على طاولات تزهو بألوانها تحت أشعة شمس ربيعية، تربّعت طناجر المجدرة وإلى جانبها أنواع عديدة من السَّلطات السورية الموسمية وصحون المخلل «الطرشي» والنّعناع، وسط بساتين الزيتون المعمر. إنّه «عيد المجدرة» حسب تعبير طفل يلعب مع رفاقه بالكرة ريثما يحين وقت الغداء في المزار ببلدة صحنايا في ريف دمشق، التي يسكنها خليط طائفي متنوع من دروز ومسيحيين ومسلمين، إضافة إلى النّازحين من المناطق المجاورة: داريا والقدم والحجر الأسود ومخيم اليرموك وغيرها. قريباً من حلقات الصّغار كانت حلقة فتية وفتيات يعزفون ويرقصون. على اليمين جلس رجال كهول في ظل شجرة زيتون كبيرة، وعلى اليسار كانت مجموعة نساء متقدمات في السن يلعبن الورق «الشدة أو الكوتشينة» نصفهن محجبات، أكبرهن قالت إنها جاءت لمشاركة جيرانها المسيحيين بيوم اثنين الراهب: «الجو ربيعي وجميل وناس ظرفاء»، وهذا كافٍ برأيها لتبديد وحشة وبرد شتاء كان قاسياً جداً. قريباً منهن كان أب يدرّب طفلته الصغيرة على المشي تحت أشعة الشّمس، قال إنّه تعرّف على طقس الاحتفال باثنين الراهب عندما نزح من حمص إلى صحنايا قبل ست سنوات، لافتاً إلى أنّ طبخ المجدرة في أول أيام الصّوم، طقس يمارسه غالبية المسيحيين في سوريا، كما يطبخون الشاكرية (اللحم باللبن) أو (الكبة لبنية) يوم عيد الفصح أي نهاية الصّيام؛ لكنّ اثنين الراهب لا يعد عيداً ولا يأخذ طابعاً احتفالياً عاماً، كما هو في بلدات صحنايا وجديدة عرطوز وقطنا وغيرها، ففي هذه المناطق هناك طقوس جماعية يشارك فيها الأصدقاء من طوائف أخرى، واصفاً هذا اليوم بـ«سيران وطني».
صبايا وشباب وأطفال ونساء تجمّعوا في حلقات متقاربة وسط توافد المزيد مع تقدم ساعات نهار يوم الاثنين الذي يُدعى «اثنين الراهب» اليوم الذي تبدأ فيه الطوائف المسيحية بالصيام الكبير، الذي يأتي متزامناً مع حلول فصل الربيع، ومواسم ولادة الأغنام والماعز، وتكثر فيه منتجات الألبان والأجبان واللحوم الحمراء، إلّا أنّه خلال الصّيام المسيحي ينقطع الناس عن أكلها لمدة خمسين يوماً، والسبب وفق ما شرحه كاهن رعية صحنايا لضيوف المزار، بأنّ جوهر الصيام المسيحي هو العيش بسلام مع الطبيعة لمدة خمسين يوماً فلا يؤكل مذبوح، كما لا تؤكل منتجات الحليب كي لا تُحرم الحيوانات الرّضيعة من حليب أمّها، لتكون فترة سلام تام مع الطبيعة. ومن الناحية الصّحية للإنسان فالغذاء النباتي لفترة معينة ينقّي الجسم من السّموم ويعيد تنشيطه. وعن سبب اختيار «المجدرة» تحديداً، التي تعدّ أكل الفقراء أو البسطاء ليحتفل بها في هذا اليوم، قال: «لأنّ مكوناتها من القمح وهو رمز الخير، والعدس كمصدر للبروتين وزيت الزيتون جميعها من عطاء الأرض». وعن مشاركة الطّوائف الأخرى في الاحتفال قال الكاهن: «إنه يوم سلام للجميع ولا أحد لا يحلم بالسلام».
وعلى الرّغم من أنّ يوم اثنين الراهب طقس شعبي، فهو في بلدة صحنايا يتحول إلى يوم عطلة غير رسمي، فمعظم الموظفين يأخذون إجازة ساعية للذهاب إلى بساتين الزيتون، التي يتوسطها مزار عبارة عن متنزه شعبي بسيط جداً من حيث البناء، لكنّه غني بأشجار معمرة وببساط من المرج الأخضر المطرز بالأزهار البرية.
على رأس المائدة وقف كاهن الرعية وصحبه من رجال الدين في البلدة، أدّوا صلاة بدء الصيام ثمّ شرعوا يسكبون الطّعام للزّوار. أبو طلال وعمره 80 سنة، جاء من دمشق تلبيةً لدعوة ابنته وأحفاده لأكل المجدرة في هذا «اليوم الجميل»، حسب تعبيره. تحدّث عن ذكرياته حين كان طفلاً في حي القصّاع قبل سبعين سنة، كيف كانت عائلته تذهب مع غيرها من العائلات إلى بساتين الغوطة الشّرقية القريبة، وهناك كانوا يطبخون المجدرة على الحطب، وكان يترافق ذلك مع حلقات العزف والغناء، لكن هذه الطقوس تراجعت حتى تلاشت تماماً في دمشق مع تقلص المساحات الخضراء.
«المجدرة السورية» تجمع حولها الطوائف في طقوس احتفالية
«المجدرة السورية» تجمع حولها الطوائف في طقوس احتفالية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة