ضريح في الجزائر يخلّد قصة حب أمازيغية ـ فرعونية

الضريح الملكي الموريتاني بالجزائر يتغير لونه حسب الوقت
الضريح الملكي الموريتاني بالجزائر يتغير لونه حسب الوقت
TT

ضريح في الجزائر يخلّد قصة حب أمازيغية ـ فرعونية

الضريح الملكي الموريتاني بالجزائر يتغير لونه حسب الوقت
الضريح الملكي الموريتاني بالجزائر يتغير لونه حسب الوقت

يقع الضريح الملكي الموريتاني على قمة هضبة شرق مدينة سيدي راشد بولاية تيبازة الساحلية، وتحيط به غابة صنوبر مدغلة، تتحدر على كتف الهضبة قبالة البحر الأبيض المتوسط، كانت تغمسُ قدميها بمياهه قبل أن يتم شق الطريق السيار (شرق - غرب)، الذي أنسن وحشة المكان بمرور المركبات والحافلات المسرعة في الاتجاهين غربا وشرقا. المنظر خلّاب تمازجت فيه خضرة الغابة وزقزقة العصافير مع زرقة البحر تمخره سفن الصيادين. يعكس الضريح السماء الموشاة بغيومها الداكنة شتاء، والبيضاء ربيعا. السكون والهدوء يجعلانك تسمع وقع أقدامك على حجارة تناثرت حول الضريح، تسمع وشيشا في أذنيك من شدة الصمت، وشيشٌ يشبه حركة سحلية اندست بين الهشيم، والصوت يتلاشى فترتبك في رفع صوتك احتراما لحرمة الأموات.
- افتتاح الضريح الملكي الموريتاني بعد 27 عاما من الإغلاق
الضريح الملكي الموريتاني يعود للعهد النوميدي (202 ق م - 46 ب م)، يبعد بنحو 70 كيلومترا غرب الجزائر العاصمة، صنفته اليونيسكو من التراث العالمي. بقي 27 عاما مغلقا (1992 - 2019) حيث أغلقته الحكومة الجزائرية آنذاك حفاظا عليه من أي عمل تخريبي خلال أزمة الإرهاب التي اجتاحت الجزائر عام 1992. في ليلة مقمرة من شهر مايو (أيار) 2019 تم افتتاح الضريح بسهرة رمضانية فنية، استمتع الجمهور المدعو بأغاني الموسيقى الأندلسية التي تزدهر في رمضان لطابعها الديني. كان لهم حظ وفير بزيارة الضريح من الداخل، فبعدها أغلق الضريح ثانية، واقتصرت الزيارة على خارجه.
يستمتع الزوار بهدوء المكان وجو الغابة النقي المشبع برائحة الصنوبر والخزامى والزعتر والريحان، يلتقطون صورا تذكارية مع «قبر الرومية» كما يسميه السكان المحليون، اعتقادا منهم أنه قبرٌ لامرأة مسيحية، ولكن الدكتورة صباح فردي مديرة مركز البحث في علم الآثار أوضحت للصحافة سبب الخلط بين «الرومية» باللهجة الجزائرية وتعني النصرانية أو المسيحية، والرومية في الضريح الموريتاني فقالت إن «الضريح له أربعة أبواب وهمية متقابلة من الجهات الأربع شرق غرب، وشمال جنوب، تشبه في تقاطعها بخط نظر بين كل جهتين متقابلتين صليبا لاتينيا، فاعتقدوا أن القبر مسيحي، ولكن (قبر الرومية) يعني قبر ملكة رومانية، بني في إبان حكم الرومان لمملكة موريتانية القيصرية».
- تاريخ بنائه
يرجح المؤرخون وعلماء الآثار أن بناء الضريح الملكي الموريتاني قد تم عام 40 ق.م، وهكذا يكون قد مضى 2060 عاما على بنائه، وما زال صامدا في وجه الزمن رغم النشاط الزلزالي في المنطقة، ليبقى مُخلداً وشاهداً على «قصة حب» أمازيغية - فرعونية يجهلها الكثيرون، تشبه رومانسيات غابرة مثل قصص قيس وليلى، روميو وجوليت، ونبوخذ نصر الذي بنى حدائق بابل المعلقة في العراق تكريما لزوجته، أو الإمبراطور المغولي شاه جيهان الذي بنى لزوجته ممتاز «تاج محل». أما الضريح الملكي الموريتاني فيخلد قصة حب الملك الأمازيغي يوبا الثاني لزوجته كليوباترا سيليني ابنة ملكة مصر كليوباترا الفرعونية. بنى يوبا الثاني قبرا ملكيا لزوجته كليوباترا سيليني عربون حبه لها، ليضمهما أمواتا، فبقي شاهدا على قصة حب جمعت بين أمازيغ الجزائر وفراعنة مصر قبل الميلاد بـ40 عاما، كما يروي المؤرخون.
الملك يوبا الثاني ابن عنابة بالشرق الجزائري (52 ق.م - 23 ب.م)، نجل الملك يوبا الأول النوميدي، الذي هزمته روما، ولتذيقه مرارة الهزيمة أكثر لأنه قاومها اختطفت ابنه يوبا رضيعا - حسب المؤرخين.
تربى الطفل يوبا الثاني تربية ملوك في كنف الإمبراطور الروماني أغسطس (آب)، فعلمه الفنون والآداب وشتى العلوم والسياسة وشؤون الحكم في مدارس روما وأثينا ومعاهدهما ذائعة الصيت آنذاك، فعُرف يوبا الثاني بالحنكة السياسية والثقافة والإخلاص للإمبراطور، واحتل مكانة مرموقة لدى الإمبراطور أغسطس الذي أجلسه على عرش مملكة موريتانيا القيصرية نسبة إلى قيصر الروم (تيبازة حالي)، وحكم يوبا الثاني خمسين عاما تحت الحماية الرومانية.
يتميز الضريح الملكي الموريتاني بحجمه الكبير، للناظر إليه عن بُعد يشبه كومة التبن، يرتفع عن سطح البحر بـ261 مترا، فيمكن رؤيته من الأبيار أعالي العاصمة شرقا، ومن سهل المتيجة الخصيب في البليدة جنوبا، ومن جبل شنوة بتيبازة غربا، ويراه شمالا المسافرون على الطريق السريعة في أحضان غابات تيبازة المطلة على البحر، كما يراه الصيادون عرض البحر، لذا يعتبره الجزائريون منارة يهتدي بها البحارة والصيادون والعابرون ومن ضل الطريق، فضلا عن ذلك لونه يتغير حسب الفصول وحسب ساعات النهار، فهو تارة يميل إلى الاصفرار وتارة يأخذ لونا رماديا أو تعلوه زرقة عندما يحيط به الضباب، بدا ذلك ببعض الصور الملتقطة للضريح.
- الضريح من الخارج
يتربع الجسم الأسطواني للضريح على قاعدة مربعة ضلعها 63.40م. ويوجد أمام باب الضريح، آثار مبنى، يبلغ طوله 16م وعرضه 6 أمتار، كان في الزمن الغابر معبدا.
يبلغ محيطه 185.5م وقطره 60.9م وعلوه 32.4م، تبرز على جداره الخارجي أعمدة، عددها 60 عمودا، تنتظم بمسافات متساوية فيما بينها، تعود للهندسة المعمارية الأيونية (جزيرة يونانية سكنها الأيونيون 1100 ق. م)، وله أربعة أبواب وهمية من الجهات الأربع (الباب يحدده رصف الحجارة على الجدار)، ارتفاع الباب 6.90م. وفي أعلى الضريح مخروط مفلطح يشبه القباب الإسلامية.
- داخل الضريح
تحت الباب الشرقي الوهمي يوجد باب صغير على انخفاض زهاء متر عن ساحة الضريح، بجواره يسارا بضع درجات حجرية تنتهي في الساحة حول الضريح. عند اجتياز الباب يلج الزائر إلى رواق يضطر فيه إلى الانحناء، وفي حائطه الأيمن توجد نقوش تمثل صورة أسد ولبؤة، فسمي الرواق «بهو الأسود»، يفضي إلى رواق آخر طوله 141 مترا وعلوه 2.40 متر شكله ملتوٍ، يقود مباشرة إلى قلب المبنى الذي تبلغ مساحته 80 مترا مربعا، حيث يوجد قبران، أحدهما مزين بثلاثة تجاويف غربا وشمالا وجنوبا، يعتقد أنه للملك يوبا الثاني، والآخر لزوجته كليوباترا سيليني.
يعتقد المختصون في الآثار الرومانية أن الملك يوبا الثاني ابن عنابة وزوجته كليوباترا سيليني هما من أشرفا على بنائه، ويستندون في روايتهم إلى أن الملك يوبا الثاني كان مثقفا، متذوقا للفن وهندسة العمارة، وقد جلب لعاصمة مملكته شرشال تحفا فنية من اليونان. تبعد شرشال نحو 90 كيلومترا غرب الجزائر العاصمة.
رغم جمال الطبيعة حول هذا المَعْلَم الأثري القديم، وما يمكن أن يكون قطبا سياحيا يقصده السياح من خارج الجزائر، ويدر مالا، فإنه ما زال مهملا سياحيا، ويوجد حوله مطعم يرتاده بعض الجزائريين عند زيارتهم للضريح، لكن أغلبية الزوار من العائلات يحضرون طعامهم معهم كما قال «سي محمد» بائع الشاي الأخضر غرب الضريح، وبصحبته جمله الأبيض «مبروك»، يدفع من يركبه 300 دج (تعادل زهاء دولارين) وثمن كأس الشاي الأخضر مع حفنة فستق بـ150 دج، ويؤجر طاولات لزوار الضريح لتناول طعامهم في حضن الطبيعة. وجد سي محمد لقاءه بـ«الشرق الأوسط» فرصة ليطالب بدعم الدولة لأنه يُنشط السياحة، وهو يعمل دون ترخيص رسمي من الجهات المعنية. عمي موح يعرفه رواد المكان بشايه الأخضر بالنعناع، تفوح رائحته وهو يغلي فوق الجمر، ويعرفون لطفه معهم، وحنوه على الجمل مبروك الصابر أمام ضريحٍ صمد قرونا صابرا على تقلبات الزمن.


مقالات ذات صلة

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

يوميات الشرق زاهي حواس (حسابه على فيسبوك)

زاهي حواس يُفند مزاعم «نتفليكس» بشأن «بشرة كليوباترا»

أكد الدكتور زاهي حواس، أن رفض مصر مسلسل «كليوباترا» الذي أذاعته «نتفليكس» هو تصنيفه عملاً «وثائقي».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
يوميات الشرق استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

استرداد حمض نووي لامرأة عاشت قبل 20000 عام من خلال قلادتها

وجد علماء الأنثروبولوجيا التطورية بمعهد «ماكس بلانك» بألمانيا طريقة للتحقق بأمان من القطع الأثرية القديمة بحثًا عن الحمض النووي البيئي دون تدميرها، وطبقوها على قطعة عُثر عليها في كهف دينيسوفا الشهير بروسيا عام 2019. وبخلاف شظايا كروموسوماتها، لم يتم الكشف عن أي أثر للمرأة نفسها، على الرغم من أن الجينات التي امتصتها القلادة مع عرقها وخلايا جلدها أدت بالخبراء إلى الاعتقاد بأنها تنتمي إلى مجموعة قديمة من أفراد شمال أوراسيا من العصر الحجري القديم. ويفتح هذا الاكتشاف المذهل فكرة أن القطع الأثرية الأخرى التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ المصنوعة من الأسنان والعظام هي مصادر غير مستغلة للمواد الوراثية

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

علماء: ارتفاع مستوى سطح البحر دفع الفايكنغ للخروج من غرينلاند

يُذكر الفايكنغ كمقاتلين شرسين. لكن حتى هؤلاء المحاربين الأقوياء لم يكونوا ليصمدوا أمام تغير المناخ. فقد اكتشف العلماء أخيرًا أن نمو الصفيحة الجليدية وارتفاع مستوى سطح البحر أدى إلى فيضانات ساحلية هائلة أغرقت مزارع الشمال ودفعت بالفايكنغ في النهاية إلى الخروج من غرينلاند في القرن الخامس عشر الميلادي. أسس الفايكنغ لأول مرة موطئ قدم جنوب غرينلاند حوالى عام 985 بعد الميلاد مع وصول إريك ثورفالدسون، المعروف أيضًا باسم «إريك الأحمر»؛ وهو مستكشف نرويجي المولد أبحر إلى غرينلاند بعد نفيه من آيسلندا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

مروي أرض «الكنداكات»... في قلب صراع السودان

لا تزال مدينة مروي الأثرية، شمال السودان، تحتل واجهة الأحداث وشاشات التلفزة وأجهزة البث المرئي والمسموع والمكتوب، منذ قرابة الأسبوع، بسبب استيلاء قوات «الدعم السريع» على مطارها والقاعد الجوية الموجودة هناك، وبسبب ما شهدته المنطقة الوادعة من عمليات قتالية مستمرة، يتصدر مشهدها اليوم طرف، ليستعيده الطرف الثاني في اليوم الذي يليه. وتُعد مروي التي يجري فيها الصراع، إحدى أهم المناطق الأثرية في البلاد، ويرجع تاريخها إلى «مملكة كوش» وعاصمتها الجنوبية، وتقع على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد نحو 350 كيلومتراً عن الخرطوم، وتقع فيها أهم المواقع الأثرية للحضارة المروية، مثل البجراوية، والنقعة والمصورات،

أحمد يونس (الخرطوم)
يوميات الشرق علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

علماء آثار مصريون يتهمون صناع وثائقي «كليوباترا» بـ«تزييف التاريخ»

اتهم علماء آثار مصريون صناع الفيلم الوثائقي «الملكة كليوباترا» الذي من المقرر عرضه على شبكة «نتفليكس» في شهر مايو (أيار) المقبل، بـ«تزييف التاريخ»، «وإهانة الحضارة المصرية القديمة»، واستنكروا الإصرار على إظهار بطلة المسلسل التي تجسد قصة حياة كليوباترا، بملامح أفريقية، بينما تنحدر الملكة من جذور بطلمية ذات ملامح شقراء وبشرة بيضاء. وقال عالم الآثار المصري الدكتور زاهي حواس لـ«الشرق الأوسط»، إن «محاولة تصوير ملامح كليوباترا على أنها ملكة من أفريقيا، تزييف لتاريخ مصر القديمة، لأنها بطلمية»، واتهم حركة «أفروسنتريك» أو «المركزية الأفريقية» بالوقوف وراء العمل. وطالب باتخاذ إجراءات مصرية للرد على هذا

عبد الفتاح فرج (القاهرة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)