تابوت نجم عنخ الذهبي يخطف الأنظار بعد عودته إلى مصر

كنوز توت عنخ آمون تزور لندن للمرة الثالثة والأخيرة الشهر المقبل

لقطة مقربة لتابوت الكاهن «نجم عنخ» (أ.ف.ب)
لقطة مقربة لتابوت الكاهن «نجم عنخ» (أ.ف.ب)
TT

تابوت نجم عنخ الذهبي يخطف الأنظار بعد عودته إلى مصر

لقطة مقربة لتابوت الكاهن «نجم عنخ» (أ.ف.ب)
لقطة مقربة لتابوت الكاهن «نجم عنخ» (أ.ف.ب)

استقر التابوت الذهبي للكاهن «نجم عنخ» في موقعه الدائم بالمتحف القومي للحضارة، بعد استرداده من الولايات المتحدة الأميركية مؤخراً، ليبدأ في استقبال زواره للمرة الأولى في مصر، وخطف التابوت أنظار الزوار وعدد من السفراء الأجانب العاملين في مصر، وأبدى كثير منهم إعجابهم الشديد بنقوشه ورسوماته وحالته الجيدة.
وقال الدكتور خالد العناني، وزير الآثار المصري، في تصريحات صحافية على هامش زيارة قاعة عرض التابوت، إن «استرداد هذا التابوت يأتي في إطار جهود الدولة المصرية لاستعادة الآثار المصرية المهربة بالخارج، وما توليه الدولة المصرية ومؤسساتها من اهتمام بالغ للحفاظ على تراثها وتاريخها الحضاري، والدور الذي لعبته وزارتا الآثار والخارجية المصرية ومكتب النائب العام المصري في مجال استعادة الآثار المصرية المهربة، وفي إطار التعاون الثنائي بين مصر والولايات المتحدة الأميركية، ومذكرة التفاهم المبرمة بين البلدين عام 2016 بشأن حماية الآثار المصرية من التهريب»، موجها الشكر للولايات المتحدة الأميركية على تعاونها مع مصر في هذا المجال.
بدوره، أكد شعبان عبد الجواد، مدير عام إدارة الآثار المستردة بوزارة الآثار المصرية، لـ«الشرق الأوسط»، أن «استرداد التابوت يعد رسالة لكل متاحف العالم بأن مصر لن تترك آثارها في الخارج».
وشرح عبد الجواد كواليس استعادة التابوت، وقال إن «متحف المتروبوليتان الأميركي اشترى التابوت عام 2017 بمبلغ 4 ملايين دولار، من تاجر آثار فرنسي، معه أوراق تقول إن التابوت قد تم تصديره من مصر في 15 مايو (أيار) عام 1971». مشيراً إلى أن «وزارة الآثار تواصلت مع المدعي العام الأميركي، بشأن تزوير تصريح التصدير»، ولفت إلى أن «قانون الآثار عام 1951 كان يسمح بتصدير الآثار المصرية إلا أنه لم يكن يسمح بتصدير الآثار الفريدة؛ لذلك كانت وزارة الآثار متأكدة أن التصريح مزور».
وكانت مصر تسمح بتصدير وإهداء الآثار حتى عام 1983 عندما صدر قانون حماية الآثار الذي حظر الاتجار في الآثار ومنع بيعها وإهداءها.
وقال عبد الجواد إنه «بعد عام من المفاوضات مع المدعي العام الأميركي تم إثبات أحقية مصر بالتابوت، في فبراير (شباط) الماضي، وخلال الفترة الماضية تم الانتهاء من إجراءات عودته»، مشيراً إلى أن «التابوت في حالة جيدة جداً، حيث كان من المقرر أن يعرض في قاعة خاصة بمتحف المتروبوليتان حتى العام المقبل».
ويرجع تابوت نجم عنخ إلى القرن الأول قبل الميلاد وهو مصنوع من الخشب المغطى بالذهب، على شكل مومياء، ويبلغ طوله مترين، وكان لكاهن كبير للإله «هيرشيف» في مدينة هيراكليوبوليس، (مركز أهناسيا ببني سويف حاليا) ولا يحتوي على مومياء.
وقال عبد الجواد إن «التابوت لم يكن من مفقودات المخازن أو المتاحف المصرية، وهو من نتائج الحفائر خلسة، وخرج من مصر عام 2011 والتحقيقات تجري حاليا لمعرفة كيف خرج من مصر»، مشيراً إلى أن «التابوت يرجع للعصر البطلمي، ويعود تاريخه إلى نهاية الأسرة البطلمية من 150 إلى 50 عاما قبل الميلاد».
وتبذل وزارة الآثار المصرية جهوداً في الفترة الأخيرة لاستعادة القطع الأثرية المهربة بالخارج، ففي عام 2016 تم استرداد 263 قطعة أثرية، وفي عام 2017 تم استرداد 553 قطعة أثرية، وفي عام 2018 تم استرداد 222 قطعة أثرية، وعدد 21660 عملة أثرية، وعام 2019 تم استرداد تابوت نجم عنخ، ووقعت مصر عدداً من الاتفاقيات الثنائية في هذا الصدد من بينها الاتفاقية الموقعة مع أميركا، وأخرى مع سويسرا والأردن وإيطاليا.
وفي سياق متصل، تستعد العاصمة البريطانية لندن لاستضافة كنوز الفرعون الذهبي توت عنخ آمون الشهر المقبل، في جولتها الأخيرة خارج مصر، قبل أن تستقر بشكل نهائي في المتحف المصري الكبير المقرر افتتاحه نهاية العام المقبل.
ويستضيف غاليري ساتشي في لندن معرض توت عنخ آمون في الفترة من 2 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وحتى 3 مايو (أيار) 2020، بالتزامن مع الاحتفال بقرب الذكرى المئوية لاكتشاف مقبرة الفرعون الأكثر شهرة في نوفمبر عام 1922 على يد عالم الآثار الإنجليزي هيوارد كارتر.
ووفقا للموقع الإلكتروني لغاليري ساتشي فإن «المعرض يضم 150 قطعة من كنوز الملك الشاب، وهو ثلاثة أضعاف عدد القطع الأثرية التي عرضت في المعارض الخارجية السابقة لتوت عنخ آمون، كما أنه يضم 60 منها تعرض خارج مصر للمرة الأولى».
وهذه هي المحطة الثالثة للمعرض خارج مصر بعد لوس أنجليس وباريس، ضمن جولة خارجية تشمل 10 مدن حول العالم وتستمر حتى 2024.
وقال الدكتور مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، إن «معرض توت عنخ آمون حقق رقما قياسيا في باريس، حيث زاره 1.423.170 زائرا، وهو أكبر عدد زوار في تاريخ الأنشطة الثقافية في فرنسا»، مشيراً إلى أن «المعرض من المتوقع أن يحظى بإقبال كبير في محطته الثالثة في لندن والتي تتزامن مع ذكرى مرور 97 عاما على اكتشاف المقبرة».
وهذه هي المرة الثالثة التي يتم فيها عرض كنوز الفرعون الذهبي في لندن، حيث سبق أن عرضت هناك عام 1972، ضمن جولة خارجية لكنوز توت عنخ آمون في السبعينات، وبقي هناك 6 أشهر، زاره خلالها نحو 1.7 مليون شخص اصطفوا في الطوابير لمشاهدة كنوز الفرعون الأكثر شهرة عالميا، وتكررت زيارة آثار توت للندن عام 2007، في معرض ضم 131 قطعة بينها 50 قطعة لتوت عنخ آمون.


مقالات ذات صلة

الوجبة الأخيرة القاتلة: أسرار حياة ونفوق تمساح مصري محنّط

يوميات الشرق المومياء تعود إلى فترة تتراوح بين 2000 و3000 سنة حينما كان تحنيط الحيوانات في مصر القديمة في ذروته (جامعة مانشستر)

الوجبة الأخيرة القاتلة: أسرار حياة ونفوق تمساح مصري محنّط

كشف الباحثون، أخيراً، رؤى جديدة ومثيرة حول حياة ونفوق تمساح مصري قديم محنّط، مسلطين الضوء على وجبته الأخيرة وتفاصيل أخرى مذهلة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا إحدى القطع الأثرية التي عرضت بمزادات خارجية (الدكتور عبد الرحيم ريحان)

مصر: تحرك برلماني لمواجهة بيع الآثار «أونلاين»

عادت قضية الاتجار في الآثار المصرية إلى الواجهة من جديد، بعد تحرك برلماني لمواجهة بيع الآثار «أونلاين» عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

محمد الكفراوي (القاهرة )
سفر وسياحة تلسكوب برج القاهرة يمنحك رؤية بانورامية للقاهرة (الهيئة العامة للاستعلامات)

من أعلى نقطة... إطلالات بانورامية على القاهرة

تتمتع القاهرة بمزيج فريد من التاريخ العريق والحياة العصرية النابضة، ما يجذب إليها ملايين الزوار من حول العالم، الذين يبحثون ويفتشون عن سحرها كل من منظوره الخاص.

محمد عجم (القاهرة )
يوميات الشرق يقول أحد العلماء إنه حل لغز «لعنة توت عنخ آمون» بعد أكثر من 100 عام (رويترز)

بعد 100 عام... دراسة تقدم تفسيراً لـ«لعنة مقبرة توت عنخ آمون»

مستويات الإشعاع السامة المنبعثة من اليورانيوم والنفايات السامة ظلت موجودة داخل المقبرة منذ أن تم إغلاقها قبل أكثر من 3000 عام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق أيقونات البشارة في متحف شرم الشيخ بمصر (وزارة السياحة والآثار المصرية)

معرض مصري للأيقونات القبطية يوثّق أحداث «عيد البشارة»

بجوار الركن البيزنطي في قاعة الحضارات بمتحف شرم الشيخ (شرق مصر)، نظمت إدارة المتحف معرضاً للأيقونات القبطية.

محمد الكفراوي (القاهرة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)