسودة القانون على نار هادئة على مدى 6 أعوام، عدلوا فيها من بنوده وتشاوروا مع خبراء في الشأن السوري من كل الأطياف والبلدان لينتجوا نص قانون متكامل وعقوبات فُصلت على مقاس كل من تستهدفه الإدارة.
وقد رُسمت علامات الاستهداف بشكل أساسي على بلدين أرقا نوم المشرعين منذ زمن: إيران وروسيا إضافة إلى وكلائهما في المنطقة. والرسالة واضحة: تعاونوا مع النظام وستسقط عليكم العقوبات من دون رحمة.
ويفسر النائب الجمهوري مايك مكول، وهو من عرابي «قانون قيصر»، استراتيجية المشرعين فيقول: «نحن نرسل رسالة قوية لبلدان كإيران وروسيا تقوي وتدعم حرب نظام الأسد الوحشية والمستمرة التي يشنها على الشعب السوري، وذلك عبر فرض عقوبات عليها».
ويشير مكول إلى أن عزمه على تمرير القانون منذ العام 2014 يعود إلى التأثير الكبير للصور المروعة التي عرضها المدعو «قيصر» أمام الكونغرس والتي أظهرت جثثاً لسوريين تم تعذيبهم بوحشية من قبل النظام، بينهم أطفال ونساء. حينها، بدأ مكول وزملاؤه بكتابة نص القانون الذي أطلق عليه اسم «قيصر» تيمناً بالمصور العسكري الذي انشق عن النظام وهرب أكثر من 55 ألف صورة توثق جرائم الأسد في السجون والمعتقلات في البلاد. ويتحدث مكول عن قيصر ويقول: «التقيت به ورأيت صوراً مروعة ذكرتني بجرائم الهولوكوست، وكان من الصعب علي أن أصدق أن ما يجري في سوريا يحدث في أيامنا هذه. حينها علمت أنه من المهم جداً أن نعاقب النظام الوحشي وحلفاءه».

- إغلاق الفجوات
وفي ظل وجود عقوبات كثيرة سابقة على النظام السوري من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، سعى المشرعون إلى إغلاق الفجوات في العقوبات السابقة التي ركزت بشكل أساسي على المسؤولين السوريين وقطاع النفط، وذلك من خلال فرض عقوبات جديدة تستهدف كل من يتعامل مع مصرف سوريا المركزي وقطاعي الطاقة والطيران، إضافة إلى البلدان والشركات التي تسعى إلى المساهمة في جهود إعادة الإعمار في سوريا.
ويهدف القانون إلى ثني الشركات والأفراد عن الاستثمار في سوريا والمشاركة في جهود إعادة الإعمار التي تقودها الحكومة السورية، إذ أن الإدارة الأميركية تعتبر أن الأسد يستغل مشاريع إعادة الإعمار لتعزيز موقعه في السلطة ومصادرة الأملاك وإعادة رسم التركيبة السكانية عبر انتزاع ملكية الفقراء. في هذا الإطار، حذر أعضاء الكونغرس المجتمع الدولي «من مد يد العون لنظام الأسد»، فهم لا يرون «مستقبلاً لسوريا مع الأسد في سدة الحكم»، وقد أصدروا بياناً تحذيرياً قاسي اللهجة قالوا فيه: «الشعب السوري عانى كثيراً في ظل حكم الأسد وداعميه. على الإدارة أن تسعى إلى تطبيق صارم لقانون قيصر لتوضح للنظام السوري وحلفائه أن الأسد شخص منبوذ، ولن يتم النظر إليه كقائد شرعي للبلاد. نحث المجتمع الدولي على عدم التعامل اقتصاديا أو دبلوماسيا مع نظام الأسد المجرم تحت طائلة العقوبات». ويظهر هذا البيان التكاتف الحزبي القوي على تطبيق عقوبات قيصر بحذافيرها، ليس بحق إيران وروسيا فحسب، بل تجاه كل بلد أو فرد يسعى للتعامل مع النظام.
وفي ظل التدهور اليومي لليرة السورية مقابل الدولار وانهيار الاقتصاد في كل محاوره، تستعد سوريا لوقع الضربة، واعتبر المبعوث الأميركي الخاص لسوريا جيمس جيفري أن تدهور الليرة دليل على نجاح السياسات الأميركية حتى قبل تطبيق القانون. وقال: «إن انهيار الليرة السورية يثبت أن روسيا وإيران لن تتمكنا من مساعدة نظام الأسد وأن النظام هو نفسه لن يتمكن من إدارة سياسة اقتصادية فعالة بعد اليوم، ولن يتمكن من تبييض الأموال في المصارف اللبنانية».
ويعكس كلام جيفري خلاصة العقوبات الجديدة، إذ أن الإدارة الأميركية حددت ثلاثة محاور تستهدفها العقوبات: النظام السوري ومؤسساته، النظام الروسي والمسؤولين فيه، والنظام الإيراني ووكلاءه.

- توسيع العقوبات
ويسعى «قانون قيصر» إلى توسيع نظام العقوبات السابق عبر استهداف المؤسسات الحكومية السورية، والأفراد، من مدنيين ومسؤولين، الذين يمولون النظام السوري وروسيا وإيران. كما يفرض عقوبات على أصحاب الشركات الأجنبية التي تجمعها صلات بالأسد وحلفائه.
وبحسب نص القانون، سوف تُفرض هذه العقوبات على أي شركة عالمية أو فرد يستثمر في قطاعي الطاقة أو الطيران، وكل من يزود الخطوط الجوية السورية بقطع غيار وصيانة إضافة إلى كل من يقدم ديوناً للنظام.
ويفرض القانون عقوبات على أي حكومة أو مجموعة تُسهل من صيانة أو توسيع إنتاج الحكومة السورية المحلي للغاز الطبيعي والبتروليوم ومشتقاته. كالشركات الروسية والإيرانية الخاصة التي تحاول استغلال الحرب للسيطرة على موارد سوريا الطبيعية وبنيتها التحتية. كما ستشمل العقوبات مصرف سوريا المركزي، إذا ما ثبت أنه يشارك في عمليات غسل أموال.
ويقترح القانون فرض عقوبات متعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان على مسؤولين سوريين بدءاً من الرئيس السوري ورئيس الوزراء ونائبه، مروراً بقادة القوات المسلحة البرية والبحرية ومسؤولي الاستخبارات، ووصولاً إلى المسؤولين في وزارة الداخلية من إدارة الأمن السياسي والمخابرات والشرطة، وقادة الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، والمسؤولين عن السجون التي يسيطر عليها النظام ورؤساء الفروع الأمنية كافة.
وكما هي الحال في عقوبات من هذا النوع، سيكون أصعب تحدٍ أمام الإدارة الأميركية هو السيطرة على تأثيرها على المدنيين، لذلك أضاف المشرعون بنوداً تستثني المساعدات الإنسانية من العقوبات، عبر إعطاء الرئيس الأميركي الصلاحية بعدم فرض العقوبات على المنظمات غير الحكومية التي توفر المساعدات الإنسانية لسوريا.

- ضربة جديدة
ورغم هذه الاستثناءات، يتخوف البعض من أن الأوضاع المعيشية المتدهورة أصلاً في سوريا لن تتمكن من استيعاب أي ضربة جديدة جراء العقوبات، خاصة أنها ستحول دون إعادة تأهيل البنى التحتية وإصلاح خدمات أساسية أخرى. وفي حال إصرار الأسد على البقاء في الحكم، وهو سيناريو محتمل يقلق منه المشرعون، سيكون من الصعب السيطرة على تأثير العقوبات على السوريين الذين يعيش نحو 80 في المائة منهم اليوم تحت خط الفقر.
إضافة إلى ذلك، سيظهر التأثير الأبرز لهذه العقوبات على قطاع الغاز والنفط المتأزم أصلاً بسبب العقوبات السابقة. فسوريا تستورد نحو 60 في المائة من احتياجاتها المحلية للغاز، لكنها بالكاد تستطيع تأمين 24 في المائة من احتياجات سكانها في الوقت الحالي.
ولا يعني دخول القانون حيز التنفيذ، أن رفع العقوبات غير مطروح لكن بشروط، إذ يشدد القانون على انفتاح الولايات المتحدة على الحل الدبلوماسي من خلال تسوية أساسها تنحي نظام الأسد، ووقف دعم روسيا وإيران له. وفي هذا الإطار يضع القانون شروطاً ستة لرفع العقوبات الأميركية، هي: «وقف قصف المدنيين من قبل الطائرات الروسية والسورية، رفع الحصار عن المناطق المحاصرة من قبل القوات الإيرانية والروسية والسورية والسماح بمرور المساعدات الإنسانية وبتحرك المدنيين بحرية، إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين والسماح بدخول منظمات حقوق الإنسان إلى السجون والمعتقلات السورية، وقف قصف المراكز الطبية والمدارس والمناطق السكنية والتجمعات المدنية كالأسواق من قبل القوات السورية والإيرانية والروسية، والمجموعات التابعة لها، عودة المهجرين السوريين بطريقة آمنة وإرادية ومحترمة ومحاسبة مرتكبي جرائم حرب في سوريا وإحقاق العدالة لضحايا جرائم الحرب التي ارتكبها النظام السوري».
وستكون الأشهر القادمة حاسمة في تقييم هذه العقوبات وتحديد فعاليتها، وستراقب الإدارة الأميركية بحذر أي تغيير في الموقف الروسي الداعم للأسد، آملة أن «تؤدي العقوبات إلى رفع الغطاء كلياً عن النظام، وإلى إفلاس النظام الإيراني ووكلائه في المنطقة»، حسب محللين في واشنطن.



مخيم جنين: ليست حرباً على المسلحين... ولكن على الناس ورواياتهم

TT

مخيم جنين: ليست حرباً على المسلحين... ولكن على الناس ورواياتهم

الزميل كفاح زبون مع الصحافيين الذين تسللوا إلى مخيم جنين وقد بدا حولهم الدمار الهائل (الشرق الأوسط)
الزميل كفاح زبون مع الصحافيين الذين تسللوا إلى مخيم جنين وقد بدا حولهم الدمار الهائل (الشرق الأوسط)

ظل محمود الرخّ متردداً في الدخول إلى مخيمه الذي ولد وعاش فيه، مخيم جنين، بعدما حولته إسرائيل إلى كومة ركام كبيرة، ومصيدة للموت، قبل أن يحسم أمره، ويتجرأ ويعبر إلى داخل المخيم متغطياً بمجموعة صحافيين قرروا الدخول أيضاً بعد مشاورات كثيرة، وطول تردد. فالكل يدرك جيداً أنه قد يتعرض لإطلاق نار، قد يقتل، وقد يصاب، وقد يعتقل.

كان الشارع من دوار السينما الشهير في جنين إلى مداخل المخيم يعطيك انطباعاً سريعاً عما ستشاهده لاحقاً، وقبل المستشفى الحكومي الذي يقبع في آخر الشارع، حول الجنود المدججون بكل أنواع الأسلحة، المدخل الرئيسي للمخيم إلى ثكنة عسكرية. لكن شبان المخيم وأهله وصحافيي المدينة قالوا لنا إنه يمكن أن نتسلل إلى المخيم من خلف المستشفى، في جولة بدت صادمة للغاية.

«لا أحد إلاك في هذا المدى المفتوح»، تذكرت ما قاله الشاعر الراحل محمود درويش وأنا أعبر إلى المخيم. «لا أحد» في المخيم. «لا أحد»، لا سلطة ولا ناس ولا مقاتلين، «دب الإبرة بتسمع صوتها» على ما نقول. فقط جنود إسرائيليون حولوه إلى كومة ركام كبيرة شاهدة على تاريخ وصمود ومعارك وحياة وذكريات وحكايات كثيرة، يتربصون بأي أحد، ويحلمون كما يبدو بتحويل المكان من فلسطيني إلى إسرائيلي بالكامل.

منشورات ألقاها الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين (الشرق الأوسط)

لمحنا على مسافة بعيدة لافتات زرعها الجنود، تحمل أسماء عبرية مثل «محور يائير» في محاولة يائسة للسطو على المكان. وكانت مثار سخرية؛ إذ لا يخطئ الجنينيون في لفظ أسماء حاراتهم في المخيم من «الحواشين» إلى «الدمج» و«الألوب»... إلخ.

لم تكن حرباً على المسلحين، لقد كانت حرباً على المكان والناس والتاريخ والحاضر والرواية كذلك، وليست مجرد عملية عسكرية أطلقتها إسرائيل في المخيم في 21 يناير (كانون الثاني) الماضي، في بداية تحرك يتسع نطاقاً في باقي الضفة، بعد إدراجها على قائمة أهداف الحرب.

«السور الحديدي» وقواعد ثابتة

كانت العملية التي تعدّ تغييراً في الاتجاه الإسرائيلي، واتخذت اسم «السور الحديدي»، في تذكير واضح بالعملية الواسعة التي شنتها إسرائيل في الضفة عام 2002 في أثناء الانتفاضة الثانية، وأطلقت عليها اسم «السور الواقي»، واجتاحت معها كل الضفة الغربية، بدأت بهجوم جوي نفذته طائرة مسيرة على عدة بنى تحتية هناك، قبل أن تقتحم الوحدات الخاصة والشاباك والشرطة العسكرية مناطق واسعة في جنين، ثم ينفذ الطيران غارات أخرى.

بعد 25 يوماً، حين وصلنا إلى المخيم كانت إسرائيل قتلت 26 فلسطينياً وجرحت آخرين، وهجّرت 20 ألفاً بالتمام والكمال هم كل سكان المخيم، بلا استثناء.

سألت أحمد الشاويش، وهو صحافي من جنين تطوع للدخول معنا: إذاً ماذا يفعلون في المخيم؟ قال إنهم في مناطق لا نستطيع الوصول إليها يبنون قواعد ثابتة، ما يذكّر بكلام وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأنهم لن يغادروا المكان.

وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أعلن شخصياً عن بدء العملية في جنين، قائلاً إنها أطلقت «بتوجيه الكابينت»، بوصفها «خطوة أخرى نحو تحقيق الهدف، وهو تعزيز الأمن في الضفة الغربية». وتابع حينذاك: «نحن نتحرك بشكل منهجيّ وحازم ضد المحور الإيرانيّ، أينما يرسل أذرعه؛ في غزة ولبنان وسوريا واليمن والضفة الغربية».

مسألة توقيت لا قرار

لم يكن قرار الهجوم على جنين مستحدثاً، لكنهم قرروا انتظار الهدنة في غزة، وبعد 3 أيام من بدء سريانها هناك، حولوا البوصلة إلى الضفة بعد توصية رئيس الشاباك رونين بار الذي أبلغ المجلس الأمني والوزاري المصغر أنه يجب اتخاذ إجراءات أوسع لتغيير الواقع، والقضاء على المجموعات المسلحة في الضفة، مطالباً «بالتعلم من الذي حصل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)»، ومحذراً من أن الانخفاض الكبير في العمليات في الضفة الغربية «مخادع ومضلل»، و«لا يعكس حجم تطور الإرهاب على الأرض».

آليات الجيش الإسرائيلي تقتحم مخيم جنين (الشرق الأوسط)

مسألة أخرى قالت وسائل إعلام إسرائيلية إنها ساهمت في اتخاذ قرار الهجوم على الضفة الغربية، هي الإفراج الجماعي عن الأسرى الفلسطينيين ضمن صفقة غزة، باعتبار ذلك «سيثير حماس الإرهابيين في المنطقة، ويزيد من دوافعهم لتنفيذ الهجمات».

لم أصدق ما شاهدت بأم العين رغم أنني رأيت مئات الفيديوهات من جنين قبل ذلك.

كان الدمار هائلاً؛ بيوت مهدمة، وجدران متهاوية، وشوارع مجرفة، وأكوام من الركام في كل مكان، فيما رائحة الحرائق تفوح من كل زقاق.

مضينا بحذر شديد فيما كانت طائرات «الدرون» التي يسميها الفلسطينيون «زنانات»؛ لفرط الإزعاج الذي تسببه، تحوم فوق المخيم 24 ساعة في اليوم والليلة.

قال الرخ إنه يريد العودة. تردد كثيراً لأن زوجته و2 من أولاده الصغار معه، لكن زوجته أصرّت على أن تواصل؛ لأنها بحاجة إلى جلب معاطف من المنزل. وفعلاً عبرت مع ابنتها إلى هناك، وأحضرت بعض الملابس، أما هو فوقف عاجزاً عن وصف مشاعره وهو يشاهد منزله المهدم جزئياً.

غزّة ثانية

لا أعرف كيف سيشعر أي شخص حين يرى منزله الذي بناه من تعب وعرق واحتضنه مع عائلته قد تبخر بلمح البصر؟! الابن أحمد قطع علينا أفكارنا وهو ينادي والده بفرح: «يابا يابا... جابت ستر جابت ستر (معاطف)».

لم يغادر الرخ سريعاً رغم أن المهمة أُنجزت، وظل يراقب منزله في حارة الحواشين، ثم أشار إلى بيته المحروق والمهدم وقال: «ما خلو اشي ما خلو بيوت ولا سكان».

مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)

قال لنا إنه تسلل قبل ذلك وتعرض لإطلاق نار، وأضاف: «لولاكم ما دخلت. خايف يطخوا علينا معي زوجتي وأولادي. شفتكم وتشجعت... والله الحامي».

وأضاف: «إشي لا يصدق شوف شوف. غزة ثانية عملوها».

سألته: ماذا ستفعل بعد ذلك؟ قال: «سنعود. سأنصب خيمة وراح أنام فيها».

فعلاً كان مخيم جنين غزة صغيرة، عبرنا فوق أكوام الركام، ودخلنا عبر البيوت المهدمة والمفتوحة لتجنب الجيش في الشوارع.

وكان فادي، أحد أبناء المخيم، خبيراً في أزقته، وحاول إلى حد كبير توجيه جولتنا مع كثير من التحذيرات.

طلب منا الوقوف فجأة عندما سمع صوت جيب إسرائيلي يسميه الفلسطينيون «بوز النمر». صاح: «وقفوا بوز نمر قريب». لم يصدر أحد صوتاً، وخيم السكون. تدخل صديقه وقال: «من هنا»، فاضطرنا إلى تسلق ما يشبه جبلاً من الركام، ثم هبوط جبل آخر لنعبر إلى حارة أخرى.

كان شيئاً لم نشهده في الضفة الغربية في الانتفاضتين: الأولى والثانية. وعلى الرغم من أن كل الفلسطينيين اختبروا كل أشكال الحرب، بما في ذلك غارات الطيران الحربي وتوغل الدبابات في قلب المدن، فإن مخيم جنين بدا شيئاً آخر. ولا حتى ما تبثه الشاشات يمكن أن يعكس هول المشهد.

حزن كبير يغمر المكان. حزن الحجارة والشوارع على المكان والناس الذين كانوا قد تشردوا عند أقارب لهم في مراكز نزوح تقام لأول مرة في الضفة الغربية.

تجريف لتسهيل الاقتحام

لم أعرف أين وقف كاتس، نهاية الشهر الماضي، عندما وصل إلى المخيم، لكني تخيلته وهو منتشٍ بما شاهده من دمار يوازي دمار غزة.

قال من هنا إنه سيواصل الهجوم، ولن يخرج من المخيم الذي لن يعود كما كان حتى بعد انتهاء العملية.

نظرت إلى المخيم وفهمت أنه لن يعود كما كان، لكني لم أفهم ضد من سيواصل الهجوم في مكان بلا أحد!

سألت الصحافيين والناس مرة أخرى إن كان هناك مسلحون فقالوا: «لا، لا يوجد أي أحد. لا يوجد أي بشر هنا فقط هذا الدمار».

لكن إسرائيل مصرّة وتقول إن العملية في جنين مستمرة، وهدفها «تحييد المسلحين بالكامل»، ويتحدثون عن عملية قد تستمر عدة أشهر.

مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)

في الأثناء كانت الجرافات تصل إلى المخيم، وانطلق نقاش حول تجريف إسرائيل شوارع واسعة في المخيم قد تحوله إلى مربعات سكنية صغيرة، بما يسمح للجيش بالبقاء والاقتحام وقتما يشاء.

وربما أنهم مثل ما يحلمون في غزة يحلمون في مخيمات الضفة، تهجير الناس وتقليص المساحات للوجود الدائم، واستيطان إذا تسنى لهم.

في أحد أزقة المخيم التي تحولت إلى «طينة» بفعل تدمير البنية التحتية، كان ثمة بيانات سابقة ألقاها الجنود ما زالت موجودة تطالب أهل المخيم بنبذ المسلحين، وتقول إنهم السبب بتدمير المخيم، وإنهم هم من يدفع الثمن.

والبيانات أسلوب إسرائيلي قديم جداً لم يتوقف، وطالما ألقى الجيش طيلة الانتفاضة الثانية في كل مكان في الضفة بيانات تقول للفلسطينيين: «قف وفكر. لا تدعم المسلحين».

لم يتوقف الفلسطينيون ولا المسلحون ولا إسرائيل.

لكن في مخيم جنين بعد معارك طويلة ومستمرة، لم يكن هناك اليوم أي مسلحين، ولكن أكوام. أكوام من كل شيء، أكوام حجارة، أكوام حديد، أكوام سيارات محترقة، أكوام رمل، ولا شيء سوى الأكوام.

السجن الكبير

لا تكفي جولة سريعة تقوم بها تحت الضغط والقلق. فأنت بوصفك فلسطينياً أولاً، وإنساناً ثانياً، تنسى أنك صحافي، وتغرق في دهشة وحزن وكثير من الأمنيات بالتخلص من واقع معقد وصعب حوّل الجميع إلى سجناء في سجن كبير بعنابر متفاوتة، ينتظرون الموت أو الإذلال المستمر.

في الطريق إلى جنين عبرنا حواجز عديدة، وكان علينا متابعة أخبار الحواجز؛ لمعرفة إن كانت مفتوحة أو مغلقة أو مزدحمة. وكان علينا أن نلتف عليها في رحلة تحولت إلى مضنية، وأكثر من مضنية خصوصاً في طريق العودة حين أصر الجنود على تفتيش السيارة والجوالات، وبدأوا يطرحون أسئلة سخيفة.

لم نصدق أننا خرجنا سالمين من مصيدة الموت في المخيم.

مجموعة الصحافيين تخرج على عجل من مخيم جنين (الشرق الأوسط)

«لقد نجونا»، صرنا نفكر قبل أن يهمهم الجميع بعد العودة إلى المستشفى الحكومي، الحمد لله على السلامة.

قال الشاويش إنهم في آخر محاولة للدخول تعرضوا لإطلاق النار، وقد أصيب مواطنون حاولوا الدخول إلى المخيم. وفي المرة التي سبقت ذلك اضطر الصليب الأحمر للتدخل من أجل إخراج صحافيين حوصروا داخل المخيم.

خارج المخيم صادفنا شباناً يتصيدون الفرصة للدخول، يراقبون تحرك الآليات ويستطلعون المداخل، وبادروا بسؤالنا: «كيف الوضع؟ وين وصلتوا؟ لاقكم جيش؟».

قال أحمد سمارة إنه يدخل بشكل شبه متكرر متسللاً إلى حارة الدمج، إحدى الحارات التي لم نستطع الوصول إليها ودُمرت بشكل كبير.

وسألته: لماذا يخاطر هكذا؟ فقال باستنفار: «أنا داخل على بيتي مش على بيتهم، بدي أدخل غصب عنهم. خليهم يطخوني».

وفي كل مرة، يصل سمارة إلى بيته المدمر يُلقي نظرة عليه، ويسلّم ويغادر. ومثل الرخ ينتظر سمارة نهاية العملية العسكرية من أجل أن ينصب خيمته هناك، ويقول: «أنا راح أرجع على مخيمي، أنا بحب مخيمي وراح نعمره بأيدينا».

تهجير قسري وتمسّك بالعودة

وبحسب منسق القوى الوطنية والإسلامية في جنين، راغب أبو دياك، فإن الاحتلال هجّر قسراً ما يزيد على 20 ألف مواطن من مخيم جنين، بعدما دمر وعاث خراباً في 470 منزلاً بشكل كامل وجزئي.

لم تكن هذه معركة المخيم الذي بني عام 1953 بحسب وكالة «أونروا» الوحيدة، فقد خاض رجاله مواجهة كانت الأعنف في الضفة الغربية عام 2002.

لكن الناس لم يغادروا آنذاك.

وشرح سكان من المخيم كيف أنهم اضطروا للمغادرة تحت تهديد الجنود والطائرات المسيرة التي كانت تطلق النار.

بعضهم كان محظوظاً لأن له أقارب وأنسباء خارج المخيم، لكن عدداً آخر كان عليه أن يجرب ما جربه الفلسطينيون في قطاع غزة.

كانت جنين المدينة هادئة إلى حد ما لكنها أيضاً متعبة.

وفي جمعية «الكفيف» الخيرية، وجدنا العشرات من سكان المخيم يعيشون هناك، ومثلهم مئات في مراكز نزوح أخرى في المدينة والقرى المجاورة.

رجال يقتلون الوقت في نقاشات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وأولاد يلعبون في حديقة متواضعة، ونساء يتدبرن أمور الحياة، وجميعهم يربون الأمل فقط من أجل عودة قريبة.

لم يتخيل نظمي تركمان أنه سيكون نازحاً يوماً، وقال إن الموقف صعب وحزين للغاية.

وأضاف: «شفت بحياتي كتير. عشت اجتياحات وقتل وضرب وهدم بس هاي المرة غير».

ومثل غيره، يتسلل تركان إلى المخيم كل يوم مأخوذاً بالحنين: « كل يوم برجع بروح بتفرج على البيت المحروق».

سألته أيضاً: ماذا سيفعل بعد انتهاء العملية؟ فأجاب مثل الآخرين: «راجعين مش بس على المخيم وبدنا نرجع كمان على 48. بفكروا يهجرونا من المخيم لا! أنا من حيفا وبدي أرجع على حيفا».

زوجة محمود الرخّ وابنته تحاولان تفادي القناص للوصول إلى المنزل وسحب حاجيات ضرورية (الشرق الأوسط)

غضب على السلطة

وصلت سيارات إلى المكان تحمل بعض المساعدات التي بدت متواضعة، ولا تلبي الاحتياجات، وبعد أيام قليلة فقط أصدر رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى توجيهات بتوفير الإيواء والإغاثة اللازمة للنازحين في محافظات شمال الضفة الغربية، خاصة في مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس.

لكن الحاجة حليمة، وهي معروفة على نطاق واسع في المخيم ونزحت هي الأخرى منه إلى مركز المكفوفين لم تكن راضية عن دور السلطة.

وقالت الحاجة حليمة، وهي عضو سابق في اللجنة الشعبية في مخيم جنين، إن المخيم دفع ثمناً كبيراً عندما حاصرته السلطة في السابق.

وأضافت بكثير من الألم: «شوف بعد كل هذا العمر وين صرنا إشي بحزن إشي قاتل بالآخر نتشرد من دورنا».

تفهم الحاجة حليمة أن الحرب الحالية أكبر من مجرد عملية، وتعتقد أنها تستهدف حق العودة باستهداف المخيمات ووكالة «أونروا».

في أثناء ذلك، كانت إسرائيل تعيد في مخيم نور شمس بطولكرم ما فعلته في مخيم جنين.

لقد بدت حرباً واضحة على المخيمات. لكن الحاجة حليمة استخفت بهم وبحربهم وقالت: «أنا مولودة بالمخيم وراح أرجع... وزي ما بقول المثل: المربى قتال».