نصف المصابين بالإيدز نساء... والأبحاث تركز على الرجال

هن أكثر عرضة للإصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية

النساء يمثلن متوسط 11 في المائة من تجارب العلاج فقط
النساء يمثلن متوسط 11 في المائة من تجارب العلاج فقط
TT

نصف المصابين بالإيدز نساء... والأبحاث تركز على الرجال

النساء يمثلن متوسط 11 في المائة من تجارب العلاج فقط
النساء يمثلن متوسط 11 في المائة من تجارب العلاج فقط

يقتفي العلماء أثر العشرات من الطرق والوسائل لعلاج مرض الإيدز، إثر التقارير الأخيرة التي تفيد بتحرر مريض آخر، على ما يبدو، من كارثة الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة، الفيروس المسبب لمرض الإيدز.
ولكن الآن، يتعين على الباحثين الأخذ في الاعتبار العوائق طويلة الأمد؛ نقص عدد النساء في التجارب الإكلينيكية المحتملة لإجراءات، وعلاجات، ولقاحات فيروس نقص المناعة المكتسبة.
وتشكل النساء نسبة تزيد قليلاً على نصف عدد البشر البالغ 35 مليون نسمة من المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسبة على مستوى العالم، ويعتبر الفيروس من الأسباب الرئيسية في الوفاة بين النساء من سن الإنجاب. وفي أفريقيا، وأجزاء من أميركا الجنوبية، وحتى في الولايات الأميركية الجنوبية، تساعد حالات الإصابة الجديدة بالعدوى بين الشابات في استمرار شيوع الوباء.
وتختلف استجابة النساء عن الرجال حيال الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة، لكن التجارب الإكلينيكية تواصل الاعتماد وبشكل كبير على مشاركة الرجال. وتعتبر تجارب العلاجات المحتملة طفيفة بصورة خاصة في هذا السياق.
وخلص تحليل صادر عام 2016 بواسطة مؤسسة «أمفار»، إلى أن النساء يمثلن متوسط 11 في المائة من تجارب العلاج.
وهناك اختلافات معروفة علمياً في أنظمة المناعة لدى الرجال والنساء. على سبيل المثال، يؤدي لقاح الإنفلونزا إلى استجابة عالية لدى النساء بأكثر من الرجال. ويبدو أن الاستجابة إلى العدوى بفيروس نقص المناعة المكتسبة مختلفة كذلك. إذ يستجيب نظام المناعة لدى النساء في بداية الأمر بقوة ملحوظة، ويمارس سيطرة صارمة على نشاط الفيروس لمدة من 5 إلى 7 سنوات. ولكن مع طول المدة، فإن حالة التأهب المناعية الشديدة لها سلبياتها. وتتحرك النساء على مسار الإصابة بمرض الإيدز بوتيرة أسرع من الرجال، وهن أكثر عرضة للإصابة بالنوبات القلبية والسكتات الدماغية عن الرجال.
تقول الدكتورة مونيكا غاندي، أستاذة الطب لدى جامعة كاليفورنيا فرع سان فرنسيسكو: «هناك كل أوجه الاختلاف بين الرجال والنساء، وربما تدور الاختلافات حول وساطة جزئية عن طريق الآثار الهرمونية».
على سبيل المثال، يبدو أن هرمون الإستروجين الأنثوي يدخل فيروس نقص المناعة المكتسبة في حالة خمول واضحة. وربما يبدو ذلك تكتيكاً جيداً، ولكن الفيروس الخامل هو أصعب ما يمكن القضاء عليه بواسطة النظام المناعي أو العقاقير المعالجة.
بعض الاختلافات قد تكون واضحة حتى قبل سن البلوغ؛ ففي إحدى الدراسات، كان جميع الأطفال الـ11، باستثناء واحدة فقط، من الفتيات من «مجموعة النخبة الضابطة» - الناس الذين يبدو أنهم يخمدون فيروس نقص المناعة المكتسبة بعيداً عن العقاقير.
وتستجيب النساء كذلك بصورة مختلفة تماماً عن الرجال بالنسبة لبعض العلاجات الدوائية الأخرى.
النساء المصابات بفيروس نقص المناعة المكتسبة يملن إلى الانعزال، وربما لا يدافعن عن حقهن في الحصول على العلاج. وربما يحتجن إلى المساعدة في رعاية الأطفال أو الانتقال، أو التعامل الأكثر راحة مع الطبيبات من النساء - وهي المرافق التي قلما توفرها التجارب الإكلينيكية. وهناك عقبة أخرى قائمة في وجه النساء الملونات: وهي عدم الثقة الناشئ عن تاريخ طويل من الاستغلال على أيدي الباحثين في المجال الطبي. تقول أوبلانكا آدامز (60 عاماً) التي تعيش بفيروس نقص المناعة المكتسبة في مدينة كونكورد بولاية كاليفورنيا: «لا تزال وصمة عار كبيرة أن تعيش بهذا الفيروس في مجتمعنا وتسعى وراء الأبحاث المعالجة».
وأضافت: «لا يبدو أن العلماء يعرفون كيف يحوزون على ثقة المرضى. إن الطريقة التي تخرج بها المعلومات إلى مجتمعنا ومعارفنا ليست طريقة شاملة ولا هي دعاية إيجابية لأحد».
وفي الحالات النادرة التي يبذل العلماء فيها جهوداً خاصة لتسجيل النساء، فإنهم يواجهون مزيداً من الانتقادات من إدارة الأغذية والأدوية الأميركية، وهي الإدارة التي تفرض القواعد الصارمة للغاية على إدراج النساء من سن الإنجاب. ويتجه أغلب الباحثين إلى الطريق الميسورة من إدراج الرجال بدلاً من ذلك، ويجمعون البيانات من النساء فقط بعد ظهور عقار جديد في الأسواق.
وحققت تجربتان حديثتان للعقاقير المضادة للفيروسات الرجعية - تلك التي تؤخذ بطريق الحقن وليس بالتناول الفموي اليومي - نسبة نجاح أفضل في جذب أعداد كبيرة من النساء بواقع 33 في المائة من المشاركين في إحدى الدراسات، و23 في المائة في دراسة أخرى. ولكن بسبب وعود العلاج النهائي الأقل تكراراً، كانت تلك التجارب شائعة للغاية، وكانت ذات وقت أسهل كثيراً في اجتذاب النساء أكثر من غيرهن.
تقول الدكتورة كيمبرلي سميث، رئيسة قسم الأبحاث والتطوير لدى مؤسسة «فييف هيلث كير» التي قادت الأبحاث المشار إليها: «كان المرضى مصطفين في طابور خارج العيادة».
وبصفة عامة، ورغم كل شيء، لا تزال التجارب في الولايات المتحدة تعاني من ضعف مشاركة النساء، نظراً لأن نحو 75 في المائة من المصابين من الرجال.
وتنبؤاً بالحاجة إلى اختبار العلاجات على النساء الشابات، أسس بروس والكر وزملاؤه في معهد روغان التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفارد، مجموعة أطلق عليها اسم «الجدد في جنوب أفريقيا». وخضعت ما يقرب من ألفي امرأة شابة من بلدة أوملازي مرتين في الأسبوع للفحص من فيروس نقص المناعة المكتسبة.
وبصفة عامة، فمن الصعوبة إجبار العلماء على اعتبار الحاجة إلى مشاركة النساء على محمل الجدية، كما تقول الدكتورة إيلين سكالي الأستاذ المساعد للطب في جامعة جونز هوبكنز، التي قالت: «بعض العلماء المتشددين يرفض هذا النوع من المناقشات ويصفها بأنها من المحددات الاجتماعية، أو أمر من الأمور المتعلقة بتحرير المرأة».
وقادت الدكتورة إيلين سكالي: «تجربة العلاج الوحيدة التي ركزت فقط على النساء، وأجرت الاختبار بما إذا كان العقار الذي يوقف عمل هرمون الإستروجين يسهل الأمر للقضاء على فيروس نقص المناعة المكتسبة، أم لا. ومنذ البداية، كان على فريق البحث أن يقدم بعض التنازلات».
وللالتفاف على القيود التي تحدد من مشاركة النساء في سن الإنجاب، طلبت الدكتورة سكالي من فريقها البحثي استقدام النساء بعد انقطاع الطمث لديهن. ولكن هؤلاء المشاركات لديهن مستويات متدنية من هرمون الإستروجين في الدم، الأمر الذي قد يؤدي إلى تشويه نتائج الأبحاث.


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة: الفتيات 70% من المراهقين المصابين بالإيدز

صحتك المديرة المعاونة في «يونيسيف» لشؤون فيروس نقص المناعة البشرية أنوريتا بينز (يونيسيف)

الأمم المتحدة: الفتيات 70% من المراهقين المصابين بالإيدز

شكّلت الفتيات 70 في المائة من الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 15 و19 عاما المصابين بفيروس الإيدز عام 2023.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
صحتك الحقن أكثر فعالية من الحبوب اليومية للوقاية من الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة (أ.ب)

دراسة: التطعيم مرتين سنوياً يحمي من الإيدز

كشفت دراسة جديدة نُشرت نتائجها في مجلة نيو إنجلاند الطبية يوم الأربعاء أن التطعيم مرتين سنوياً يمكن أن يساعد في الوقاية من الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك يمكن خفض تكلفة علاج الإيدز من نحو 40 ألف دولار سنوياً إلى أقل من 40 دولاراً (د.ب.أ)

دواء واعد للإيدز ستقل تكلفته ألف مرة في حال أُنتج دون علامة مسجلة

يمكن خفض تكلفة دواء واعد جداً لمرض الإيدز من نحو 40 ألف دولار سنوياً للشخص الواحد إلى أقل من 40 دولاراً، في حال إنتاجه دون علامة مسجلة، أي بنسخة جنيسة (جنريك).

«الشرق الأوسط» (باريس)
صحتك ألماني في الستين سابع مريض يُشفى من فيروس نقص المناعة البشرية بعد عملية زرع نخاع عظمي (أرشيفية)

ألماني في الستين قد يكون سابع مريض يُشفى من الإيدز بعد زرع نخاع عظمي

يُرجّح أن يكون ألماني في الستين سابع مريض يُشفى من فيروس نقص المناعة البشرية بعد عملية زرع نخاع عظمي إذ لم يعد لديه أي أثر للفيروس بجسده.

«الشرق الأوسط» (باريس)
صحتك يتناول المعرضون لخطر الإصابة بفيروس (إتش آي في) يومياً قرصاً يحتوي على مواد فعالة تمنع تكاثر الفيروس بالجسم (أرشيفية)

تقرير: 2200 إصابة جديدة بفيروس نقص المناعة في ألمانيا خلال 2023

أشار تقدير جديد لمعهد روبرت كوخ الألماني لأبحاث الفيروسات إلى أنه من المحتمل إصابة نحو 2200 شخص بألمانيا بفيروس نقص المناعة البشرية (إتش آي في) العام الماضي.

«الشرق الأوسط» (برلين)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)