يوسف شاهين... نأى بنفسه عن السائد وبقي مصرياً‬

«السينماتيك فرنسيز» ما زال يحتفي به ‬بعد عقد على رحيله

يوسف شاهين خلال تصوير آخر أفلامه: «هي فوضى»
يوسف شاهين خلال تصوير آخر أفلامه: «هي فوضى»
TT

يوسف شاهين... نأى بنفسه عن السائد وبقي مصرياً‬

يوسف شاهين خلال تصوير آخر أفلامه: «هي فوضى»
يوسف شاهين خلال تصوير آخر أفلامه: «هي فوضى»

يستمرّ «سينماتيك فرنسيز» بتقديم معرض المخرج المصري الراحل يوسف شاهين يومياً من الثانية عشرة ظهراً. ديكورات وتصاميم ملابس وملصقات وأفلام يوفرها المركز الفرنسي الذي لا غنى عنه لأي سينمائي قديم أو حديث منذ الرابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني)، العام الماضي، وينتهي في الثامن والعشرين من يوليو (تموز) المقبل. ‬ خلال هذه الفترة كان عرض أعمالاً لعدد كبير من السينمائيين العالميين، من بينهم أفلام المخرج السويدي إنغمار برغمن، والمخرج الفرنسي رينيه كليز، والممثلة الأميركية جين فوندا، والممثلة والمخرجة الفرنسية فاليريا بروني تديشي، والمخرج الأميركي بيلي وايلدر، والمخرج الإيطالي ألبرتو لاتوادا من بين رهط كبير آخر.‬
في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أقام مهرجان الجونة حفلاً خاصاً لموسيقى أفلام شاهين، عارضاً مقتطفات من أربعة أفلام. وقامت «مدينة الثقافة التونسية» بإقامة معرض صور له للمناسبة ذاتها. وقامت صالة «زاوية» في القاهرة بعرض أفلام للمخرج العريق للمناسبة ذاتها شهدت، كما أفادت الأنباء التي وردت آنذاك، إقبالاً كثيفاً من جمهور لم يعاصر تماماً أعمال المخرج السابقة. ‬
‬- شاهين في «كان»‬
شق شاهين طريقه إلى الغرب باكراً كما يشهد مهرجان «كان» السينمائي ذاته.‬ ففي عام 1951 قدّم شاهين فيلمه «ابن النيل» (ثاني أفلامه) على شاشة المهرجان الفرنسي داخل المسابقة. بعد ثلاث سنوات عاد بفيلمه الثامن «صراع في الوادي» ثم غاب طويلاً عن المهرجان الفرنسي (وإن قصد مهرجان برلين بفيلمه «باب الحديد» سنة 1958)، حتى عاد إليه في «الأرض» (1970) ولاحقاً (وخلال السنوات المتوالية) «العصفور» (1973) و«وداعاً بونابرت» (1985)، و«الإسكندرية كمان وكمان» (1990)، و«المصير» (1997)، و«الآخر» (1999)، و«القاهرة» (2001)، و«الإسكندرية - نيويورك» (2004). ومنحه المهرجان جائزة خاصة عن مجمل أعماله الأمر الذي لم يتكرر له مع أي مهرجان رئيسي آخر.‬
للتأكيد، لم يكن شاهين المخرج المصري الوحيد الذي وطأ عتبات «كان» عارضاً أفلامه في المسابقة أو في أقسامها الموازية. قبله اختار المهرجان الفرنسي فيلم «دنيا» لمحمد كريم لعرضه في مسابقة دورة 1947. بعد عامين جاء دور صلاح أبو سيف بفيلم «مغامرات عنتر وعبلة» (المسابقة). فيلم كمال الشيخ الممتاز «حياة أو موت» كان رابع فيلم مصري يعرضه «كان» في مسابقته، أي مباشرة بعد «ابن النيل» ليوسف شاهين. عاد صلاح أبوسيف لمرّة ثانية وأخيرة عبر «شباب امرأة» (1956)، وعاد كمال الشيخ بفيلم «الليلة الأخيرة» (1964). وخلال ذلك شهدت أفلام مصرية أخرى لهنري بركات («الحرام»، 1965) وعاطف سالم («سنوات المجد»، 1965) وعاطف الطيب («الحب فوق هضبة الهرم»، 1985) ومحمد خان («عودة مواطن، 1997) ويسري نصر الله («باب الشمس»، 2004) وتهاني راشد («البنات دول»، 2006) وصولاً إلى أبو بكر شوقي الذي دخل مسابقة «كان» بفيلم «يوم الدين» في العام الماضي.‬
‬- المقابل المختلف‬
لكن الجمهور الغربي تآنس مع أفلام يوسف شاهين وأقبل عليها أكثر من أي مخرج مصري آخر. الواضح أن التآلف بين الجمهور الفرنسي، على الأخص، والعالمي، بشكل عام، تمحور حول أفلام يوسف شاهين أكثر من أي أفلام أخرى لأي مخرج عربي آخر. ‬
هناك سبب مهم وأساسي لذلك تكشفه أفلام يوسف شاهين ذاتها. فالمخرج الذي وُلد في الإسكندرية سنة 1926، عرف كيف ينأى بنفسه عن السائد المصري، وأن يبقى مخرجاً مصرياً في الوقت ذاته.
يوسف شاهين حقق أفلامه المصرية في أحداثها وشخصياتها بصياغة أجنبية عرف كيف يتسلل إليها حال فك قيوده مع الشكل التقليدي للفيلم المصري، وذلك منذ سنوات مبكرة في حياته السينمائية التي شملت 38 فيلماً ما بين 1950 و2007. ‬
نلحظ كذلك كم أن هذا المخرج الذي انطلق للعمل شاباً في السادسة والعشرين من العمر حافظ على استقلاليته الفكرية والفنية ومبادئه في صياغة الفيلم الذي يريد، حالما وقف على قدميه من بعد أفلام أولى تقليدية. ‬
هذه الأفلام التقليدية بدأت بفيلم «بابا أمين» (1950)، وشهدت «ابن النيل» (1951)، و«المهرج الكبير» (1952)، و«سيدة القطار» (1952)، و«نساء بلا رجال» (1953)، و«ودعت حبك» (1956)، من بين أخرى.‬
بعض هذه الأفلام كان ذا بصمة شاهينية واضحة، خصوصاً «سيدة القطار» و - لاحقاً - «صراع في الوادي» و«صراع في الميناء» (1954 و1956 على التوالي). لكن يوسف شاهين جديداً وُلد بالفعل سنة 1958 بفيلم «باب الحديد» الذي أدّى فيه دوراً رئيسياً كذلك أمام هند رستم وفريد شوقي.
بعد هذا الفيلم عمد شاهين إلى الأفلام التاريخية والموسيقية كما الدراما العاطفية، فحقق «الناصر صلاح الدين» (1963)، و«بيّاع الخواتم» (1964)، و«رجل في حياتي» (1961)، لكنه بعد خمس سنوات من «باب الحديد» عاد إلى الواجهة العالمية بأول فيلم من سلسلة سياسية تبحث في أوضاع الوطن عبر حقبات متعاقبة. هذا الفيلم كان «الأرض» (1969) الذي شحن فيه الأجواء بمشاهد استماتة الفلاح بأرضه تحت عبء الإقطاع الذي كان سائداً وقت أحداث الفيلم (قبل ثورة 1952). ‬
‬- صوب الذات وعكسها‬
هذا المد السياسي تابعه المخرج في «الاختيار» (1974)، وفي «عودة الابن الضال» (1976) وكلاهما جاء محمّلاً بالرمزيات الفاضحة لمشكلات المجتمع، بصرف النظر عن الفترة الزمنية التي يتناولها كل فيلم. ‬
وكان حقق سنة 1971 فيلم «العصفور» الذي نقل فيه الأحداث إلى الفترة التي سبقت وتبعت استقالة الرئيس جمال عبد الناصر بعد هزيمة عام 1967، وعودته عن تلك الاستقالة. فيلم «العصفور» بقدر ما كان مؤرِّخاً لتلك الفترة كان تحذيراً من نتائج ما حدث في فترة سادت فيها الأحلام الكبيرة على الرغم من خروج الناس إلى الشوارع للتعبير عن رفضهم للهزيمة وللاستقالة معاً. هنا قال شاهين كلمته النقدية لعصر وعد وخاض وخرج من التجربة بآلام كبيرة. في الوقت ذاته، عكس ذلك المقدار من الوقوف إلى جانب الإنسان العادي الذي آثر الاستمرار في النهج السابق على أن يترك أحلامه تندثر بسبب أخطاء القيادة.‬
لم يُفهم «عودة الابن الضال» (1976) على هذا النحو لكنه احتوى ذلك النقد للأرضية بشقيها السلطوي والدنيوي. على أن هذا الفيلم لم ينل ما يستحقه من احتفاء نقدي بعد، رغم أنه احتوى على التمهيد اللازم لانتقال شاهين إلى كل تلك الأعمال المقبلة التي سادتها النزعة الذاتية. فهو يدور عن الذات والذات الأخرى... متلازمتان حتى التشابه الكلي ومتناقضتان في الاتجاه العاطفي والنفسي.‬
بعده قرر شاهين، سنة 1979، أن الوقت حان ليتكلم عن نفسه بوضوح أكثر، وهكذا وُلد «إسكندرية ليه»؟ و«حدوتة مصرية» (1982) و«الإسكندرية كمان وكمان» (1990) و«إسكندرية - نيويورك» (2004).‬
تخلل هذه الأفلام «الآخر» (1999)، و«سكوت حنصور» (2001)، وقبل ذلك «المهاجر» (1994)، و«المصير» (1997). لكن من العبث اعتبار أن كل هذه الأفلام كانت - فنيّاً - متساوية. ‬
كل ما سبق نسيج مكّن يوسف شاهين من تكوين صوته الخاص، لا في السينما المصرية والعربية فقط، بل في السينما العالمية. استخدم شاهين لغة مؤلفة من مفردات أجنبية ليتحدث عن شؤون مصرية، ومن بين هذه المفردات تحويل الاهتمام من الموضوع العام إلى الخاص ومنح أعماله الصفة الذاتية التي انتقدها عليه سينمائيون مصريون كثيرون، لكن الغرب فهمها وتجاوب معها.‬
ليس من الصدفة على الأرجح أن أسلوب شاهين في بعض أعماله في الثمانينات لا يبتعد كثيراً عن أسلوب المخرج المجري ميكلوش يانشو (1921 - 2014) في السمات الأساسية، خصوصاً لناحية تجاوز المحور الواحد واتباع سبل الإحاطة الشاملة بكاميرا دائمة الحركة، وبحوار لا يبدو مصرياً إلا بلهجته.‬
- أحد أسلوبين‬
التفاوت المشار إليه في أعمال المخرج ازداد في أفلامه الأخيرة. «هي فوضى» (آخر أفلامه وحققه بشراكة مع خالد يوسف) و«سكوت حنصور» (2001) و«الآخر» (1999) لا ترتفع إلى سدّة أفلام سابقة له. حتى «إسكندرية - نيويورك» لم يحفل بإخراج فذّ يجعله قريب المستوى من «حدوتة مصرية» أو «الإسكندرية ليه». ومع أن هذا أمر عرفه مخرجون آخرون قبله وبعده، فإن المسألة لدى شاهين ربما لها علاقة بتلك الذات فعلياً. لقد وجد المخرج نفسه وقد بات اسماً عالمياً، ولو أنه لم يزن مقدار هذه العالمية خارج إطارها الفرنسي. بالتالي، ترك لنفسه حرية أن يعكس ذاته في أي عمل يؤول إليه حتى وإن كان ضمن مجموعة أفلام «سبتمبر 11» حققها 11 مخرجاً من أنحاء العالم.
شاهين عمد إلى واحد من أسلوبين شاملين للتعامل مع الذات. أولهما أن يحيل المخرج ذاته لتعيش من خلال أفلامه. الثاني أن يحيل المخرج ذاته لتعيش من خلال أفلامه، وتسطو عليها أيضاً. وشاهين اختار الأسلوب الثاني.‬
قدرة المخرج البديعة ومستوى معظم أفلامه ليست بحاجة لمن يدافع عنها، فهي موجودة وحاضرة لتثبت أنه كان مخرجاً منفرداً بين سينمائيي العالم العربي. ولعل احتفاء «السينماتك فرنسيز» هو الذي يمكن اعتباره الأوفى والأشمل والأطول كذلك.‬


مقالات ذات صلة

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».