لا نتائج سيئة في اجتماعات اليوم والغد

آخر مرة شهد فيها العالم اجتماعاً ضخماً بين كبار المنتجين والمستهلكين للنفط، كان في صيف 2008 في جدة، عندما اخترقت أسعار النفط حينها مستوى 100 دولار وواصلت الصعود، ما اضطر السعودية إلى عقد اجتماع طارئ لمنتدى الطاقة الدولي، الذي يتخذ من الرياض مقراً له، ويضم في عضويته كل الدول المؤثرة في الإنتاج أو الاستهلاك.
وأتذكر حينها كيف جاء وزير الطاقة الأميركي آنذاك صامويل بودمان للاجتماع وعلى وجهه علامات الضيق وعدم الارتياح، وخرج بعدها ببيان صحافي يحمل فيه الدول المنتجة مسؤولية ارتفاع أسعار النفط، نظراً لتزايد الطلب بشكل كبير مقابل قلة الاستثمارات في الطاقات الإنتاجية، وبالتالي محدودية الطاقة الفائضة التي يستخدمها العالم وقت الأزمات. وتجاهل بودمان دور الأسواق المالية والمضاربات في رفع أسعار النفط حينها.
وبنهاية العام انكشف الغبار، ورأينا أن الطلب كان ضعيفاً مع انهيار النظام المالي العالمي، وهبطت الأسعار من 147 دولاراً في يوليو (تموز) إلى مستوى الثلاثينات بنهاية العام، وقررت «أوبك» تحمل عبء موازنة السوق بمفردها في اجتماع وهران في الجزائر، وخفضت نحو 4.2 مليون برميل يومياً وكان هذا خفضاً تاريخياً، وكان الأمين العام السابق لمنظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) عبد الله البدري يعتبر هذا الاجتماع أفضل اجتماع للمنظمة حضره في حياته. وحضرت الشركات الروسية الاجتماع، لكنها لم تبد اهتماماً بالتخفيض.
ونحن اليوم (الخميس) وغداً (الجمعة) على أعتاب اجتماعين تاريخيين آخرين للمنتجين والمستهلكين لمواجهة أزمة كورونا، لكن «أوبك» اليوم ليست «أوبك» الأمس؛ كما أن السوق اليوم ليست السوق ذاتها حينها. إن «أوبك» منظمة فاعلة في وقت الأزمات، خاصة عند هبوط الأسعار، إلا أن السوق أصبحت أكبر من قدرتها على تحمل عبئها بمفردها. وتحول هذا العبء إلى تحالف «أوبك+» بقيادة السعودية وروسيا، الذي يضم 22 دولة، ومن المفترض أن يلعب هذا التحالف دوراً كبيراً في استقرار السوق النفطية، لكنه لم يحدث في هذه الظروف.
وسيجتمع التحالف اليوم عن بعد، وسينضم كثير من الدول من خارج التحالف إلى الاجتماع بصورة أو بأخرى؛ حيث تنوي ولاية ألبرتا النفطية في كندا وهيئة السكك الحديدية في تكساس الانضمام إلى الاجتماع. وحتى الآن لا توجد علامات تدل على أن هذا الاجتماع سيخرج بنتيجة واضحة أو مؤثرة في أسواق النفط في العالم، إذ كل السيناريوهات لا تزال مطروحة أمام الجميع، وتمت دراستها من قبل «أوبك» لعرضها على الكل، ومن بينها سيناريو تخفيض الإنتاج بنحو 10 ملايين برميل يومياً، أو التخفيض بأقل من ذلك أو عدم التخفيض نهائياً.
وحتى الآن كل التصريحات غير مشجعة، والمواقف متناقضة. إذ تريد الحكومة الأميركية من «أوبك+» أن تفعل شيئاً، لكنها لا تريد المشاركة في أي اتفاق دولي معها. وموقف الصناعة هناك مغاير لموقف الحكومة؛ حيث تسعى هيئة السكك الحديدية في تكساس لإقناع منتجي النفط الصخري في الولاية وغيرهم بتخفيض الإنتاج في اجتماع سيعقد يوم 14 أبريل (نيسان)، ومن هنا جاءت مشاركتها في اجتماع اليوم.
أما الشركات نفسها فلا تريد أن تكون جزءاً من الجهود الدولية، ولجأت إلى الحكومة الأميركية لحمايتها، من خلال إجراءات حمائية تخالف قوانين منظمة التجارة العالمية، مثل فرض رسوم حمائية على واردات أميركا من النفط الروسي والسعودي. والرئيس الأميركي دونالد ترمب يريد أن يتم احتساب الهبوط الطبيعي في الإنتاج الناتج عن ضعف الطلب وهبوط الأسعار كمشاركة أميركية في الجهود الدولية.
وروسيا أعلنت من خلال الكرملين أنها لن تقبل بهذا الأمر، وتريد من الولايات المتحدة تقديم تخفيض حقيقي، وليس مصطنعاً، رغم أنها تنوي تخفيض نحو 1 إلى 1.5 مليون برميل يومياً، بحسب مصادر روسية. وهذا قد يزيد من احتمالية عدم الاتفاق. الغريب أن الرئيس ترمب كان أول من هرول للاتصال بروسيا والسعودية لفعل شيء، وبناء على طلبه دعت السعودية الدول لاجتماع اليوم، والآن يتحدث عن عقوبات على البلدين، رغم تأييد بوتين له وبرقم 10 ملايين برميل، الذي اقترحه ترمب.
ولو خرج الجميع باتفاق على تخفيض 10 ملايين برميل يومياً، فإن هذا لا يكفي لإعادة استقرار السوق، بحسب تصريح المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، فاتح بيرول. وترى إدارة معلومات الطاقة الأميركية الفائض القادم في السوق بنحو 11.4 مليون برميل يومياً. والهبوط في الطلب يقدر بنحو 20 إلى 35 مليون برميل يومياً. وخلال 4 إلى 5 أسابيع ستمتلئ المخزونات النفطية بنحو 1.6 مليار برميل، ويتبقى 200 مليون برميل فائضة لا مكان لها. ولو عادت المصافي إلى العمل، وانتهت أزمة كورونا، فهذا لا يعني ارتفاع الطلب فجأة، لأن المخزونات ستضغط على الأسعار، وقد تلجأ لها المصافي. وفي أفضل الأحوال لن تتعافَ السوق تماماً قبل الربع الثالث من العام الحالي.
أمام هذه السيناريوهات القاتمة، هل الخيارات مؤلمة للسعودية وباقي دول «أوبك» التي تعتمد على النفط بشكل كبير؟ لديّ رأي مختلف، وهو أن الاتفاق من عدمه في صالح الجميع. لو كان هناك اتفاق فسوف تتحسن الأسعار، ويفرح الجميع وتتوازن السوق، ولو لم يكن هناك اتفاق فسوف تواصل السعودية ضخّ النفط بأسعار منخفضة، ويزيح المنتج صاحب التكلفة الأقل المنتج صاحب التكلفة الأعلى، وتتوازن السوق على فترة أطول، وتهيمن «أوبك» على حصة سوقية أكبر في سوق منكمشة. وبفضل هذه السياسة السعودية، سوف يكون هناك دعم لنمو الاقتصاد العالمي بعد الخروج من كورونا، لأن الاقتصاد يحتاج إلى أسعار طاقة منخفضة للتعافي.
والسعودية رغم كل الأعباء المالية، أظهرت مرونة قوية في تحمل أزمة كورونا، وضخّت مليارات الريالات لمكافحة الفيروس ولدعم الشركات والعمالة والمشروعات، ولم تتأثر الأعمال ولا الأنظمة التعليمية بشكل كبير كما يحدث في دول كثيرة أخرى، وذلك بفضل الاستثمارات السابقة في البنية التحتية الرقمية والشبكة الكهربائية. وإذا ما انتهت كورونا فقد تخرج السعودية بوضع أفضل من غيرها؛ وهذا يعني أنها يجب أن تواصل إصلاحاتها الاقتصادية والتحول الرقمي وتنويع مصادر الدخل.
المشكلة تبقى في أمرين؛ الأول هو تمسك أميركا بمبدأ السوق الحرة، وتطبيق ذلك على النفط، رغم أنها تعلم أن النفط لا يمكن أن تنطبق عليه مبادئ السوق، لأنه عصب وشريان الحياة، وكل 100 دولار في الناتج المحلي للاقتصاد العالمي تحتاج إلى 7 لترات من النفط. وأميركا اليوم أكبر منتج، ويجب عليها تحمل عبء السوق مع باقي العالم، ولا يمكن الاستمرار في إلقاء الحمل على «أوبك»، وفي الوقت ذاته منافستها في حصتها السوقية وتقليص وارداتها. الأمر الثاني؛ لا يريد العالم الاعتراف بنظام عالمي نفطي جديد يستوعب كل المتغيرات. ولهذا إذا سألني أحد هل ما تفعله السعودية هو ردة فعل أم تحول استراتيجي؟ فالإجابة المنطقية هي الثانية... واكتتاب «أرامكو» كان مجرد البداية.