الصين تحاول السيطرة على العالم اقتصادياً بـ«طريق الحرير»

فرض خيارات جديدة أمام الدول عبر ما يعد «أكبر مشاريع الاستثمار في التاريخ»

الصين تحاول السيطرة على العالم اقتصادياً بـ«طريق الحرير»
TT

الصين تحاول السيطرة على العالم اقتصادياً بـ«طريق الحرير»

الصين تحاول السيطرة على العالم اقتصادياً بـ«طريق الحرير»

يبدو أن دور المعدات العسكرية والخطط الحربية التقليدية قد تراجع، وأصبح في طور التلاشي في القرن الحادي والعشرين، كأداة لسيطرة القوى العظمى وهيمنتها على العالم، حيث ظهرت أدوات جديدة، لتحل محل الأدوات القديمة البالية، ومنها على سبيل المثال السيطرة الاقتصادية والاستثمارية، وهي الأداة التي قررت الصين استخدامها لبسط نفوذها الجيوسياسى على العالم أجمع، لترسخ أقدامها كثاني أكبر قوة اقتصادية فوق هذا الكوكب.
وتنفيذاً لهذه السياسية، أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ في عام 2013 عن مشروع ضخم سيسمح للصين بفرض نفسها على الساحة الدولية كثاني أكبر قوة اقتصادية عالمية، وهو المشروع المسمى «طريق الحرير»، الذي يشمل بُعدين أساسيين: يتعلق الأول بطريق برى، بينما يكمن الثاني في حزام بحري، ليرسما ويحددا الرهانات الجيوسياسية على مستويات كثيرة لا تكشفها العلاقات الدولية ولا تتعرض لها، حيث يعتمد المشروع على إجمالي العلاقات الاقتصادية، ليس فقط في آسيا ولكن أيضاً يمتد إلى ربط وتعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية بين آسيا وأفريقيا وأوروبا. ونظراً لأهمية هذا المشروع، ليس فقط على الساحة الاقتصادية الآسيوية ولكن على الساحة الدولية، فقد صدر منذ بضعة أيام فقط عن دار النشر الكندية «آسيا المعاصرة» كتاب «طريق الحرير الجديد - البعد الجيوسياسى لمشروع صيني ضخم»، الذي جاء في 300 صفحة من القطع المتوسط.
ويتمتع الكتاب بأهمية كبيرة، ليس لأنه يكشف النقاب عن الوجه الحقيقي للمشروع الصيني ولكن أيضاً لأنه يمثل عملاً موسوعياً لهذا المشروع الضخم، من خلال جهد كبير لعدد من الباحثين المتخصصين، تحت إشراف وإدارة ثلاثة من ألمع العقول في هذا المجال، وهم: بارتليمي كورمنت الأستاذ بجامعة ليل الفرنسية مدير الأبحاث بمعهد العلاقات الدولية والاستراتيجية بفرنسا، وإل إريك موتيه أستاذ الجغرافيا السياسية بقسم الجغرافيا بجامعة الكيبك بمونتريال بكندا، وفريدريك لاسيير الأستاذ بقسم الجغرافيا بجامعة لافال بالكيبك بكندا الباحث في «معهد الكيبك للدراسات الدولية العليا» مدير «مجلس الكيبك للدراسات الجيوسياسية»، الأمر الذي يضفي على الكتاب طبيعة خاصة، وميزة نوعية في هذا المجال.
وفي إطار سعي المؤلفين لتعميق الجانب المعرفي حول عمليات تحول المجتمعات والدول الآسيوية، يسعى الكتاب للرد على عدد من الأسئلة المهمة، مثل: ما مردود الانشقاقات الناجمة عن ظهور القوى العظمى في القرن التاسع عشر؟ هل هناك مفهوم للتنمية المستدامة في آسيا؟ وغيرهما من الأسئلة التي تأتي على خلفية اهتمام الكتاب بأنماط كثيرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، إضافة إلى تحديد مكانة آسيا المعاصرة في ديناميكية العولمة الاقتصادية التي ترتكز على النموذج الغربي وعالم أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية.

- حقائق وأرقام
يؤكد الكتاب أن صعود الصين القوي على الساحة الدولية، وترسيخ مكانتها كقوة دولية، إنما يمثل وبحق رهانات مهمة للعلاقات الدولية، وهي رهانات كان يتم تجاهلها في السابق، إلا أنها تفرض نفسها اليوم بقوة على الساحة الدولية، حيث تؤكد الأرقام هذه الحقيقة، كما تشير الإحصائيات إلى أن صافي الناتج المحلي الصيني سيتجاوز نظيره الأميركي خلال بضع سنوات، وستتربع الصين دون شك على قمة هرم القوى الاقتصادية العالمية، بفضل ما تتبناه من استراتيجيات اقتصادية تسمح لها بالحفاظ على القمة. ولتحقيق ذلك، فإن الأمر يتطلب من الصين قلب المعطيات والتوازنات والمؤسسات الراهنة، مروراً برسم علاقات جديدة بين الدول والمجتمعات، وهي السياسة التي تسعى الصين منذ عام 2000 نحو تنفيذها، حيث حدد الرئيس الصيني شي جينبينغ الأهداف التي ينبغي إنجازها، مثل «صعود الصين السلمي 2003» و«المجتمع المتجانس 2004» أو «القوى الناعمة»؛ وكلها تسميات تحمل في طياتها مشروعات السياسة الداخلية أو الخارجية للصين، كما أنها تعود في واقع الأمر إلى حقيقة تاريخية لها جذور عميقة في ثقافات وحضارات الصين وأوروبا. وقد رأت الصين أن السبيل لتحقيق ذلك يكمن في إحياء أسطورة مشروع «طريق الحرير» التجاري البري، وشقه البحري الرابط بين شرق آسيا وغرب أوروبا، مروراً بالشرق الأوسط، الأمر الذي يعزز من الوجود الصيني، ليس فقط في جنوب شرقي آسيا ولكن أيضاً في أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وأوروبا. ولذلك، فقد اتخذت الصين قراراً منذ نحو 20 عاماً يكمن في الانفتاح على العالم أجمع، واضعة قدراتها وإمكانياتها المهمة في مجالات متنوعة بين اقتصادية وعسكرية وثقافية. وفي أقل من عشرة أعوام، نجح الرئيس الصيني، من خلال شعار «الكل رابح»، في البدء بمشروعات طويلة المدى، من شأنها أن تسمح بترسيخ أقدام الصين كقوة دولية فاعلة عن طريق مثلث ثلاثي الأضلاع: يكمن الأول في الاقتصاد، والثاني في القدرات العسكرية، بينما يكمن الضلع الثالث في البعد الثقافي الذي يمثل أهمية خاصة كقوة ناعمة.

- مغزى طريق الحرير
الثابت أن «طريق الحرير»، كما يوضح الكتاب، ليس بجديد، إذ تعود تسميته للقرن التاسع عشر للألماني فردناند فون ريشوفيم، ويقصد به (ولقرون عدة) العلاقة الأساسية للتبادلات التجارية بين دول غرب أوروبا والصين. كما أكد بعض أساتذة الجامعات البريطانية على الأهمية النوعية لهذا الطريق، وعلى رأسهم البريطاني بيتر فرامتوبان الذي أكد بدوره على أهمية هذا الطريق خلال القرنين الماضيين، خصوصاً أنه يتعلق بإقامة بنى تحتية عملاقة آسيوية تربط الصين بباقي الدول الآسيوية وأوروبا وأفريقيا، وذلك بإقامة محاور نقل بري، وسكك حديدية عبر آسيا، وهي أفكار ليست بجديدة، إذ تعود لعام 1959، على يد الأمم المتحدة وبعض المؤسسات، ولكن التفكير في الفكرة اليوم ومدى نجاحها يعتمد على قدرة الصين المالية التي تسعى لتصدر المشهد من خلال هذا الطريق، ولكن بطابع استثماري لإضفاء الصفة الشرعية، وتعزيز أهمية المشروع الذي لن يتنازل الصينيون عن تنفيذه، إيماناً منهم بمدى أهميته للإنسانية. ولذلك، فقد حركوا التاريخ والجغرافيا لتسويق هذا المشروع الضخم عالمياً في غلاف أنه يحمل الخير والنماء للبشرية جمعاء.
ويوضح الكتاب أنه إضافة إلى البعد الاقتصادي لهذا المشروع الذي لا يمكن إغفال المبالغ الضخمة المستهدفة للاستثمار فيه، التي تتجاوز ديون بعض الدول الشريكة، فإن هذا المشروع يستفيد وبقوة من التحرك الدبلوماسي الصيني، وقوة بكين الناعمة الهائلة في القرن الـ21. كما يأتي هذا المشروع كذلك في إطار استمرار جهود إغواء وجذب المجتمع الدولي، وهو المسعى الذي تتجه نحوه الصين منذ أكثر من عشرة أعوام، استفادة من وضعها وصورتها الإيجابية في مناطق كثيرة في العالم، خصوصاً الدول النامية، وكذلك الدول التي ضربتها مؤخراً أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة، بهدف تحويل علاقات القوة في المجتمع الدولي إلى خدمة الصين، ودعم هدفها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مع تعديل المدركات ووضع الرهانات الثقافية في قلب اللعبة الجيوسياسية، وذلك من خلال مشروع مهيمن يراه الغرب على أنه يهدف إلى خلق نظام عالمي جديد، الأمر الذي يعنى وضع هرم جديد للمجتمع الدولي لما بعد الحرب العالمية الثانية، كما تم تسويق المشروع على أنه يحمل الأمل والرخاء والنماء للمجتمعات الناشئة.

- هدف اقتصادي أم أداة للقوة؟
يؤكد الكتاب أن أهداف مشروع «طريق الحرير» تتجاوز الأهداف التقليدية، لا سيما أنه يعد أكبر مشروع استثماري دولي في تاريخ البشرية، ليتجاوز بذلك تعديل أوضاع الفقراء في غرب الصين، وذلك بالانفتاح على العالم أجمع، من خلال إبرام شراكات اقتصادية وتجارية مستدامة، تكون الصين المستفيد الأساسي منها، هذا بالإضافة إلى مبدأ «الكل رابح» الذي يهدف بدوره إلى تعزيز قوة ووضع الصين اقتصادياً. كما يهدف أيضاً إلى تحقيق طموحات أوسع من ذلك، لا تتوقف عند الصين كقوة إقليمية في قطاع واحد فقط، وهو القطاع الاقتصادي، ولكن يمثل أداة مهمة لخدمة القوة الصينية من خلال استراتيجية التأثير التي تنتهجها الصين منذ حقبتين زمنيتين في مجالات كثيرة، باستخدام البعد الثقافي في المقدمة، والبعد الاقتصادي كوسيلة وليس غاية. كما أن هذا المشروع يأتي في إطار استراتيجية «القوة الناعمة» التي أعلنتها الصين رسمياً في 2007، وتتميز بتعدد المبادرات، والانفتاح على مئات المعاهد الدولية، كما أن استراتيجية النفوذ الصيني تكمن كذلك في ظهور نموذج للحوكمة وإدارة وضبط مفردات العلاقات الدولية، في الوقت الذي تجابه فيه سياسة تعددية القطب تحديات كثيرة، وتتراجع فيه قوة الولايات المتحدة الأميركية، بينما تسعى الصين بخطى حثيثة نحو تنفيذ مشاريع مهمة ذات طابع دولي؛ أي أننا أمام مشروع يمثل تحولاً حقيقياً في علاقة الصين بباقي دول العالم، لأنها تكرس وجودها بفرض نموذج جديد يجسد وضعها الجديد كقوة فاعلة في الساحة الدولية.
ويخلص الكتاب إلى سؤال مهم، فحواه: ما العمل في مواجهة الصين؟ ويلفت إلى أن الإجابة عنه تكمن في أن الرابط بين مشروع «طريق الحرير» وظهور الصين كقوة دولية إنما يشغل ليس فقط الدوائر السياسية والمجتمع الصيني فحسب، بل يمتد للعالم أجمع، خصوصاً في ظل مخاوف البعض الذين حققوا بعض المكاسب من الهيمنة الصينية، لكن الشيء المؤكد الآن يكمن في أن صعود الصين يشغل الجميع، ويبرر وضع سياسات تهدف من شأنها إلى مجابهة الديناميكية الصينية، أو السير في ركابها، يعزز ذلك أن المشروع الصيني يعد نموذجاً لتأكيد قوة الصين، ويستهدف جميع دول العالم، ويبرر وضع سياسات مرتبطة بذلك. هذا، مع حالة الترقب التي تجتاح القارة الأوروبية بين متحمس في الشرق ومنقسم في الغرب حول المشروع، فيما يسود انقسام داخل القارة الأفريقية حول الأهداف الصينية، رغم القمم «الأفريقية - الصينية»، وهو الأمر نفسه بالنسبة للوضع في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بالدول الآسيوية المرتبطة بالمشروع بشكل مباشر، فتشهد حالة من التنافر الشديد يمكن أن تؤدى إلى الارتباك في جهود الاندماج الإقليمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك بعض التباين في تقدير المشروع، وفقاً للمستوى الاقتصادي للدول المعنية بالمشروع، فالدول النامية ترى أن المشروع يمثل فرصة للاستفادة أكثر من كونه يمثل مجازفة جراء التبعية، بينما يسيطر على القوى العظمى القلق على مصالحها، وما حققته من تقدم ملحوظ، ولكن موقفها في مواجهة الصعود الصيني يترافق مع استراتيجيات مختلفة أحياناً بين اغتنام الفرصة والبحث عن تبادل لاستئناف مبادرة إيمانويل ماكرون خلال زيارته للصين في يناير (كانون الثاني) 2018، أو محاولة وضع خيارات للتبادل مع اليابان والهند والولايات المتحدة الأميركية.


مقالات ذات صلة

وزير الدفاع السعودي ونظيره الفرنسي يبحثان في الرياض أفق التعاون العسكري

الخليج الأمير خالد بن سلمان خلال استقباله سيباستيان ليكورنو في الرياض (واس)

وزير الدفاع السعودي ونظيره الفرنسي يبحثان في الرياض أفق التعاون العسكري

بحث الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي مع سيباستيان ليكورنو وزير القوات المسلحة الفرنسية، مستجدات الأوضاع الإقليمية وجهود إحلال السلام في المنطقة والعالم.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى.

«الشرق الأوسط» (باريس)
الخليج وزير الخارجية السعودي مع نظيره الفرنسي خلال لقاء جمعهما على غداء عمل في باريس (واس)

وزير الخارجية السعودي يبحث مع نظيره الفرنسي تطورات غزة ولبنان

بحث الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي مع نظيره الفرنسي جان نويل، الجمعة، التطورات في قطاع غزة وعلى الساحة اللبنانية، والجهود المبذولة بشأنها.

«الشرق الأوسط» (باريس)
الخليج وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان يستقبل نظيره الفرنسي جان نويل بارو في الرياض (واس)

فيصل بن فرحان يناقش التطورات اللبنانية مع نظيريه الفرنسي والأميركي

ناقش وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، مع نظيره الفرنسي جان نويل بارو، التطورات على الساحة اللبنانية والجهود المبذولة بشأنها.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج الأمير خالد بن سلمان خلال لقائه في مكتبه بالرياض السفير الفرنسي لودوفيك بوي (وزارة الدفاع السعودية)

وزير الدفاع السعودي والسفير الفرنسي يناقشان الموضوعات المشتركة

ناقش الأمير خالد بن سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع السعودي مع لودوفيك بوي سفير فرنسا لدى المملكة، الاثنين، عدداً من القضايا والموضوعات ذات الاهتمام المشترك.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»