«سكر زيادة»... لقاء فريد بين فنانتين وفرصة العمر الضائعة

عادل إمام في «فلانتينو»
عادل إمام في «فلانتينو»
TT

«سكر زيادة»... لقاء فريد بين فنانتين وفرصة العمر الضائعة

عادل إمام في «فلانتينو»
عادل إمام في «فلانتينو»

علت الاحتجاجات ضد حلقات مسلسل «رامز مجنون رسمي» وتسابقت المواقع لنشر ما يُقال حول هذا البرنامج والمبررات المسوقة لإيقافه. وهي مبررات وجيهة بلا ريب، وإن كانت الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع ما زالت في إطار التكهنات. ربما تنجح هذه الاحتجاجات، ومن بينها ما صدر عن نقابة المهن الفنية في مصر، في إيقاف بثّ البرنامج وقد لا تنجح. المسألة مدوّية، لكنها ليست بسيطة.
شخصياً، وجدت نفسي ابتسم مرّات عدة حين شاهدت بعض حلقات المسلسل. إنها الابتسامة ذاتها التي تجد طريقها إلى شفتي حين كنت أشاهد فيلماً لإسماعيل يس أو جيري لويس.
رامز جلال شخصية ذكية تعرف ما تفعل وتفعل ما تقرره من دون وجل. الدقائق العشر الأولى من كل حلقة، تلك التي يبث فيها تعليقاته حول ضيوفه، هي التي تستدعي الابتسام. يلقي النكات بطلاقة وبلا تردد وتصدر عنه السخرية كمدفع رشاش يحصد ما أمامه.
بعد ذلك، البرنامج سخيف وقاسٍ ومجحفٌ بحق ضيوفه. لكن اللوم يجب ألا ينحسر في شخص رامز جلال، ولا في الشركة التي تنتج برنامجه، ولا في المحطة التي تبثّ هذا البرنامج. الثلاثة مذنبون بلا ريب، ومسؤولون بلا تردد عن توفير برنامج يقوم على نصب الفخاخ لضيوفه وممارسة لعبة قهر علنية.
لكن المسألة لا تتوقف عند مسؤولية هذه الجهات الثلاث. هناك الضيوف الذين يعرفون من هو رامز جلال ويوقّعون على عقد الظهور معه، خصوصاً من بعد اطلاعهم على المبلغ المغري الذي سيقبضونه. هناك كذلك الجمهور الذي يتابع هذا المسلسل ويواظب عليه ضاحكاً ومتسلّياً أو خائفاً. والرهط الكبير من المعلنين… ذلك السبب الأساسي في نجاح توليفة رامز منذ البداية.
رامز ذكي من حيث إنه احتاط لنفسه قانوناً ولم يلوِ ذراع أحد لإجباره على قبول الظهور في برنامجه. ذكي من حيث يعرف كيف يسلّي المشاهدين في بيوتهم ويلعب على أعصابهم ويمارس النكتة المغمّسة بالألم. ثم ذكي من حيث علمه كيف يبقى ناجحاً رغم كل الاحتجاجات؛ بل بسببها أيضاً. هل هو مستاء من الهجوم عليه؟ هل شركة الإنتاج ومحطة البثّ مستاءتان مما يُقال بحق البرنامج؟ طبعاً لا.
الجمهور وحده هو من يستطيع وضع نهاية عملية لبرنامج «رامز مجنون رسمي»، إن لم يكن في هذا الموسم ففي الموسم المقبل؛ لأنه إذا ما قرر أن عليه أن يرتقي إلى درجة المسؤولية واتخاذ القرار وتوقف عن متابعة البرنامج، امتنع الإعلان، وإذا امتنع الإعلان امتنع الإنتاج، وبالتالي البثّ.
«فلانتينو» كَبُر ولم يكبر
لا أعرف ممثلاً كوميدياً عربياً سأل نفسه عن السبب في أن تشارلي تشابلن وبستر كيتون وجاك تاتي وقلة سواهم بقوا نماذج للكوميديين الأكثر نجاحاً حول العالم، في حين أن غالبية من أقدم على الكوميديا الصرفة لعب الدور ثم انتحى جانباً ولم ينل الإقبال والشهرة ذاتها.
ربما يُرجع البعض السبب إلى أن تشابلن وكيتون وتاتي وروبرتو بينيني ممثلون أجانب بأسواق عريضة مفتوحة أمام مواهبهم. لكن لو كانت هذه الحال لنجح آخرون كثيرون في السينما الغربية ما دامت تصل إلى كل مكان.
السبب الحقيقي هو أن الكوميدي الذي ما زلنا نضحك له كلما شاهدناه في فيلم له، لعب طويلاً وعلى نحو دائم، شخصية الرجل - الضحية. يخطئون أكثر مما يصيبون. يسقطون. يُطاردون. يدافعون عن أنفسهم بأقل الأدوات المتاحة. هم ضحايا تقدم صناعي تركهم وحيدين في محيط لا يعترف بهم (أفلام جاك تاتي نموذج جيد، كذلك كل أعمال بستر كيتون، وغالبية أفلام تشارلي تشابلن وهارولد لويد).
لو انتقل أحدهم، مباشرة من بعد شهرته، لوضع المتسيّد أو الماهر الذي لا يمكن لأحد أن يوقع به (بالمصري «الفهلوي») ولو أصبح على مكانة تؤهله للاتصال بالوزير (كما يكرر عادل إمام في مسلسلاته وعندما كان يظهر في الأفلام) لفقد بريقه وتحوّل إلى ظل من الأمس تائه في ركب اليوم.
«فلانتينو»، الذي كان من بين أوائل المسلسلات التي تناولناها هنا، يدخل حلقته الثانية عشرة، وما بدأ من تصوير بطله عادل إمام على قدر من السُلطة (تحت سُلطة زوجته) بات الآن سُلطة مطلقة ولو على محيطة المباشر.
هذا لا يمنعه في أحد المشاهد من الحديث عن اتصال هاتفي مزمع مع الوزير. ولا يمنعه من أن يقول دفاعاً عن سنوات عمره (في المسلسل) إنه ما زال قوياً «ولا شلال نياغرا». وحين يعود مع إحدى الفتيات الشابات من جولة قاما بها تبحلق به معجبة وتؤكد له أنها استمتعت بصحبته وتوعز بأنه ملك قلبها وحواسها. وهو في المقابل يسبل عينيه ويوحي للمشاهدين بأنه ما زال معبودَ النساء ودون جوان خطيراً.
في أفلامه السابقة أدّى شخصية مختلفة. شخصية يجوز لها أن تقع وتقف ثم تقع من جديد... أن تُصاب بخيبات الأمل وتكشف عن قدراتها المحدودة إزاء عالم متغير أو مجتمع لا يرحم. لكنه ترك شخصية المظلوم وتحوّل إلى شخصية القادر على بسط سلطته كيفما توجه بها ولم ينسَ، مسلسلاً بعد مسلسل، الظهور بمظهر الرجل الذي بات ينعم بالجاه والسُلطة والاتصالات القوية. لقد آثر الانتقال من تمثيل دور الضعيف إلى دور القوي، وبذلك لم يعد لديه، ومهما حاول المسلسل فعله، أن يقدّمه بإقناع أو بقناعة.
«سُكّر زيادة» ليس زيادة
الجمع بين نادية الجندي ونبيلة عبيد لأول مرّة (سينما أو تلفزيون) لا بد من أنه بدا للشركة المنتجة (شركة الصبّاح - لبنان) «خبطة» العمر. هما لم تلتقيا من قبل، وكانتا على طرفي نقيض في سباق الشهرة في السبعينات وما بعد، وكلتاهما تحوّلت إلى أيقونة من زمن بعيد. ثم كلتاهما لا تجد كثيراً من العروض المتاحة لعودتها إلى الشاشة على نحو متواصل كما حال الممثلات والممثلين الشبّاب.
إذن؛ نعم هي «خبطة» ناجحة بالمعيار الإنتاجي أدّت إلى إشراكهما في بطولة «سكّر زيادة» (تلفزيون دبي) الذي هو ليس بالمسلسل القصصي الكامل، بل «سيتكم شو» يتألف من 30 حلقة؛ كل حلقة تدور (غالباً) داخل بيت - استوديو ليحكي قصّة محددة متصلة - عبر شخصياتها الرئيسية الثلاث (عبيد والجندي وهالة فاخر) - بالحلقة السابقة، لكن مع حكاية صغيرة جديدة في كل مرّة.
يروي الإطار الكبير لمسلسل «سُكّر زيادة» (وهو عنوان مسرحية مصرية كوميدية تم تقديمها سنة 1985 من بطولة معالي زايد وأبو بكر عزت وعبد الله فرغلي) حكاية امرأة اسمها كريمة (نبيلة عبيد) التي تخلت عن كل أملاكها لابنها واشترت ڤيلا جميلة. قبل أن تصل إليها تنتقل عصمت (نادية الجندي) التي طلقها زوجها حديثاً ومعها صديقتها جميلة (هالة فاخر) إلى الڤيلا ذاتها بسبب قيام صاحبة الملك ببيعها للاثنتين قصداً وعمداً ثم الهرب بما جنته.
ما يرد في كل حلقة مواقف ومشاكسات كوميدية، فإلى أن يتم البت في هذا الوضع لا بد من أن يتعايشا، ولو أن كريمة تخطط (في إحدى الحلقات القريبة) لتخويف عصمت ودفعها لترك البيت عن طريق استئجار رجلين يروّعان عصمت وصديقتها مدعيين أنهما صاحبا العقار ذاته.
تدرك كيف ستتصرف إحدى الممثلات وكيف سيكون رد فعل الممثلة الأخرى. وفي كثير من المواقف تذهب بك الذاكرة إلى أيام ما كانت تزخر به الأفلام والمسلسلات قديماً من مواقف مشابهة وحوارات متكررة (هناك كثير منها في مسلسل «فلانتينو» أيضاً) وافتعال مواقف كل موقف منها هو ملجأ لا خيار للممثلة سواه.
بين الممثلات الرئيسيات الثلاث ما زالت نبيلة عبيد تضيف إلى الدور، وهو ما يميزها عن منافساتها. بعض الابتسامات تتوزع هنا وهناك، لكن هذه «الخبطة» لم تُصدر في نهاية الأمر الدويّ المطلوب، ولا احتوت على ما يكفي من مهارات إنتاج وتأليف وإخراج لمنح الممثلات ما هو أجدى من تلك المواقف الساذجة في أحيان كثيرة.


مقالات ذات صلة

«العلاقات المشوهة» تجلب الانتقادات لصناع «وتر حساس» في مصر

يوميات الشرق لقطة من مسلسل «وتر حساس» (حساب صبا مبارك على «إنستغرام»)

«العلاقات المشوهة» تجلب الانتقادات لصناع «وتر حساس» في مصر

تعرَّضت بطلات المسلسل المصري «وتر حساس»، الذي يُعرَض حالياً، لانتقادات على «السوشيال ميديا»؛ بسبب ما وصفها البعض بـ«علاقات مشوهة».

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق لقطة من مسلسل «رقم سري» (الشركة المنتجة)

«رقم سري» يناقش «الوجه المخيف» للتكنولوجيا

حظي مسلسل «رقم سري» الذي ينتمي إلى نوعية دراما الغموض والتشويق بتفاعل لافت عبر منصات التواصل الاجتماعي.

رشا أحمد (القاهرة )
يوميات الشرق زكي من أبرز نجوم السينما المصرية (أرشيفية)

مصر: تجدد الجدل بشأن مقتنيات أحمد زكي

تجدد الجدل بشأن مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، بعد تصريحات منسوبة لمنى عطية الأخت غير الشقيقة لـ«النمر الأسود».

داليا ماهر (القاهرة)
يوميات الشرق تجسّد شخصية «دونا» في «العميل» (دانا الحلبي)

دانا الحلبي لـ«الشرق الأوسط»: لو طلب مني مشهد واحد مع أيمن زيدان لوافقت

تُعدّ تعاونها إلى جانب أيمن زيدان إضافة كبيرة إلى مشوارها الفني، وتقول إنه قامة فنية كبيرة، استفدت كثيراً من خبراته. هو شخص متعاون مع زملائه يدعم من يقف أمامه.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق آسر ياسين وركين سعد في لقطة من المسلسل (الشركة المنتجة)

«نتفليكس» تطلق مسلسل «موعد مع الماضي» في «القاهرة السينمائي»

رحلة غوص يقوم بها بعض أبطال المسلسل المصري «موعد مع الماضي» تتعرض فيها «نادية» التي تقوم بدورها هدى المفتي للغرق، بشكل غامض.

انتصار دردير (القاهرة )

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)