سياسات البنوك المركزية... فعل أم رد فعل لتباطؤ الاقتصاد العالمي؟

مقر مجلس الاحتياطي الاتحادي «البنك المركزي الأميركي» في واشنطن (رويترز)
مقر مجلس الاحتياطي الاتحادي «البنك المركزي الأميركي» في واشنطن (رويترز)
TT

سياسات البنوك المركزية... فعل أم رد فعل لتباطؤ الاقتصاد العالمي؟

مقر مجلس الاحتياطي الاتحادي «البنك المركزي الأميركي» في واشنطن (رويترز)
مقر مجلس الاحتياطي الاتحادي «البنك المركزي الأميركي» في واشنطن (رويترز)

خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس ليصل إلى 1.75 - 2 في المائة. وكان ذلك التخفيض الثاني من نوعه خلال العام 2019 متوقعاً بصفة عامة من قبل الأسواق، إلا أنه لم ينجح في دفع الدولار الأميركي نحو الانخفاض.
وتأتي تلك الخطوة بعد أسبوع واحد فقط من قرار البنك المركزي الأوروبي بتخفيض أسعار الفائدة على الودائع وإطلاق برنامج التيسير الكمي. وسيطر على بيان الاحتياطي الفيدرالي نفس النبرة التي تبناها في بيان السياسة النقدية الصادر عنه يوليو (تموز) الماضي، والذي أشار إلى تراجع الصادرات والاستثمارات التجارية في ظل تبرير البنك بأن خفض أسعار الفائدة يستهدف تعزيز نمو الاقتصاد الأميركي، نظراً لحالة «عدم اليقين» المتعلقة بالنمو الاقتصادي في المستقبل.
انتقد الرئيس دونالد ترمب كالمعتاد جيروم باول محافظ الفيدرالي الأميركي نظراً لافتقاده «الشجاعة»، حيث اعتاد الرئيس الأميركي على انتقاد الاحتياطي الفيدرالي مراراً وتكراراً لتباطؤه الشديد في خفض أسعار الفائدة. وقال تقرير صادر عن وحدة الدراسات الاقتصادية العالمية في بنك الكويت الوطني إن الأسواق تسعر حالياً قيام الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة مرة واحدة على الأقل هذا العام. إلا أنه على الرغم من ذلك، سيطر انقسام في الآراء بين المسؤولين بشأن اتخاذ القرار والحاجة إلى خفض أسعار الفائدة في المستقبل. حيث قام سبعة أعضاء بالتصويت لصالح خفض أسعار الفائدة في اجتماع الأربعاء الماضي، في حين أراد عضوان الإبقاء عليها دون تغير، وسعى عضو آخر إلى المزيد من التخفيض.
وعلى الرغم من معاناة الاقتصاد من بعض نقاط الضعف وتراجع معدلات التضخم عن المستويات المستهدفة، فإن نمو الإنفاق الاستهلاكي ما زال مستمراً بما أدى إلى ارتفاع مبيعات التجزئة واستقرار سوق العمل. وعلى الرغم من خفض أسعار الفائدة مرتين هذا العام، فإن أسعار الفائدة في الولايات المتحدة لا تزال أعلى بكثير مقارنة بدول أخرى، حيث تصل إلى معدلات سلبية في أوروبا واليابان. ما يدل على تفاوت في الإجراءات، وفقا لتقديرات كل بنك مركزي للظروف المحلية ومدى تأثرها بالمناخ الاقتصادي العالمي.
أضاف التقرير: «اضطربت الأسواق على مدار عدة أيام بعد اجتماع مجلس الاحتياطي الفيدرالي حيث ارتفعت معدلات اتفاقيات إعادة الشراء (الريبو) يوم الثلاثاء الماضي، الأمر الذي أجبر البنك المركزي على التدخل. وبلغت تكاليف الاقتراض في سوق إعادة الشراء ما يقارب 10 في المائة مقابل 2 في المائة قبل أسبوع فقط... بما دفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى ضخ مليارات الدولارات في النظام المالي».
حيث بدأ البنك المركزي الأميركي في البداية بضخ 53 مليار دولار نقداً في النظام المالي، ثم أعلن لاحقاً عن عمليتين مماثلتين. وتكشف تلك الخطوة عن نقص السيولة، وإن كان ذلك مبرراً، حيث أرجع باول ذلك النقص في السيولة إلى حاجة الشركات إلى المزيد من النقد لتسديد الضرائب والمستثمرين لشراء السندات الحكومية. وأضاف في وقت لاحق أن تلك القضايا ليس من شأنها ترك أثر واسع النطاق على الاقتصاد، مؤكداً قيام البنك بدوره بشكل مناسب.
الأسهم وسندات الخزانة
سجلت الأسهم في البورصات العالمية مكاسب طفيفة يوم الجمعة الماضي، وذلك بعد أن أشارت قرارات البنوك المركزية إلى تدابير تيسير كمي جديدة، حيث ارتفع مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» بنسبة 3.34 في المائة منذ بداية شهر سبتمبر (أيلول) وبلغ مستوى 2.992 نقطة، مقترباً من أعلى مستوياته على الإطلاق عند مستوى 3.027 نقطة التي بلغها منذ بضعة أشهر. واتبع مؤشر «داو جونز» الصناعي مساراً مشابهاً، حيث سجل نمواً بنسبة 3.4 في المائة خلال الفترة ذاتها، ويتداول حالياً عند مستوى 27.094 نقطة. من جهة أخرى، تراجعت عائدات سندات الخزانة الأميركية بعد الإعلان عن خفض أسعار الفائدة، حيث انخفض عائد سندات الخزانة لأجل عشر سنوات إلى 1.768 في المائة لكن عاودت الارتفاع في وقت لاحق. واقترب منحنى عائد السندات لأجل عامين ونظيرتها لأجل عشر سنوات من الانعكاس في ظل ارتفاع عائدات السندات قصيرة الأجل وتراجع عائدات السندات ذات الآجال الأطول.
بنك إنجلترا المركزي
صوت بنك إنجلترا بالإجماع على إبقاء أسعار الفائدة دون تغيير عند مستوى 0.75 في المائة على خلفية انتظاره للمزيد من الوضوح فيما يتعلق بمعضلة انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي. وفي بيان صادر عن البنك صرح بأن معدل التضخم ربما يصبح أضعف من المتوقع في حال استمرار الغموض المحيط بانفصال المملكة عن الاتحاد الأوروبي، في حين كشفت البيانات الصادرة قبل أيام قليلة عن تراجع معدل التضخم السنوي إلى أدنى مستوياته في ثلاثة أعوام بانخفاضه من 2.1 في المائة إلى 1.7 في المائة. وأظهر محضر اجتماع لجنة السياسات النقدية أن التأخير في التوصل إلى اتفاق بالنسبة لعلاقة المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يضر بمعدلات ثقة المستهلكين والشركات، وهو الأمر الذي تفاقم نتيجة للحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين والتي أدت إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي في الدولتين هذا العام. وانكمش اقتصاد المملكة المتحدة في الربع الثاني من العام بنسبة 0.2 في المائة. أما على صعيد الآفاق الاقتصادية، يتوقع البنك أن يسجل الاقتصاد نمواً بنسبة 0.2 في المائة في الربع الثالث على أمل تجنب الركود بمفهومه الفني الذي يعرف بأنه حصول انكماش على مدى ربعين متتاليين.
ومن أهم ما تضمنه محضر الاجتماع استعراضه للمرة الأولى للنتائج المتوقعة لانفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، موضحاً أن ذلك سيؤدي إلى ضعف معدلات النمو وارتفاع التضخم وانخفاض الجنيه الإسترليني مجدداً. وأشار صناع السياسة النقدية إلى أنه من المرجح أن ترتفع معدلات الفائدة تدريجياً مقارنة بأدنى مستوياتها المسجلة بعد العام 2008 إلا إذا كان هناك «انفصال سلس عن الاتحاد الأوروبي». وفي ظل عدم وجود اتفاق فسوف تتراجع قيمة الجنيه الإسترليني، ويرتفع التضخم ويتباطأ نمو الاقتصاد بما يؤدي إلى خفض أسعار الفائدة أو زيادتها وفقاً لبنك إنجلترا.
البنك الوطني السويسري
أبقى البنك الوطني السويسري (المركزي) أسعار الفائدة ثابتة متجاهلاً الضغوط العالمية المتزايدة وخفض توقعات النمو للعام الحالي، حيث أبقى على سعر الفائدة الرئيسي عند مستوى - 0.75 في المائة، مستشهداً بضعف آفاق النمو في الخارج. علاوة على ذلك، قام البنك الوطني بتعديل أساس حساب الفائدة السلبية على الودائع تحت الطلب لدى البنك الوطني السويسري، حيث أصبح بإمكان البنوك بدءاً من الآن إيداع المزيد من الأموال لدى البنك المركزي السويسري قبل تطبيق معدلات سلبية على ودائع البنوك التي تتخطى 25 ضعف الحد الأدنى من الاحتياطي المودع لدى البنك المركزي مقابل معدل 20 ضعف المطبق حالياً. وفي العام 2018 دفعت البنوك ما يقارب نحو ملياري فرنك سويسري من معدلات الفائدة السلبية والتي ظلت مطبقة منذ نحو خمسة أعوام حتى الآن. وبالنسبة للعام الحالي، خفض البنك الوطني السويسري توقعات التضخم إلى 0.4 في المائة مقابل توقعاته السابقة البالغة 0.6 في المائة، كما يتوقع أن يصل التضخم إلى 0.2 في المائة في العام 2020 مقابل 0.7 في المائة المتوقعة في الربع السابق.
آخر البنوك المتشددة
واصل البنك المركزي النرويجي السباحة عكس التيار السائد على صعيد السياسة النقدية العالمية واتجه نحو رفع أسعار الفائدة للمرة الرابعة منذ العام الماضي، حيث رفع البنك أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس لتصل إلى 1.5 في المائة. وأشار إلى أن احتمالات رفع أسعار الفائدة خلال العام المقبل أكثر من احتمالات خفضها. واتجهت معظم البنوك المركزية الرئيسية في العالم لتطبيق سياسة تيسيرية تتمثل في خفض أسعار الفائدة أو الإبقاء عليها دون تغير، إلا أن رئيس البنك المركزي النرويجي أويستين أولسن يصر على أن قوى مثل البترول والصناعات ذات الصلة هي التي تقود النمو الحالي الذي تفتقر إليه البلدان الأخرى. وأضاف أن البنك «كان عليه أن يتخذ الخطوات المناسبة للاقتصاد النرويجي في الوقت الحاضر» والتي تتمثل في زيادة سعر الفائدة. وعلى الرغم من ذلك، فقد أضاف في وقت لاحق أن حالة عدم اليقين بشأن النمو العالمي كانت السبب الرئيسي للإشارة إلى أن تلك الزيادة في أسعار الفائدة قد تكون الأخيرة خلال الدورة الحالية، وبالنظر إلى التضخم، فقد انخفض المعدل السنوي إلى 1.6 في المائة في أغسطس (آب) مقابل 1.9 في المائة في الشهر السابق - فيما يعد أبطأ وتيرة يسجلها منذ يناير (كانون الثاني) 2018.
التضخم العنيد في اليابان
بالانتقال إلى آسيا، فقد أبقى البنك المركزي الياباني على سعر الفائدة قصيرة المدى عند مستوى - 0.1 في المائة في ظل مساعيه الرامية إلى إدارة تأثير خفض أسعار الفائدة الأميركية وتباطؤ الاقتصاد العالمي. ولا يزال البنك متردداً بشأن إضافة المزيد من سياسة التحفيز النقدي ووعد بمراجعة الأوضاع في اجتماعه المقبل، كما قدم تحذيراً صريحاً أكد فيه قلقه بشأن مخاطر التعافي الاقتصادي. وساهم خفض أسعار الفائدة في الولايات المتحدة في تقليص فجوة العائد بين السندات اليابانية والأميركية بما قد يؤدي إلى ارتفاع قيمة الين الياباني، وهو الأمر الذي قد يتسبب في إحداث المزيد من الضرر للصادرات اليابانية الواقعة تحت ضغط هائل بالفعل نتيجة لتباطؤ نمو الاقتصاد الصيني.
وواصل بنك اليابان جهوده الحثيثة على مدار الأعوام الستة الماضية ليقترب معدل التضخم المستهدف من مستوى 2 في المائة، ويعتقد عدد كبير من المسؤولين الحاليين أن تطبيق المزيد من إجراءات خفض الفائدة قد يشكل خطراً على الاستقرار المالي وقد يؤدي إلى نتائج عكسية بما يؤثر سلباً على التضخم بدلاً من دفعه إلى الاقتراب من مستوى 2 في المائة. إلا أن المحافظ كورودا قد وعد مراراً باتخاذ ما يلزم إذا تطلب الأمر للحفاظ على الزخم من أجل الوصول إلى مستوى التضخم المستهدف.
وعلى صعيد سوق العملات فقد ارتفع الدولار الأميركي أمام الين الياباني نحو 1.62 في المائة هذا الشهر، ويتداول حالياً حول مستوى 107.58، والين الياباني يعتبر ملاذا آمنا في سوق العملات.



النمو المستدام للاقتصاد اللبناني مشروط بتقدم الإصلاحات الهيكلية

عمال يستخدمون رافعة لتعليق زينة شجرة عيد الميلاد المقامة أمام مسجد محمد الأمين في وسط بيروت (إ.ب.أ)
عمال يستخدمون رافعة لتعليق زينة شجرة عيد الميلاد المقامة أمام مسجد محمد الأمين في وسط بيروت (إ.ب.أ)
TT

النمو المستدام للاقتصاد اللبناني مشروط بتقدم الإصلاحات الهيكلية

عمال يستخدمون رافعة لتعليق زينة شجرة عيد الميلاد المقامة أمام مسجد محمد الأمين في وسط بيروت (إ.ب.أ)
عمال يستخدمون رافعة لتعليق زينة شجرة عيد الميلاد المقامة أمام مسجد محمد الأمين في وسط بيروت (إ.ب.أ)

خفّضت وكالة التصنيف الدولية «موديز»، في تقرير محدث، سقف ترقبات النمو الحقيقي للاقتصاد اللبناني هذا العام، من 5 في المائة المرتقبة محلياً، إلى 2.5 في المائة، مع إدراجها ضمن مسار إيجابي يرتفع إلى نسبة 3.5 في المائة خلال العامين المقبلين، ومع التنويه بأنّ هذه الأرقام «قابلة للتحسّن في حال تنفيذ الإصلاحات بشكلٍ سريع».

وتتلاقى مبرّرات الوكالة ضمنياً، مع تقديرات صندوق النقد الدولي التي تلاحظ أن التقدم المسجّل في ملف إبرام اتفاق مشترك مع لبنان، لا يزال «بطيئاً للغاية»، ويتعرض لانتكاسات تشريعية وقانونية، ما يؤكد مجدداً أن الأزمة لا تزال تتطلب توافقاً سياسياً جدياً لسن القوانين الإصلاحية الضرورية التي تمنح الصندوق الثقة الكافية للموافقة المكتملة على اتفاق يتضمن برنامج تمويل بمبالغ تتراوح بين 3 و4 مليارات دولار، وقابلة للزيادة أيضاً.

الرئيس اللبناني جوزيف عون خلال اجتماعه مع وفد من صندوق النقد الدولي (أرشيفية - الرئاسة اللبنانية)

ورغم التباين في تقديرات النمو المتوقعة لهذا العام، فإن التبدلات الطارئة على المناخات السياسية وانضمام مسؤول مدني إلى اللجنة العسكرية المعنية بوقف الأعمال العسكرية بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، قلّصت نسبياً من مخاوف توسّع الأعمال الحربية، وأنعشت بالتالي، بحسب مسؤول مالي معني تواصلت معه «الشرق الأوسط»، التطلعات الحكومية لتصحيح الأرقام، وربما فوق مستوى 5 في المائة، ربطاً بكثافة النشاط التجاري والسياحي المعتاد في فترة الأعياد والعطلات بنهاية العام.

وتعدّ عودة الاقتصاد المحلي إلى مسار النمو الإيجابي، وبمعزل عن التفاوت في النسب المحققة أو المرتقبة، تحولاً نوعياً لتأثير عودة الانتظام إلى عمل المؤسّسات الدستورية، بعد 5 سنوات متتالية من الأزمات الحادة والتخبط في حال «عدم اليقين» سياسياً واقتصادياً. ثم تُوّجت باندلاع حرب تدميرية طاحنة، أودت إلى اتساع فجوة الخسائر الإعمارية والقطاعية بما يزيد على 7 مليارات دولار.

وتكفلت تضافر هذه الوقائع السلبية المتتالية بانكماش حاد للناتج المحلي من أعلى المستويات البالغة نحو 53 مليار دولار عشية انفجار الأزمة إلى نحو 20 مليار دولار في ذروة الانهيارات المالية والنقدية، والمعزّزة بإشهار الحكومة الأسبق بتعليق دفع مستحقات الديون العامة، قبل أن يستعيد الاقتصاد حيوية هشّة دفعت أرقامه إلى حدود 31.6 مليار دولار بنهاية عام 2023، وفق رصد إدارة الإحصاء المركزي، ليصل بعدها إلى نحو 43 مليار دولار، وفق تقرير مصرفي محلي، بدفع من مؤشرات متنوعة تشمل السياحة وزيادة الاستيراد واستمرار التضخم واستدامة التحويلات الخارجية، ولا سيما من المغتربين والعاملين في الخارج.

رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام يُشير بيده أثناء حديثه خلال اجتماع مع وفد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (أ.ف.ب)

إعادة هيكلة القطاع المالي

لكن بلوغ مرحلة النمو المستدام للاقتصاد، والاستفادة من التزام الدول المانحة بدعم لبنان، يظل مشروطاً بتطبيق برنامج الإصلاح المعدّ من قبل صندوق النقد الدولي، حيث تتمحور المطالب الرئيسية حول إعادة هيكلة القطاع المالي، واعتماد استراتيجية متوسطة الأجل لتعبئة الإيرادات وترشيد النفقات، وخفض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي واستعادة الاستدامة المالية، فضلاً عن أولويات معالجة ضعف الحوكمة وتعزيز إطار مكافحة الفساد، وإجراء عمليات تدقيق موثوقة لمجمل المؤسسات والحسابات العامة.

وليس خافياً في هذا السياق، ملاحظة إدارة الصندوق أن موازنة الحكومة للعام المقبل، لم ترتقِ إلى مستوى التطلعات الإصلاحية المطلوبة، والاستجابة لضرورة الشروع بإعادة هيكلة الديون الخارجية للبلاد، والتي تشمل سندات «اليوروبوندز» المقدرة بأكثر من 41 مليار دولار، كجزء لا يتجزأ من استعادة القدرة على تحمل الديون. في حين تنبّه إلى أن الحكومة تستمر في الاعتماد على سياسة التقشف القاسي بغية فائض تشغيلي جزئي في الخزينة، بدلاً من التركيز على الإصلاح الهيكلي، والنظر في إصلاح السياسة الضريبية لإتاحة الحيز المالي اللازم للإنفاق على الأولويات مثل إعادة الإعمار والحماية الاجتماعية.

كما تبرز التباينات التي تقارب التناقضات في نقاط محددة بشأن منهجية معالجة الفجوة المالية ستظل عائقاً محورياً على مسار المفاوضات المستمرة بين الحكومة وصندوق النقد، خصوصاً في مقاربة مسألة الودائع التي تناهز 80 مليار دولار، حيث تعلو التحذيرات والانتقادات الحادة لمنحى «الاقتراحات المسرّبة» من اللجنة الحكومية التي تعكف على إعداد مشروع القانون الرامي إلى تغطية عجز القطاع المالي، والمتضمنة صراحة أو مواربة شطب ما يصل إلى 30 مليار دولار من إجمالي المدخرات لدى المصارف، وحصر الضمانة للسداد بمبلغ 100 الف دولار، وإصدار سندات «صفرية» الفوائد لمدة تتعدى 20 عاماً للمبالغ الأكبر.

وقد حافظت «موديز» على تصنيف لبنان السيادي عند الدرجة «سي»، وعلى النظرة المستقبليّة «المستقرّة» في تحديثها للتقييم الائتماني السيادي للحكومة اللبنانيّة، مؤكدة أن هذا التصنيف يعكس احتماليّة كبيرة بأن تتخطّى خسائر حاملي سندات الدين الدولية (اليوروبوندز) نسبة 65 في المائة. في حين يتم تداول هذه السندات حالياً في الأسواق الدولية بأسعار تقارب 25 في المائة من قيمتها الدفترية، بعدما انحدرت خلال الحرب الأخيرة إلى 6 في المائة فقط.

ولم يفت الوكالة الإشارة إلى أنّ تصنيف لبنان سيبقى على حاله، إلا إذا تمّ تطبيق إصلاحات جوهريّة على مدى سنوات عدّة من جهة، وتحسين القدرة على تحصيل الإيرادات وحصول تقدّم ملحوظ في ديناميكيّة الدين، كالنموّ الاقتصادي ومستويات الفوائد وإيرادات الخصخصة والقدرة على تسجيل فوائض أولية كبيرة من جهة موازية، وذلك لضمان استدامة الدين في المستقبل.


«إيرباص» تدفع ثمن الاعتماد المفرط على نموذج طائرة واحد

شعار «إيرباص» خلف نموذج لطائرة يورودرون خلال المعرض الدولي للفضاء في مطار برلين (د.ب.أ)
شعار «إيرباص» خلف نموذج لطائرة يورودرون خلال المعرض الدولي للفضاء في مطار برلين (د.ب.أ)
TT

«إيرباص» تدفع ثمن الاعتماد المفرط على نموذج طائرة واحد

شعار «إيرباص» خلف نموذج لطائرة يورودرون خلال المعرض الدولي للفضاء في مطار برلين (د.ب.أ)
شعار «إيرباص» خلف نموذج لطائرة يورودرون خلال المعرض الدولي للفضاء في مطار برلين (د.ب.أ)

تلقت شركة «إيرباص» الأسبوع الماضي تذكيراً قاسياً بأن طائرتها الأكثر مبيعاً في العالم، وهي سلسلة «إيه 320»، ليست محصنة ضد الصدمات، سواء كانت من مصدر فلكي، أو من خلل في الصناعة الأساسية. بعد أيام فقط من اضطرار العملاق الأوروبي لسحب 6 آلاف طائرة من طراز «إيه 320» بسبب خلل برمجي مرتبط بالإشعاع الكوني، اضطرت الشركة إلى خفض أهدافها لتسليم الطائرات لهذا العام بسبب اكتشاف عيوب في بعض ألواح جسم الطائرات (الفيوزلاج).

تؤكد هاتان النكستان المترابطتان -إحداهما متجذرة في الفيزياء الفلكية، والأخرى في مشكلات معدنية بسيطة- مدى هشاشة النجاح لشركة طيران تهيمن على أهم جزء في قطاع الطيران، وتتجه لتفوق «بوينغ» للعام السابع على التوالي في عدد التسليمات.

وقد علق الرئيس التنفيذي لـ«إيرباص»، غيوم فوري، لـ«رويترز» قائلاً: «بمجرد أن نتجاوز مشكلة، تظهر لنا مشكلة أخرى»، وذلك في معرض حديثه عن عدد الطائرات المحتمل تأثرها بمشكلات سمك الألواح.

جاءت هذه النكسات بعد أسابيع من تجاوز سلسلة «إيه 320»، بما في ذلك الطراز الأكثر مبيعاً «إيه 321»، لطائرة «بوينغ 737 ماكس» المضطربة بوصفها أكثر طائرة ركاب تم تسليمها في التاريخ.

خطأ برمجي مرتبط بالرياح الشمسية

بدأت أزمة الأسبوع الماضي عندما أصدرت «إيرباص» تعليمات مفاجئة لشركات الطيران بالعودة إلى إصدار سابق من البرنامج في جهاز كمبيوتر يوجه زاوية مقدمة الطائرة في بعض الطائرات، وذلك بعد أسابيع من حادثة ميلان طائرة «جيت بلو» من طراز «إيه 320» نحو الأسفل، ما أدى لإصابة نحو 12 شخصاً على متنها. أرجعت «إيرباص» المشكلة إلى ضعف في البرنامج تجاه الوهج الشمسي، والذي يمكن نظرياً أن يتسبب في انحدار الطائرة، في إشارة إلى الأسطورة اليونانية، حيث أطلق خبراء على الخلل اسم «علة إيكاروس». ورغم أن التراجع عن تحديث البرنامج تم بسرعة، فإن «إيرباص» واجهت بعد أيام قليلة مشكلة «أكثر رتابة» هددت بتقليص عمليات التسليم في نهاية العام: اكتشاف عيوب في ألواح الفيوزلاج.

تقليص الأهداف المالية

أدى اكتشاف الخلل في ألواح جسم الطائرة إلى انخفاض حاد في أسهم الشركة، حيث تراجعت أسهم «إيرباص» بنحو 3 في المائة خلال الأسبوع بعد أن انخفضت بنسبة 11 في المائة في يوم واحد. وفي غضون 48 ساعة، اضطرت «إيرباص» إلى خفض هدفها السنوي للتسليم بنسبة 4 في المائة.

تخضع «إيرباص» حالياً لضغوط من المحققين لتقديم المزيد من البيانات حول تعليق البرامج، بالإضافة إلى تردد بعض شركات الطيران في تسلم الطائرات المتأثرة دون ضمانات جديدة. كما تواجه الشركة أسئلة مستمرة حول سلاسل التوريد.

ويؤكد هذا الخلل، الذي اكتُشف لدى مورد إسباني، على التحديات التي تواجهها شركات الهياكل الجوية، ويبرز المخاوف المستمرة بشأن سلاسل التوريد التي اضطربت بسبب جائحة كوفيد-19. وأشار خبراء إلى أن حادثة الإشعاع الكوني هي تذكير بمدى تعرض الطيران للإشعاعات القادمة من الفضاء، أو الشمس، وهي مسألة أصبحت أكثر أهمية مع اعتماد الطائرات الحديثة على المزيد من الرقائق الإلكترونية. ودعا خبير الإشعاع الكوني جورج دانوس إلى ضرورة عمل المجتمع الدولي على فهم هذه الظاهرة بشكل أعمق.


وزير الطاقة القطري: الذكاء الاصطناعي يضمن الطلب المستقبلي على الغاز المسال

الكعبي يتحدث في جلسة خلال «منتدى الدوحة 2025» (إكس)
الكعبي يتحدث في جلسة خلال «منتدى الدوحة 2025» (إكس)
TT

وزير الطاقة القطري: الذكاء الاصطناعي يضمن الطلب المستقبلي على الغاز المسال

الكعبي يتحدث في جلسة خلال «منتدى الدوحة 2025» (إكس)
الكعبي يتحدث في جلسة خلال «منتدى الدوحة 2025» (إكس)

شكلت تصريحات وزير الدولة لشؤون الطاقة القطري، سعد الكعبي، خلال «منتدى الدوحة 2025»، نقطة محورية في مناقشات المنتدى الذي افتتحه أمير البلاد، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في نسخته الثالثة والعشرين تحت شعار: «ترسيخ العدالة: من الوعود إلى واقع ملموس». وأكد الكعبي على رؤية متفائلة للغاية لمستقبل الغاز، مشدداً على أنه «لا قلق لديه على الإطلاق» بشأن الطلب المستقبلي بفضل الحاجة المتزايدة لتشغيل مراكز الذكاء الاصطناعي.

وأكد الكعبي أن الطلب العالمي على الغاز الطبيعي سيظل قوياً بفضل تزايد احتياجات الطاقة لتشغيل مراكز الذكاء الاصطناعي، متوقعاً أن يصل الطلب على الغاز الطبيعي المسال إلى ما بين 600 و700 مليون طن سنوياً بحلول عام 2035. وأبدى في الوقت نفسه، قلقه من أن يؤثر نقص الاستثمار على الإمدادات المستقبلية للغاز الطبيعي المسال والغاز.

وقال الكعبي: «لا أشعر بأي قلق على الإطلاق بشأن الطلب على الغاز في المستقبل»، مُضيفاً أن الطاقة اللازمة للذكاء الاصطناعي ستكون مُحرّكاً رئيسياً للطلب. عند بلوغه كامل طاقته الإنتاجية، من المتوقع أن يُنتج مشروع توسعة حقل الشمال 126 مليون طن متري من الغاز الطبيعي المسال سنوياً بحلول عام 2027، مما سيعزز إنتاج قطر للطاقة بنحو 85 في المائة من 77 مليون طن متري سنوياً حالياً.

وأضاف أن أول قطار من مشروع «غولدن باس» للغاز الطبيعي المسال، وهو مشروع مشترك مع «إكسون موبيل» في تكساس، سيبدأ العمل بحلول الربع الأول من عام 2026.

وأكد الكعبي أن أسعار النفط التي تتراوح بين 70 و80 دولاراً للبرميل ستوفر إيرادات كافية للشركات للاستثمار في احتياجات الطاقة المستقبلية، مضيفاً أن الأسعار التي تتجاوز 90 دولاراً ستكون مرتفعة للغاية.

كما حذّر من كثرة العقارات التي تُبنى في الخليج، ومن احتمال «تشكُّل فقاعة عقارية».

الاتحاد الأوروبي

كما أبدى الكعبي أمله أن يحل الاتحاد الأوروبي مخاوف الشركات بشأن قوانين الاستدامة بحلول نهاية ديسمبر (كانون الأول).

وكانت دول مجلس التعاون الخليجي، أعربت يوم الجمعة، عن بالغ قلقها تجاه التشريعين المعروفين بتوجيه العناية الواجبة لاستدامة الشركات، وتوجيه الإبلاغ عن استدامتها، اللذين تتعلق بهما مجموعة تعديلات رفعها البرلمان الأوروبي، مؤخراً، إلى المفاوضات الثلاثية. وأكّدت دول المجلس أن قلقها نابع من أن هذه التشريعات ستفضي إلى إلزام الشركات الكبرى، الأوروبية والدولية، اتباع مفهوم الاتحاد الأوروبي للاستدامة، وبتشريعات تتعلق بحقوق الإنسان والبيئة، وبتقديم خطط للتغير المناخي خارج إطار الاتفاقيات المناخية الدولية، كذلك الالتزام بتقديم تقارير عن الاستدامة حول آثار تلك الشركات، والإبلاغ عن ذلك، وفرض غرامات على التي لا تمتثل لهذا التشريع.

كما أعربت قطر عن استيائها من توجيه العناية الواجبة في مجال استدامة الشركات الصادر عن الاتحاد الأوروبي، وهدّدت بوقف إمدادات الغاز. ويتمحور الخلاف حول إمكانية فرض توجيه العناية الواجبة في مجال استدامة الشركات غرامات على المخالفين تصل إلى 5 في المائة من إجمالي الإيرادات العالمية. وقد صرّح الوزير مراراً بأن قطر لن تحقق أهدافها المتعلقة بالانبعاثات الصفرية.

من جهة أخرى، أطلق الكعبي تحذيراً بشأن النشاط العمراني في المنطقة، مشيراً إلى أن هناك «بناءً مفرطاً للعقارات في منطقة الخليج»، ما قد يؤدي إلى «تشكُّل فقاعة عقارية».

استراتيجية مالية منضبطة

من جهته، أكد وزير المالية القطري، علي أحمد الكواري، خلال المنتدى، قوة ومتانة المركز المالي للدولة. وأوضح أن التوسع المخطط له في إنتاج الغاز الطبيعي المسال سيعمل كعامل تخفيف رئيسي يقلل من تأثير أي انخفاض محتمل في أسعار النفط مستقبلاً. وأضاف أن السياسة المالية «المنضبطة» التي تتبعها قطر تمنحها مرونة كبيرة، مما يعني أنها لن تضطر إلى «اللجوء إلى أسواق الدين» لتلبية احتياجاتها من الإنفاق في أي مرحلة.