«حراس الدين»... مزيج متطرف

هيكله التنظيمي مُعقد ومستقبله غامض

مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)
مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)
TT

«حراس الدين»... مزيج متطرف

مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)
مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)

مر ما يقارب العام على ظهور تنظيم «حراس الدين» الإرهابي شمال غربي سوريا، وعلى الرغم من مخاوف الخبراء الأمنيين من أن التنظيم الوليد سوف يشكل خطراً على استقرار الأوضاع الأمنية في سوريا والعراق، خصوصاً أنه مزيج من تنظيمات متطرفة مختلفة مثل «القاعدة»، و«جبهة النصرة»، و«داعش»، «وطالبان»، فإن مختصين في الحركات الأصولية أكدوا أن نشاط «حراس الدين» ضعيف جداً بالمقارنة بـ«جبهة النصرة» المنشق عن «القاعدة»... وأن انضمام عناصر من «داعش» إليه وارد جداً، خصوصاً مع تشظي التنظيم الداعشي، عقب هزائمه في سوريا والعراق خلال الأشهر الماضية.

أكد مراقبون أن «حراس الدين» يمتلك بنية هيكلية وتنظيمية مُعقدة جداً، تعد من أكثر البنى تعقيداً، وتدير التنظيم شخصيات تحمل من الحنكة والخبرة الكثير، خصوصاً على الصعيد الأمني... فتراكم خبرات قيادات التنظيم الذين كانوا جزءاً من «القاعدة»، و«داعش»، و«جبهة النصرة»، أسهم في ظهور هذه البنية المعقدة.
ويشار إلى أن التقسيمات الداخلية لـ«حراس الدين» تشكل قوة وضعفاً للتنظيم في آن واحد، حيث ساهمت الانقسامات السابقة في التنظيمات الموالية لـ«القاعدة» إلى حد كبير في الحفاظ على سرية العمل لدى «حراس الدين»، ومنحته قدرة تمويه جديدة على تحركات قياداته ومناطق وجودهم؛ لكنها شكّلت في ذات الوقت خوف القيادات بعضها من بعض، نتيجة الطمع في القيادة.
وقال المختصون لـ«الشرق الأوسط» إن «حراس الدين» كشف عن عمق الخلافات داخل «القاعدة». مرجحين أن التنظيم الوليد لن يذهب إلى مكان آخر، ومستقبله غامض.

كيان جديد

أعلن «حراس الدين» عن نفسه في فبراير (شباط) عام 2018، وزعم التنظيم عبر حسابه على موقع التواصل «تليغرام» حينها، أنه «تنظيم إسلامي من رحم الثورة السورية، يسعى للعدل بين المسلمين». ورغم عدم الإشارة إلى ارتباطه بـ«القاعدة»، فإنه مكون قاعدي بشكل كبير، خصوصاً مع إعلان مؤسسة «السحاب» التابعة لـ«القاعدة» عن ظهور كيان في سوريا يدعى «حراس الدين».
المراقبون قالوا إن «التنظيم الجديد جذب لصفوفه عناصر أجنبية من بقايا (جبهة النصرة)، و(تحرير الشام) المحسوبين على (القاعدة)، بالإضافة إلى تشكيلات عسكرية عدة، أبرزها (جند الملاحم، وجيش الساحل، وجيش البادية، وسرايا الساحل، وسرية كابل، وجند الشريعة)».
وفي مطلع مارس (آذار) الجاري، شن عناصر من «أنصار التوحيد» وهي مجموعة يقال إنها موالية لـ«حراس الدين»، هجوماً على نقاط عسكرية شمال حماة بوسط سوريا، أسفر عن مقتل 21 شخصاً.
وقال نبيل نعيم، القيادي السابق في تنظيم «الجهاد» المصري، المختص في شؤون الحركات الأصولية، إن نشاط «حراس الدين» ضعيف جداً بالمقارنة بـ«النصرة»، فجميع التنظيمات الصغيرة، الموالية لـ«القاعدة» عندما تحصل على فرصة للتمويل الخارجي وتستأثر بها تنفصل عن التنظيم الأم... فمثلاً «النصرة» عندما استأثروا بالأموال غادروا «القاعدة».
دراسات وتقارير عربية ودولية أكدت أن «حراس الدين» يجمع بين استراتيجية «القاعدة» التقليدية في قتال العدو البعيد، وقتال العدو القريب لـ«داعش» في آن واحد، ويستخدم تكتيك «حرب العصابات» التي تتناسب مع الأعداد القليلة لعناصره... وقوام التنظيم يضم مقاتلين من «داعش»، وعدداً من العناصر الإرهابية القديمة التي شاركت بالقتال في العراق وأفغانستان... وتتمتع هذه العناصر بمهارات كبيرة في الحرب، وعلى الأرجح في جمع المعلومات الاستخبارية، وقد ساهمت تجارب التنظيم بأفغانستان في تعزيز روابطه مع قيادة «القاعدة» المركزية، فضلاً عن شبكة من الولاءات والعلاقات الشخصية ضمن أقسام أخرى من التنظيم. لكن «داعش»، الذي عانى من هزائم كبيرة في سوريا والعراق خلال الأشهر الماضية، هاجم «حراس الدين» واصفاً عناصره بالكفر –على حد تعبير التنظيم. وحذر من الانضمام إلى التنظيم والتبرؤ منه. ووصفت مجلة «النبأ» الأسبوعية التابعة لـ«داعش»، تنظيم «حراس الدين» بأنها مجموعة انشقت عن جبهة «الجولاني» وهيئة «تحرير الشام»، وأظهروا انتماءهم لحركة «طالبان» بعد ذلك.

دعم «القاعدة»

ورجح أحمد زغلول، المختص في شؤون الحركات الأصولية بمصر، انضمام عناصر من «داعش» لـ«حراس الدين»، خصوصاً مع تشظي «داعش» في سوريا والعراق لينجذبوا إلى «حراس الدين» كمجموعات متطرفة مثل التي كانت موجودة في «القاعدة»، وانفصلت وانضمت إلى «داعش»، لافتاً إلى أن «هذا هو حال جماعات العنف، كل فترة تظهر مجموعة أو تنظيم بأفكار جديدة».
لكن نعيم أشار إلى أن «حراس الدين» ليس له تاريخ، وعناصر «داعش» لن يذهبوا إليه، بسبب أفول نجم «داعش» نتيجة خسائره الأخيرة.
وأكد المراقبون أن «حراس الدين» يعمل على استقطاب معظم المقاتلين الأجانب، وينشط في جلب العناصر المحلية بسوريا والعراق، ويتمتع بدعم وإسناد قيادة «القاعدة» المركزية وفروعها الإقليمية، ويحظى بشرعية جهادية من معظم منظري الجهادية العالمية القاعدية.
وأوضح المراقبون أن «حراس الدين» كشف عن عمق الخلافات داخل «القاعدة» في سوريا، حيث كانت البداية إعلان أبو محمد الجولاني، أمير «جبهة النصرة» في يوليو (تموز) عام 2016، فك ارتباط «جبهة النصرة» بـ«القاعدة»، وتغيير اسمها لـ«جبهة فتح الشام»، وفك الارتباط أدى إلى وقوع انشقاقات داخلية كبيرة لدى الجبهة، وعزوف كثير من عناصرها وقادتها العسكريين والشرعيين عن العمل، وبعضهم انتقل لمناطق سيطرة «داعش»، والبعض الآخر فضّل البقاء في مناطق سيطرة الجبهة مع بعض الفصائل الأخرى.
مصادر أمنية في العراق قالت إن «حراس الدين» ينشط في مناطق في صلاح الدين ونينوى وكركوك، لا سيما طوزخورماتو والشرقاط التي كانت نفسها مسرحاً لظهور ما سمي في وقتها «أهل الرايات البيض» بعد إعلان العراق هزيمة «داعش» عسكرياً.
وأكد زغلول أن «التنظيمات المحلية التي تنشأ في الدول يتحدد مستقبلها بالدول الخارجية التي تدعمها، وطبيعة الأزمة السياسية في هذه الدول، ودائماً ما تلعب هذه التنظيمات على ورقة «أنهم جاءوا لرفع الظلم –على حد زعمهم»، مثل «داعش» من قبل، بعد ذلك تتضخم هذه التنظيمات في ظل وجود صراع إقليمي، مثل «داعش» الذي نشأ توسع على أطلال «القاعدة».

مستقبل غامض

الدراسات والتقارير العربية والدولية أشارت أيضاً إلى أنه يوجد في «حراس الدين» مجلس أعلى يسمى «شورى القاعدة»، وهو صاحب القرار في التنظيم، وهذا المجلس حلقة الوصل بين التنظيم في سوريا وقيادات «القاعدة» بالخارج، ومن أهم الأسماء التي ظهرت في قيادة التنظيم سمير حجازي الملقب بأبي الهمام السوري، وهو القائد العسكري السابق لـ«جبهة النصرة» قبل انشقاقه عنها، ومن الأردن سامي العريدي، وخالد العاروري، وأبو قتادة الألباني المقرب من القيادات الجهادية في سوريا، إضافة إلى أبي مصعب الليبي، وأبي حمزة اليمني، وجميعهم يمثلون القيادة الرئيسة للتنظيم في سوريا... ويردد البعض أن من يقود العمل ضمن التنظيم بشكل رئيسي مع «القاعدة» هو أبو عبد الكريم المصري، صاحب الدور الرئيسي في إطلاق الجولاني لقيادات «القاعدة» المنشقين عن «جبهة النصرة» عقب توقيفهم نهاية عام 2017.
وحول كون «حراس الدين» قدماً أساسية لـ«القاعدة» في سوريا والعراق، قال نعيم، إن «التنظيمات الموالية ليس لها وضع محدد عند تنظيم (القاعدة)، فـ(جبهة النصرة) كانت ضد (داعش) ومع ذلك انشقوا عن (القاعدة)، فمن يستطيع أن يترك (القاعدة) من هذه التنظيمات عندما يأتي له تمويل مستقل يفعل ذلك، فجميع التنظيمات والميليشيات يتم دعمها، وبالتالي تظهر تنظيمات جديدة من وقت لآخر، لو لم تنفذ ما يُطلَب منها من أعمال عنف وقتل وترويع، يتم سحب التمويل منها».
وذكرت الدراسات والتقارير العربية والدولية في هذا الصدد أن التقسيمات الداخلية لـ«حراس الدين» تُشكل قوة وضعفاً للتنظيم في آن واحد، فالانقسامات السابقة ساهمت إلى حد كبير في الحفاظ على سرية العمل لدى التنظيم، ومنحته قدرة تمويه جديدة على تحركات قياداته ومناطق وجودهم؛ لكنها في الوقت نفسه شكّلت خوف القيادات بعضها من بعض، كون هذه القيادات تعلم أن كل مجموعة تسعى لقيادة التنظيم في النهاية، وهذا ما جعلها تنعزل في مناطق مُتباعدة، وهو ما تمكن ملاحظته تماماً في توزيع «حراس الدين»، فشق يوجد في مناطق ريف حلب الجنوبي، وريف إدلب الشرقي، وشق آخر يوجد في ريف جسر الشغور، وقسم ثالث من السوريين في جبل الزاوية، وكل جزء من هذه الأجزاء يسعى لإدارة منطقته بنفسه.
وحول مستقبل «حراس الدين» ومقاصده الجديدة في الدول، أكد نبيل نعيم أن «التنظيم مستقبله غامض وقد يختفي، ولن يذهب إلى مكان آخر؛ بل سيظل يقوم بعمليات خاطفة في سوريا والعراق، لأن مثل هذه التنظيمات مرتبطة بشكل كبير بتنظيم (القاعدة)، وبزعيمه أيمن الظواهري، وباختفائه أو مقتله سوف يقسم (القاعدة) إلى تنظيمات صغيرة متناحرة ومشتتة».


مقالات ذات صلة

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

شؤون إقليمية محتجون أشعلوا النار في الشوارع المحيطة ببلدية تونجلي في شرق تركيا بعد عزل رئيسه وتعيين وصي عليها (إعلام تركي)

تركيا: صدامات بين الشرطة ومحتجين بعد عزل رئيسي بلديتين معارضين

وقعت أعمال عنف ومصادمات بين الشرطة ومحتجين على عزل رئيسَي بلدية منتخبَين من صفوف المعارضة في شرق تركيا، بعد إدانتهما بـ«الإرهاب»، وتعيين وصيين بدلاً منهما.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟