اكتشاف آثار في البحرين تزيل الغموض عن «جنة دلمون» المفقودة

حفريات تظهر ازدهار المسيحية في الخليج خلال القرنين الخامس والسابع الميلادي

جانب من التنقيبات التي قامت بها الفرق اليابانية والبريطانية والدنماركية والفرنسية
جانب من التنقيبات التي قامت بها الفرق اليابانية والبريطانية والدنماركية والفرنسية
TT

اكتشاف آثار في البحرين تزيل الغموض عن «جنة دلمون» المفقودة

جانب من التنقيبات التي قامت بها الفرق اليابانية والبريطانية والدنماركية والفرنسية
جانب من التنقيبات التي قامت بها الفرق اليابانية والبريطانية والدنماركية والفرنسية

أعلنت هيئة البحرين للثقافة والآثار في البحرين خلال مؤتمر صحافي بثّته عبر الإنترنت أمس، عن العديد من الاكتشافات الأثرية الجديدة في البحرين تعود لآلاف السنين، بينها مكتشفات يعتقد أنها تمثل دليلاً على «حديقة دلمونية» الشهيرة.
وظهرت نتائج أعمال التنقيبات الأثرية المستمرة في البحرين التي تمّت بالتعاون مع عدد من بعثات التنقيب الدولية اليابانية، والبريطانية، والدنماركية والفرنسية.
وتحدث في المؤتمر الصحافي كل من الشيخة مي بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، والشيخ خليفة بن أحمد آل خليفة مدير إدارة المتاحف والآثار بهيئة الثقافة. وجاء الكشف عن هذه الآثار بالتزامن مع اليوم العالمي للمواقع الأثرية الذي يوافق 18 أبريل (نيسان) من كل عام.
وعن آخر المكتشفات الأثرية لأعمال التنقيب في مملكة البحرين، قالت الشيخة مي آل خليفة إنّ أحد أكثر الاكتشافات أهمية لهذا العام هو ما يعتقد أنّه دليل على «حديقة دلمونية». وأوضحت أنّ هذا الاكتشاف يتماشى مع ما يُتداول من أساطير بأنّ دلمون «جنة مفقودة» ومع النظريات التي تطرح بشكل علمي تميز دلمون بالخضرة والزرع ومياه الينابيع الوفيرة، مشيرة إلى أنّ الدراسات القادمة ستؤكد ما اكتشفه المنقبون حول هذه الفترة من تاريخ مملكة البحرين.
ونوّهت الشيخة مي بأنّ اكتشافاً أثرياً هاماً آخر هذا العام نُقّب عنه في منطقة سماهيج في المحرّق، حيث كُشف عن مبنى يعود إلى القرن السابع الميلادي، وقالت إنّ هذا المبنى «ربما يكون ديراً أو كنسية، كانت سماهيج مركزاً للمسيحية قبل ظهور الإسلام وبعده، ومن هنا نستدل على التاريخ الطويل للتسامح الديني الذي تتمتع به مملكة البحرين».
وتابعت الشيخة مي آل خليفة القول إنّ هناك الكثير من المكتشفات الجديدة، موضحة أنّها المرة الأولى التي يقوم فيها الفريق الدنماركي بأعمال تنقيب أثرية في موقع قلعة البحرين منذ عام 1978 في محاولة لإماطة اللثام عن بقايا أثرية لم يُكشف عنها مسبقاً، إضافة إلى كشوفات أثرية في منطقة مقابة التي أثمرت الكشف عن مدافن من فترة تايلوس (نحو القرن الأول إلى الثاني قبل الميلاد) ومن فترة دلمون المبكرة (الألفية الثانية قبل الميلاد)، إضافة إلى بقايا مسجد ومقبرة.
كما تحدث الشيخ خليفة بن أحمد آل خليفة خلال المؤتمر، مشيراً إلى ما قام به الفريق البريطاني - البحريني من مركز الآثار الإسلامية بجامعة أكسيتر في المملكة المتحدة وهيئة البحرين للثقافة والآثار بأعمال تنقيب في موقعين بالمحرق لهذا العام، وذلك برئاسة البروفسور تيموثي أنسول، مشيراً على أنّ الموقع الأول يوجد بمدينة المحرق القديمة وقد أظهرت نتائج التنقيب وجود بقايا لاستيطان يعود للفترة الإسلامية المبكرة، نحو القرن الثامن الميلادي والفترة المتأخرة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي.
وأوضح أنّ الموقع الثاني يقع على تل مسجد الشيخ مالك في مقبرة سماهيج. وأشار إلى أنّ العمل في الموقع بُوشر بناء على طلب من قبل أهالي سماهيج والأوقاف الجعفرية لاستكشاف بقايا مسجد قديم يعرف باسم مسجد الشيخ مالك؛ وذلك بهدف بحث إمكانية ترميمه أو إعادة بنائه. واستطرد قائلاً إن نتائج التنقيب أدت إلى استيضاح معالم وجدران المسجد الذي تبين أنّه يتكون من غرفة الصلاة والفناء المكشوف، إلّا أنّ أعمال التنقيب كشفت وجود جدار أسفل جدار القبلة يعود لبناء آخر أقدم من المسجد ويوجد به انحراف عن اتجاه القبلة.
وخلال آخر مراحل مشروع التنقيب نهاية العام الماضي، اتضح وجود بقايا مبنيين، المتأخر عبارة عن مسجد يعود حسب رواية الأهالي إلى القرن السابع عشر الميلادي. والمبنى المبكّر عبارة عن مبنى كبير ربما كان جزءاً من دير أو منزل كبير أو كنيسة.
وبناء على دراسة الفخار المكتشف في الموقع بواسطة البروفسور روبرت كارتر، تبيّن أنّ تاريخه يعود إلى القرن السابع الميلادي ومن المحتمل أن يكون المبنى مشغولاً ومأهولاً في القرن السابع الميلادي قبل اعتناق أهالي هذه المنطقة للإسلام. ويتكون المبنى من عدة غرف مزينة بالجص المنحوت أو المزخرف، حيث عُثر على قطعة حجرية تالفة عليها نقش صليب. فيما عُثر على صليب آخر ملون على كسرة وعاء فخاري مزجج.
وتشير المكتشفات الأثرية في الموقع إلى أنّه من المحتمل أنّ هؤلاء المسيحيين كانوا جزءاً من الكنيسة النسطورية التي ازدهرت في الخليج على الأرجح بين القرنين الخامس والسابع الميلادي.
وحول مشروع التنقيب في مزرعة جمعة الواقعة في منطقة مقابة، قال الشيخ خليفة بن أحمد آل خليفة إنّ الموقع يتكوّن من ثلاثة عناصر أساسية هي تلة تايلوس، الجامع والمقبرة والمناطق الصخرية.
وأشار إلى أنّه وللمرة الأولى في مملكة البحرين يُعثر على مزرعة أو «حديقة دلمونية»، وجدت أسفل تلة تايلوس. وتتكون هذه الحديقة من أحواض مربعة تتصّل ببعضها بعضاً بواسطة مجار ضيقة لنقل المياه ويبلغ عددها 335 حوضاً، وقد تم أخذ عينات من تربة الأحواض لمعرفة نوعية النباتات التي كانت تزرع في هذه الأحواض.
أمّا في التلة التي تضمّ مدفناً من فترة تايلوس، فعُثر على 16 قبراً مبنية بالحجارة والجص فوق سطح الأرض بمستويات مختلفة، كما عثر على جرّتي دفن صغيرتين استخدمتا لدفن الأطفال.
أمّا بالنسبة لمشروع توثيق خرائط تلال مدافن دلمون ورسمها، فقال الشيخ خليفة بن أحمد آل خليفة إنّه يهدف إلى توفير مجموعة بيانات شاملة لتلال المدافن في فترة دلمون المبكرة. فبينما تشير التقديرات إلى وجود أكثر من 80 ألف تلة دفن في تلك الفترة، فإنّ أعمال التوسع العمراني الكبيرة والواسعة النطاق منذ الستينات والسبعينات أدّت إلى تدمير العديد منها. ورغم الجهود الهائلة التي بذلتها إدارة المتاحف والأثار بالتعاون مع العديد من علماء الآثار إلّا أنّ هناك الكثير من الحقائق لم يُكشف عنها بشكل كامل، مثل البيانات الطبوغرافية، والأعداد الدقيقة لتلك المدافن، وأنماط توزيعها والعلاقة بين تلال الدّفن والتضاريس.
ونوّه الشيخ خليفة بن أحمد آل خليفة، بأنّ هيئة البحرين للثقافة والآثار مع الفريق الياباني للآثار نفّذت مشروعاً مدّته خمس سنوات باسم (توثيق ورسم خرائط تلال مدافن دلمون). وسيتم خلال مدة المشروع تنفيذ سلسلة من المسوحات الطبوغرافية الشاملة في مدافن دلمون المبكرة باستخدام الطائرات من دون طيار (الدرون) وتقنية النمذجة ثلاثية الأبعاد لتوثيق تلال المدافن. وقد غطى الموسم الأول من هذا المشروع في يناير (كانون الثاني) 2020. التلال الملكية في عالي وحقل تلال مدافن عالي الشرقي، حيث تم الحصول على العدد الدقيق لحقل تلال مدافن عالي الشرقي وهو 3890 تل.


مقالات ذات صلة

لمسات أخيرة على خطة متكاملة لعرض الآثار المصرية

يوميات الشرق المتحف المصري الكبير (الشرق الأوسط)

لمسات أخيرة على خطة متكاملة لعرض الآثار المصرية

في إطار سعيها لتنويع المقصد السياحي الثقافي وتطويره، تعكف الحكومة المصرية على وضع اللمسات الأخيرة على خطة متكاملة لعرض الآثار، من خلال 43 متحفاً في 21 محافظة.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق كشف الألوان الأساسية بمعبد إدفو (وزارة السياحة والآثار المصرية)

مصر: اكتشاف نقوش ملوّنة نادرة للمرة الأولى بمعبد إدفو

كشفت البعثة المصرية الألمانية المعنية بترميم معبد إدفو بأسوان (جنوب مصر)، المكرّس لعبادة الإله حورس، عن الألوان الأصلية التي تزيِّن رسومات جدران المعبد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق متحف النيل بأسوان (فيسبوك)

مقتنيات أثرية وتاريخية للعرض المتحفي بـ«الري المصرية»

تسعى وزارة الموارد المائية والري المصرية إلى ترميم المقتنيات الأثرية والتاريخية والتراثية المرتبطة بتاريخ الري والزراعة في مصر، من بينها أطلس للخرائط القديمة.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق متحف يعرض حياة عائلة من إنسان نياندرتال في كهف بمتحف نياندرتال الجديد في مدينة كرابينا الشمالية في كرواتيا 25 فبراير 2010 (رويترز)

العزلة قد تكون أحد أسباب انقراض إنسان نياندرتال

أشارت دراسة عن إنسان نياندرتال من سلالة قضت 50 ألف سنة من دون تبادل جينات مع مجموعات أخرى، إلى احتمال أن يكون انقراض هذا الإنسان نتيجة لهذه العزلة الجينية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
العالم العربي «اليونيسكو» قلقة من نهب متاحف ومواقع أثرية في السودان من جراء الحرب الدائرة بين الجيش وقوات الدعم السريع (رويترز)

«اليونيسكو» قلقة من نهب متاحف ومواقع أثرية في السودان

تعرضت متاحف ومواقع أثرية عديدة تضم مجموعات «كبيرة» للنهب في السودان بحسب منظمة اليونيسكو التي حذرت اليوم الخميس من مخاطر تدمير التراث الغني أو الاتجار به.

«الشرق الأوسط» (باريس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)