30 يونيو: الثورة السودانية تتجدد

«نحنا المد... نحنا السد... نحنا الحارة وقت الجد، نحنا الجيل اللي بيموت الليلة عشان يعيش في الغد».
هتاف تردد يوم 30 يونيو (حزيران) في العاصمة المثلثة وكل جهات السودان من مدن وبلدات، يوم فريد ليس فقط لجهة خروج الملايين في «مواكب الحداد على الشهداء» في استجابة تاريخية لدعوة قوى «إعلان الحرية والتغيير»، بل وأيضاً لأنها وفق تقييم «تجمع المهنيين» حشود غير مسبوقة تعكس النسيج السوداني «ملأت الشوارع والساحات التزمت كلها السلمية واختارت طريق اللاعنف لتحقيق أهدافها»... ما شكّل «استفتاء حقيقياً لطلب السودانيين تكوين سلطة مدنية حقيقية» تعبر عن تطلعات المواطنين، ولا سيما جيل الشباب الذي يشكل معظم المتظاهرين وهم ولدوا أيام حكم ثنائي الطغيان البشير والترابي، ولن يتوقفوا إلاّ بعد إقامة الدولة المدنية.
مليونية 30 يونيو شكلت موجة جديدة من الثورة أعلنت عن وجود قيادة حكيمة موثوقة الرؤية، قادرة على تحريك الشارع من أجل تحقيق انتقال منظم للسلطة بقيادة مدنية، انتقال من شأنه تهيئة الظروف في نهاية المرحلة الانتقالية لإجراء انتخابات حرة نزيهة وعادلة. ولا شك جددت المليونية رسم خرائط النفوذ والتمثيل الشعبي وأعادت التأكيد أن التوازن الحقيقي ما زال لمصلحة الثورة. نعم نجحت الثورة السودانية، حتى الآن، في إثبات قدرة لافتة على استنباط تجارب نضالية مهمة، من التظاهر دوماً في «توقيت الثورة» في الواحدة ظهراً، إلى الإضراب العام والعصيان المدني والمواكب الليلية وصولاً إلى مليونية 30 يونيو، وأبقت ورقة الشارع والتحرك السلمي مفتوحة، مؤكدة مواقفها من ضرورة قيام حكم مدني حقيقي، وجاء هذا الموقف مصحوباً بجدول أعمالٍ احتجاجي تضمن الدعوة لمظاهرات مركزية وعصيان مدني شامل وإضراب سياسي في ذكرى أربعينية «فض الاعتصام» يومي 13 و14 من الشهر الحالي. وما يثير الانتباه كذلك يكمن في نجاح القوى الثورية في رسم خط بياني سياسي جامع لكل مكوناتها، ما أبرز مدى التأييد الشعبي الذي تمكن من تجاوز الملاحقات والاعتقالات وعمليات القتل، فتعامل المجلس الانتقالي مع هذا الواقع بإيجابية من خلال خطوة الإفراج عن المعتقلين السياسيين، والاعتراف بمسؤوليته عن قرار «فض الاعتصام».
ومن البداية ينبغي التنويه بأن الثورة السودانية ما كانت لتنجح في إسقاط البشير وتحويله مع كثيرين من رموز حكمه إلى القضاء لولا الانحياز العسكري الكبير للثورة، والتجاوب اللاحق الذي تمثل في إسقاط انقلاب القصر، ولا يمكن بالتالي تصور حل سياسي إلاّ من خلال تسوية بين الجهتين، والإيجابي هنا أن الوساطة الأفريقية أخذت هذا الأمر بعين الاعتبار. لأجل ذلك يصبح مفهوماً أن تعبر قوى «إعلان الحرية والتغيير» عن القلق العميق من المحاولات المبرمجة التي تلت «فض الاعتصام» يوم 3 يونيو وهدفت إلى تكريس منحى جديد، استند إلى تقدير أن الوضع الثوري في تراجع وحركة الناس أصابها الوهن، خصوصاً بعدما جاهر المجلس الانتقالي برموزه الرئيسية بالتراجع عن الاتفاقات السابقة، فطرح حكومة من نوع حكومات «الوحدة الوطنية». جهود محمومة بُذلت من أجل إعادة تظهير دور مزعوم لقوى كانت شريكة أساسية مع النظام البائد، إلى مجموعات قبلية وكذلك الرهان على بعض الحركات المسلحة. ونشأت مخاوف جدية من أن يكون هناك من يزين منحى الاستئثار بالمرحلة الانتقالية، وتشكيل حكومة من هذه الأطراف، والذهاب إلى تنظيم انتخابات سريعة معروفة النتائج، ستأتي مجدداً بممثلي الدولة العميقة وتحديداً فلول نظام البشير إلى الواجهة، لأن هذه الجهات هي من يمسك بناصية القرار على كل المستويات، ولديها إلى جانب شهوة السلطة ومسعى إعادة إحياء النظام، إمكانات الدولة والأمن والأدوات الرسمية التي ترسخت طوال 30 سنة من حكم الإسلام السياسي.
أبرزت مليونية 30 يونيو حقيقة خطورة هذا المنحى وسلبيته لأنه لن يحل شيئاً والنار ستبقى تحت الرماد، وربما ستدفع هذه المليونية الجميع إلى بلورة تسوية قابلة للحياة، تضع السودان على طريق التحول الديمقرطي، وإنه من الإيجابي ما أُعلن عن قبول الفريقين أي قوى الثورة والعسكر بالمبادرة الأفريقية مع بعض التباينات، لأنه ليس مجدياً لأحد تجاوز هذه الوساطة، فالحدث السوداني أكبر من نيات موجودة لدى بعض الجهات التي تضغط في محاولة لإعادة إنتاج النظام البائد مطعّماً بوجوه جديدة. بعد 30 سنة من الحكم العسكري المتحالف مع جماعة «الإخوان المسلمين»، والويلات التي تسببت بها سياساتهم الجائرة من إشعال الحروب الأهلية وتقسيم البلاد ولم تقدم للناس إلاّ القمع والجوع، لم يعد ممكناً الرهان على تبيض صورة تلك القوى التي استخدمت من الحكم البائد تحت عنوان الحوار.
اليوم رغم تقنين وسائل التواصل وحظرها عن السودان ومحاولات فرض التعتيم الإعلامي، حضر الحدث السوداني في العالم، وقدمت هذه الثورة صورة مغايرة عن كل ما حدث في المنطقة منذ عام 2011. ويمكن التأكيد أن هذا الحدث وخاصة منذ 11 أبريل (نيسان) يتطلب كثيراً لاستخلاص الدروس التي وفّرها، وأهمها الوحدة التي استعادت النسيج الشعبي السوداني وهذا الإصرار على السلمية ورفض العنف. ومع المفاوضات غير المباشرة الجارية آن أوان التوجه لإنجاز التسوية بين الطرفين الفاعلين، قوى «إعلان الحرية والتغيير» والمجلس العسكري الانتقالي، وقرار قيادة التحرك الثوري إرجاء البحث في تكوين المجلس التشريعي خطوة على الطريق. بعد هذه المليونية وعمق التحرك الشعبي بوجه الديكتاتورية العسكرية و«الإخوان المسلمين» لم يعد سهلاً تصور وجود إمكانية لمجيء حاكم مستبد جديد، وهذه الحقيقة لا يمكن أن تكون غائبة عن القيادات السودانية.