مدوِّنات الموضة العرب بإطلالات رمضانية تتحدى «كورونا»

تداعيات الفيروس فرضت نفسها على سوق أزياء العباءات

المصرية نهى الشربيني
المصرية نهى الشربيني
TT

مدوِّنات الموضة العرب بإطلالات رمضانية تتحدى «كورونا»

المصرية نهى الشربيني
المصرية نهى الشربيني

ضمن محاولات تحدي عزلة وباء «كورونا» خلال شهر رمضان، ظهر عدد كبير من مدوِّنات الموضة العرب بإطلالات رمضانية مميزة لفتت الأنظار، ونالت إعجاب المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ لم يتخلّ معظمهن عن الإطلالات الموسمية العصرية، سواء العباءة أو القفطان، ولكسر حالة التباعد الاجتماعي، ظهر أغلب المدوِّنات العرب بتشكيلات حديثة، على غرار «الإنفلونسير» الكويتية نهى نبيل، التي تطل كل يوم بعباءة أو قفطان مزدان بنقوش مستقاة من تراث رمضان، وكذلك مواطنتها فوز الفهد، التي اعتمدت تشكيلة من العباءات العصرية جميعها لمصممين محليين، هذا بالإضافة إلى الظهور اللافت للمدوِّنات فاطمة المؤمن، وألين سليمان، وتمارا جمال، وأمل العوضي.
إطلالة العباءات والقفاطين الرمضانية لم تقتصر على الشخصيات البارزة في دول الخليج العربي فحسب، بل امتدت لتشمل مدوِّنات مصريات من بينهن: نهى الشربيني، ومنة الفكهاني، وشيرين نيازي، وجينا عادل، وندى نصر، وميار قابيل، ودينا الختام، ورغدة هشام، والمذيعة رانيا السيد، واللاتي قمن بنشر فيديو جماعي لاستعراض أزيائهن خلال شهر الصوم، والتي جاءت بتوقيع عدد من المصممين المصريين الشباب، واستغلت المدوِّنات ظهورهن لحث المتابعين على البقاء في منازلهم.
وكان الموسم الرمضاني فرصة لدور الأزياء الكبيرة ومصممي الموضة لترويج إصداراتها من العباءات، ويرجع الفضل في ذلك إلى العلامة الإيطالية «دولتشي أند غابانا»، التي لفتت الانتباه إلى سوق الخليج العربي الذي يعد صاحب قدرة شرائية لا يُستهان بها، فبعدما قدمت «غابانا» تشكيلة من العباءات الخليجية في 2016 سارت على دربها علامات أخرى من بينها «كارولينا هيريرا»، و«أوسكار دي لارنتا»، و«روبرتو كافلي»، و«توري بورش»، و«فندي» و«جيمي تشو»، كذلك متاجر شهيرة مثل «مانغو» و«إتش أند إم»، حرصت على تقديم أزياء مُحافظة خصوصاً خلال شهر رمضان، مستوحاة من التراث العربي، مثل القفطان والعباءة وحتى الجلابيات التراثية، كذلك أثرت علامات راقية مثل «كارتير»، و«تيفاني أند كو»، وأيضا دار «سواروفسكي»، مظهر المرأة العربية بقطع فريدة من المجوهرات المخصصة للموسم الرمضاني.
ووفقاً لخبراء صناعة الموضة، فإن مبيعات شهر رمضان بلغت 15% من الإيرادات السنوية للعلامات التجارية التي لديها متاجر فعلية في مراكز التسوق في الشرق الأوسط، حسب مجلة «فوغ بزنيس»، لكن هذا العام جاءت جائحة «كورونا» لتُغير المشهد، مع إغلاق مراكز التسوق، فإن الأرباح المعتادة أصبحت غير مؤكدة.
مصممة الأزياء التراثية رنا مدكور، تقول لـ«الشرق الأوسط» إن «استثمار العلامات البارزة في مواسم استثنائية، مثل رمضان، هو بمثابة فرصة لبناء علاقة مباشرة مع زبائن سوق الشرق الأوسط، أكثر من كونه ربحاً مادياً موسمياً، فهناك تقارير سابقة أشارت إلى أهمية سوق الموضة في الشرق الأوسط. توقعت أن يصل سوق الأزياء في الشرق الأوسط إلى 368 مليار دولار بحلول عام 2021 لكن بعد جائحة (كورونا) أصبح المشهد ضبابياً يصعب تحليله».
تداعيات جائحة «كورونا» فرضت نفسها على إغلاق المحال التجارية، والتباعد الاجتماعي في معظم دول العالم، كما أثّرت سلباً على سلوك دور الأزياء التي اعتادت الاستثمار في شهر رمضان، فحجم الدعاية التسويقية التي طرحها بعض الدور محدودة للغاية، حتى إن دوراً راقية مثل «دولتشي أند غابانا» و«توري بورش» ألغت احتفاليات السحور التي كانت بصدد إقامتها خلال الشهر الكريم، وهو ما يمثل صفعة قوية لهذه الكيانات، لكن في الوقت نفسه هناك محاولات لتخطي الأزمة.
وترى مدكور أن «الأزمة الحالية ربما تؤثر على صغار المصممين بشكل أكثر قسوة مقارنةً بالدور البارزة، لاسيما أنه بالنسبة للمصممين المحليين، فإن هذا الوقت من العام له أولوية لأنه يعزز تقاليد الشرق الأوسط».
وتروي مدكور تجربتها في تصميم تشكيلات رمضان العام الجاري قائلة: «بدأت في رسم تصميمات التشكيلة الخاصة برمضان منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أي قبل ظهور جائحة (كورونا)، وانتهيت من التنفيذ خلال شهر فبراير (شباط)، وهنا وجدت نفسي أمام أمر واقع لا مفر من التعامل معه، وهو زيادة الاهتمام بالبيع الإلكتروني الذي كنت بدأت العمل به من قبل رغم امتلاكي متجراً، ما ساعدني على تخطي الأزمة، ونجحت في تسويق التشكيلة من خلال المنصات الإلكترونية، لكن المبيعات بالطبع أقل من العام الماضي».
وبسبب طول مدة وباء «كورونا»، أصبح البيع الإلكتروني بمثابة طوق نجاة لتجار التجزئة والعلامات التجارية، وتؤكد مصممة الأزياء التراثية دنيا الجندي، أن «البيع الإلكتروني لا يعد الحل السحري في الشرق الأوسط، لأن التسوق الفعلي يمثل نشاطاً ترفيهياً للمرأة العربي».
فيما تتوقع رنا مدكور أن يكون السلوك الإنفاقي للمرأة العربية بشكل عام، والخليجية بشكل خاص، من ضمن وسائل إنقاذ الأزمة الراهنة، موضحة: «كثير من النساء في الشرق الأوسط يملن إلى اعتماد الأزياء الرمضانية في المنزل، لا سيما مع ثقافة منزل العائلة الذي يجمع أكثر من أسرة»، وتلفت: «لديّ زبائن من السيدات في الإمارات والكويت والسعودية والأردن، اعتدن على اعتماد القفطان والجلابية المزدانة بالتطريزات التراثية في المنزل، وأظن أنهن بحاجة إلى ارتداء هذه الأزياء الرمضانية لكسر حالة الملل التي نعيشها».
تخفيض الأسعار أيضاً، من ضمن الحلول التي طرحتها المصممة دنيا الجندي للخروج من الأزمة: «الأوضاع الحالية غيّرت الأولويات، وجعلت الأزياء في ذيل الاهتمامات، من ثم نضطر لتخفيض الأسعار من جانب، وتقديم تشكيلات محدودة من جانب آخر، للحد من الخسائر».


مقالات ذات صلة

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

يوميات الشرق وحدها الثقة بمَن يعمل معهم تُخفّف الحِمْل (صور المخرج)

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

ينظر المخرج السوري سامر البرقاوي إلى ما قدَّم برضا، ولا يفسح المجال لغصّة من نوع «ماذا لو أنجرتُ بغير هذا الشكل في الماضي؟»... يطرح أسئلة المستقبل.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق تعبُ مصطفى المصطفى تجاه أن يكون الدور حقيقياً تسبَّب في نجاحه (صور الفنان)

مصطفى المصطفى: ننجح حين نؤدّي الدور لا وجهات نظرنا

اكتسبت الشخصية خصوصية حين وضعها النصّ في معترك صراع الديوك. بمهارة، حضن الديك ومنحه الدفء. صوَّره مخلوقاً له وجوده، ومنحه حيّزاً خاصاً ضمن المشهد.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

بين الوجوه ما يُنجِح الصورة من المحاولة الأولى، وبينها غير المهيّأ للتصوير. يتدخّل أحمد الحرك لالتقاط الإحساس الصحيح والملامح المطلوبة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق الفنان المصري دياب حمل السلاح من أجل «مليحة» (الشرق الأوسط)

دياب: لن أجامل أحداً في اختيار أدواري

أكد الفنان المصري دياب أنه وافق على مسلسل «مليحة» ليكون بطولته الأولى في الدراما التلفزيونية من دون قراءة السيناريو، وذكر أنه تعلّم حمل السلاح من أجل الدور.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق استلهمت الكثير من نجمي العمل بسام كوسا وتيم حسن (إنستغرام)

فايا يونان لـ«الشرق الأوسط»: الشهرة بمثابة عوارض جانبية لا تؤثر عليّ

تابعت فايا يونان دورها على الشاشة الصغيرة في مسلسل «تاج» طيلة شهر رمضان. فكانت تنتظر موعد عرضه كغيرها من مشاهديه.

فيفيان حداد (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)