بيروت المفخخة

لا أحد أشأم على بيروت من حسن نصر الله، لحق شؤمه وجرمه أنصاره وأشياعه بعدما طال بشتى الطرق أعداءه وخصومه. لقد قرر أو قرر له من طهران أن يدخل في حرب طويلة الأمد ضد الشعب السوري، وهو أمر سيندم عليه يوما ما وها قد نحن نشهد البدايات.
شهد الخميس الماضي تفجيرا جديدا في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي المربع الأمني لحزب الله وقع ضحيته خمسة قتلى وثمانون جريحا، وهو تفجير إرهابي مدان من دون شك، ولكنه يأتي ضمن سياق بدأه الحزب نفسه بالتدخل والمشاركة في قتل الشعب السوري.
كان زعيم حزب الله، حسن نصر الله، مخطئا حين عرض في إحدى كلماته المتلفزة على الفرقاء اللبنانيين أن يتقاتلوا في سوريا ويتركوا لبنان، فالحروب الأهلية لا تعترف بالحدود السياسية، وإحن التاريخ لا توقفها الجغرافيا، ومن نشر الطائفية بأبشع صورها لا بد سيصطلي بنارها، وخطأ نصر الله الأكبر أنه ظن، وبعض الظن إثم، أنه قادر على حماية ضاحيته الجنوبية وأشياعه وأنصاره اللائذين والعائذين به على الرغم من اشتراكه المعلن في حرب أهلية طائفية لها حمم وشواظ من نار لم تزل بعضها تتساقط على لبنان وتطال الضاحية ومربع حزب الله الأمني الذي لم يعد آمنا.
الخطأ الاستراتيجي لحزب الله يكمن في تمدده الواسع في منطقة هي أكبر بكثير من إمكاناته، فقد كان الحزب في لبنان دولة داخل الدولة، وكان أقوى اللاعبين بسلاحه وميليشياته المدربة إيرانيا ولكن تمدده في سوريا أضعف تماسكه وهز تحصيناته فأصبح سهل الاختراق، لأن أي قوة تتمدد أكثر من طاقتها تنكسر وتمنى بالهزائم.
الأزمة السورية كشفت كثيرا من الأوراق في الأجندة الإيرانية في المنطقة، فإيران تخوض المعركة في سوريا دفاعا عن طموحاتها في النفوذ والهيمنة وهي الآن تحرك كل بيادقها لخدمة تلك المعركة.. الكتائب العراقية الشيعية المسلحة وحكومة نوري المالكي من العراق وحزب الله من لبنان وبعض الحوثيين من اليمن وبعض المقاتلين المتطوعين من دول الخليج العربي، وفوق هؤلاء تنظيم القاعدة الحليف القديم لطهران والذي ظلت كل تحركاته منذ سنوات طويلة لا تصب إلا في خدمة الأجندة الإيرانية.
تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية المعروف بـ«داعش» لم تكن له مهمة منذ ظهوره على الساحة السورية سوى خدمة الأجندة الإيرانية ومساندة نظام بشار الأسد عبر شن حرب شرسة ضد كتائب وقوات الجيش السوري الحر وقتل الشعب السوري تحت أنواع من التبريرات السخيفة والمتطرفة وهو تنظيم يعمل في خدمة إيران على جبهتين: جبهة سوريا وجبهة العراق، وما تدخله الدموي في الأنبار المحتجة على حكومة المالكي إلا خطوة في ذات الاتجاه.
صراع القوى في المنطقة بين العرب وإيران تمثله عربيا المملكة العربية السعودية ومعها دول الخليج العربي وبعض ما تبقى من الدول العربية، وتمثله في الجهة المقابلة إيران. والمراقب لتاريخ الصراع يلحظ بوضوح أن السعودية كانت دائما وعلى طول الخط معادية للإرهاب وجماعاته وعناصره وهي خاضت معه معارك طويلة وأخضعته وهزمته، وهي تسعى دائما للتعامل مع الدول والمؤسسات الرسمية التي تمثل الشعوب، بينما إيران تسعى دائما لخلق أو دعم الجماعات المنظمة المسلحة في بلد تمكنت من اختراقه في العراق كما في لبنان وفي اليمن كما في سوريا وقد فشلت مساعيها لاختراق البحرين وإن لم تيأس منه بعد.
إذا كانت مشكلة لبنان تكمن في شق مهم منها في ضعف الدولة اللبنانية والجيش اللبناني أمام تغول قوة حزب الله المصنوع إيرانيا، فقد أعلنت السعودية عن دعم سخي ومستحق للجيش اللبناني بثلاثة مليارات دولار لشراء أسلحة ومعدات مع التدريب والتحديث من فرنسا، وفي ذلك دعم للدولة اللبنانية وجيشها وهو أمر سيساعد على استقرار لبنان ويؤثر بقوة على توازنات القوى فيه.
إدارة الرئيس الأميركي أوباما أخطأت في تعاملها مع مشكلات المنطقة حين سعت للانكماش والانعزال، وحين قصرت مشكلتها مع الأزمة السورية في السلاح الكيماوي ومع إيران في السلاح النووي، وتجاهلها لمشكلات الدول العربية التي تقودها السعودية مع نظام الأسد وطهران لن يلغي المشكلة بل سيفتح الباب رحبا لهذه الدول لبناء تحالفات جديدة مع القوى الأخرى في العالم والتي تضمن من خلالها حماية مصالحها، وإن كان كل شيء من ذلك سيكون له تأثير على المصالح الأميركية بشكل أو بآخر.
تجاهلت إدارة أوباما كل التحذيرات في بداية الأزمة السورية من أن التخاذل عن دعم القضية العادلة للشعب السوري ومعاقبة نظام الأسد سيكون سببا مباشرا لتفشي تنظيمات العنف الديني كتنظيمات القاعدة، وها هي اليوم تشهد هذا التناسل الخطير لهذه التنظيمات ويوما ما سيجري التخطيط والتدريب لتنفيذ عمليات ضد مصالح أميركا في العالم من قلب الحرب الأهلية الطاحنة في سوريا.
تعود حزب الله منذ سنوات على أن يفلت دائما من العقاب في كل الجرائم التي خطط لها وسلسلة الاغتيالات التي قام بتنفيذها، فهو حزب يشارك في العملية السياسية في لبنان ويقتل خصومه لتأديبهم وإجبارهم على الخضوع لتوجهاته، وخصومه المسالمون لا يحسنون لغة القتل التي يتقنها ولكن تدخله العسكري ومشاركته في قتل الشعب السوري تحت شعارات طائفية فاقع لونها قد جلب له نوعا مختلفا من الخصوم، خصوم يتقنون الإرهاب والقتل مثله، إرهابيون يقتل بعضهم بعضا ويفجر بعضهم بعضا في معركة لن تنتهي قريبا.
أنصار الحزب وأشياعه ليسوا على صفة واحدة، فمنهم الجنود المدربون والمؤدلجون المتطرفون وهؤلاء هم مادة الحزب الأصلية التي يتكئ عليها، ومنهم المحبون رغبا ورهبا من المدنيين، وهؤلاء ستأخذ ثقتهم بالحزب في التضعضع والاهتزاز، ومع كل تفجير يحدث سيتساءلون عن أحقية الثمن الذي يدفعونه جراء قرارات ومغامرات ينخرط فيها الحزب ويجر عليهم الويلات والمآسي من دون أن يكون لهم فيها ناقة ولا جمل.
عبر عدد من المثقفين والإعلاميين العرب الذين كانوا يمجدون الحزب تحت شعارات المقاومة والممانعة عن حجم الخديعة التي كانوا فيها بدعمهم للحزب بعد افتضاح طائفيته ودمويته، ومن لم يستفق منهم في غزو الحزب لبيروت 2008 فقد استفاق بعد تدخل الحزب في سوريا.
أخيرا، مع الترحيب باستفاقة الغافلين يجب تذكر مثقفين وإعلاميين كانت رؤيتهم للحزب صلبة وصادقة من قبل ومن بعد.
a.alotibi@asharqalawsat.com