بعد المتاهة الكبرى التي أفقدت الحياة نكهة الإيقاع وحجرت عليها وراء قضبان عزلة تفترس الوقت وتفتك بالأحلام، تطلّ مدريد برأسها خارج الشاشات الصغيرة، تائقة إلى الينابيع التي كانت تروي عطشها وساعية إلى التلاقي الذي صار هو الخلاص.
وفي حين يتساقط العمر حبّاتٍ مهزومة على طريق المجهول الذي صار بيتاً لمعيشة ليست سوى مبعث ضجرٍ كثيف يتثاءب على الأيام، بدأت المدينة تكتشف جراحاً جديدة في جسدها الذي يأبى أن يترهّل، وتفتح عيوناً فارهة على عذابات صامتة تتسلّل من ثقوب العوز وتخرج إلى الضوء ملثّمة تستجدي الحياة من الحياة التي سارت تشبه كل شيء ما عدا الحياة. أكثر من 100 ألف مواطن يصطفّون كل صباح في طوابير الجوع التي صارت مشهداً مألوفاً في شوارع المدينة، ينتظرون دورهم للحصول على أكياس الطعام الذي أصبح جرحاً آخر يحمل توقيع الوباء الذي كشف عورات الرفاه وهزالة القوّة في الدول الغنيّة.
بعد أقلّ من شهرين على إعلان حالة الطوارئ لاحتواء جائحة «كوفيد - 19»، لم يعد الطعام يجد طريقه إلى موائد عشرات الآلاف من العائلات سوى عن طريق خدمات الإعاشة الاجتماعية والجمعيات الخيرية في أحياء العاصمة التي توزّع الحليب والأرز والسكّر والخبز والمعلّبات على الوجوه التي أخرجتها الفاقة من خجل التسوّل في هذه العاصفة الصامتة التي تهبّ على العالم.
«أيها الناس! انظروا، هذه ليست فنزويلا!» يقول أحد أبناء المدينة في شريط مصوّر لأحد هذه الطوابير حمّله على وسائل التواصل الاجتماعي. مسنّون ينتظرون ساعات كل يوم على أبواب مراكز الخدمات الاجتماعية التابعة للبلدية وعشرات الجمعيات التي تشكّلت في الأحياء خلال الأسابيع الأخيرة، للحصول على المساعدات الغذائية الأساسية، في حين تسجّل مبيعات اللحوم والأسماك والخضراوت والفاكهة أرقاماً قياسية في متاجر الأغذية.
في المراكز الرسمية للخدمات الاجتماعية المخصصة للأنشطة الرياضية والترفيهية، تتكدّس أطنان المواد الغذائية التي توزّع كل يوم على عائلات لم يسبق أن واجهت مثل هذا الوضع، لكن الأزمة وما نشأ عنها من تداعيات، خاصة على صعيد العاطلين عن العمل الذين يقدّر عددهم بنحو نصف المليون في العاصمة، دفعت بها للخروج إلى الضوء وطلب المساعدات الغذائية لأول مرة. أكثر من 6 آلاف متطوّع يشاركون في جمع هذه المساعدات وتوزيعها في المراكز وعلى العائلات المحتاجة، ويقول مسؤول عن إحدى المنظمات غير الحكومية، إن المواطنين يتبرّعون بسخاء، وإن المساعدات التي تقدّمها الأجهزة الرسمية والبلدية ليست كافية، وإن الاحتياجات سوف تتضاعف إذا استمرّت الأزمة خلال فصل الصيف.
الأوساط الرسمية لا تخفي قلقها الشديد من التداعيات الاجتماعية والاقتصادية لهذه الأزمة التي يتعذّر التكهّن بمآلها وتطوراتها الوبائية في الوقت الحاضر. ورئيس الوزراء بيدرو سانتشيز، الذي يتعرّض لمعارضة يمينية شرسة في كل خطوة يقدم عليها منذ بداية الأزمة، يواجه الآن ضغوطاً من حلفائه الشيوعيين في الحكم لفرض ضريبة جديدة بنسبة واحد في المائة على الثروات الكبرى للمساهمة في جهود الإعمار بعد الأزمة، عارفاً أن رفضه لها سيفقده كثيراً من شعبيته التي ما زالت ثابتة بفضل الإجراءات الاجتماعية التي اتخذتها حكومته، ورغم التعثّر الواضح في إدارتها للأزمة الصحية التي أوقعت حتى الآن أكثر من 27 ألف ضحيّة وما يزيد على 228 ألف إصابة.
ويفيد التقرير الأخير للمركز الإسباني للبحوث الاجتماعية، وهو هيئة مستقلّة موثوقة وموصوفة برصانتها، بأن التداعيات الاجتماعية لهذه الأزمة لن تقلّ خطورة عن التداعيات الصحيّة والاقتصادية، وأن معالجتها ستكون أصعب على المدى الطويل، خاصة في أوساط الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. هي أزمة لا تشبه بشيء غيرها من الأزمات سوى أنها تُعمِل أنيابها بشراسة أكبر في لحم الفقراء والضعفاء.
الجوع يطلّ على مدريد من نافذة الوباء
الجوع يطلّ على مدريد من نافذة الوباء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة