«الشرق الأوسط» أيام على الأوسكار (1)‬: «روما» يعقّد ما كان بسيطاً

منافسة الساعات الأخيرة تكشف عن مفاجآت كبيرة

صورة تجمع المرشحين لجوائز الأوسكار على هامش حفل الغداء السنوي لهم (غيتي)
صورة تجمع المرشحين لجوائز الأوسكار على هامش حفل الغداء السنوي لهم (غيتي)
TT

«الشرق الأوسط» أيام على الأوسكار (1)‬: «روما» يعقّد ما كان بسيطاً

صورة تجمع المرشحين لجوائز الأوسكار على هامش حفل الغداء السنوي لهم (غيتي)
صورة تجمع المرشحين لجوائز الأوسكار على هامش حفل الغداء السنوي لهم (غيتي)

‫تراجعت أكاديمية العلوم والفنون السينمائية مانحة الأوسكار عن قرارها تغييب أربع مسابقات عن البث التلفزيوني واقتصار توزيعها على الحاضرين في القاعة. هذا العدول عن قرارها ليس إلّا نتيجة الانتقاد الإعلامي وتلويح نقابات وجمعيات الحرف السينمائية المهدّدة بعدم الظهور على شاشات التلفزيون نتيجة هذا القرار (وفي مقدّمتها «جمعية المصوّرين السينمائيين الأميركية») بالامتناع عن حضور الاحتفال.‬
لنعتبر أن هذه المحاولة البائسة من قِبل الأكاديمية لاختصار وقت البث التلفزيوني إذعاناً لطلب محطةABC) ) كما لو لم تكن لأنّ الأسئلة الأساسية ما زالت، وقبل خمسة أيام من إقامة الحفل الحادي والتسعين لجوائز الأوسكار، تتمحور حول من سيفوز ومن سيحرم من الفوز، علماً بأنه في عرف العديدين فإن مجرد الترشيح هو فوز وليس خسارة. ‬‬
- الأفلام… الرابح الأكبر ‬
كما ذكرنا في مقالات سابقة، فإنّ الذي يكاد يقضي على البهجة والحماس حقيقة أنّ كل الأفلام التي أُعلن عنها في ترشيحات الأوسكار وردت في ترشيحات الجوائز السنوية الأخرى المهمة مثل «بافتا» و«غولدن غلوبز». وبعضها فاز بالفعل، مثل «روما» الذي أنجز «غولدن غلوبز» أفضل فيلم أجنبي و«المفضلة» الذي فاز ببافتا أفضل فيلم.
البعض الآخر لم يفز بشيء أساسي حتى الآن، مثل «بلاك بانثر» و«مولد نجمة» و«نائب» لكنّها جميعاً، أي هذه الأفلام بالإضافة إلى «بلاكككلانسمان» و«بوهيميان رابسود» و«كتاب أخضر»، تردّدت قبل الأوسكار ما يجعل البعض يشعر بالفتور حيال احتمال فوز فيلم على آخر في هذا الحفل الأخير من بين احتفالات السينما الكبيرة.
الحقيقة هي أنّه، رغم أنّ الأوسكار يجيء بقائمة أفلام جربت حظوظها في أماكن أخرى، كمن يشتري سيارة تناوب على امتلاكها وقيادتها آخرون، إلّا أنّ المفاجآت المنحصرة في الأفلام والسينمائيين المرشحين متوفرة. على سبيل المثال، سيكون من المثير فعلاً لو مُيّز «بلاكككلانسمان» عن نظيره «مولد نجمة» أو لو فاز «كتاب أخضر» من حيث لم يتوقّع أحد خصوصاً أنه لم يفز حتى الآن إلّا بجائزة «غولدن غلوبز» كأفضل فيلم كوميدي. معظم جوائزه الأخرى حصل عليها فيغو مورتنسن (كممثل أول) وماهرشالا علي (كممثل مساند).
الأمر المحير في نطاق أوسكار أفضل فيلم ليس إذا ما فاز فيلم «كتاب أخضر» أو «بلاكككلانسمان» أو «ولادة نجمة»، بل إذا استمر «روما» في طرد الأفلام المنافسة وتنصيب نفسه الفائز الأكبر هذا العام. فهو خرج بجائزتي بافتا (الأكاديمية البريطانية للسينما والتلفزيون) وبجائزة «غولدن غلوبز» وبجائزة خاصة من «أميركان فيلم إنستتيوت» وبجائزة أفضل إخراج من «نقابة المخرجين الأميركية» وبجائزة لندن فيلم سيركل البريطانية علاوة عن نحو 60 جائزة نقدية أو من مؤسسات وجمعيات سينمائية أصغر شأناً.
البعض تساءل عن كيف يمكن لفيلم ناطق بالمكسيكية دخول الترشيحات الرسمية بمساواة أي فيلم ناطق بالإنجليزية. والجواب هو أنّ إنتاج الفيلم يخضع لشركة أميركية هي «نتفلكس»، وهذا يجيز دخوله هذه المسابقة.
وهو موجود، كما نعلم في تسع مسابقات أوسكار أخرى بينها مسابقة أفضل فيلم أجنبي.
في ذلك عدة احتمالات هي بترتيب قوّتها:
1 - فوزه بأوسكار أفضل فيلم وفوزه بأوسكار أفضل فيلم أجنبي أيضاً.
2 - فوزه بأوسكار أفضل فيلم وخسارته أوسكار أفضل فيلم أجنبي
3 - فوزه بأوسكار أفضل فيلم أجنبي وخسارته أفضل فيلم
4 - خسارته الأوسكارين معاً.
هذا الاحتمال الرّابع هو الأضعف بمسافات طويلة. بينما يتقارب الاحتمال الأول والثاني والثالث فيما بينها إلى حد كبير.
هنا قد يرغب أعضاء الأكاديمية بمنح الفرصة لأحد الأفلام الأخرى المنافسة على الأوسكار الرئيسي على أساس منح «روما» أوسكار أفضل فيلم أجنبي (وهذا هو توقعي الأول)، وربّما منحه أوسكارات أخرى في الإخراج والتصوير (وكلاهما لألفونسو كوارون) أو في عداد التمثيل (ولو أن ذلك مستبعد).
إذا ما أفرج التصويت عن نيّـة الاكتفاء بنيل «روما» أوسكار أفضل فيلم أجنبي فقط، فإنّ الأفلام الأجنبية الأخرى، بما فيها الفيلم اللبناني «كفرناحوم» طبعاً ستخرج من المولد بالذكر فقط. أمّا إذا فعلت العكس ومنحت الأوسكار لـ«روما» في المسابقة الرئيسية وحجبته عن مسابقة الأفلام الأجنبية فإنّ حظ «كفرناحوم» سيرتفع لكنّه لن يتجاوز - في تقدير هذا الناقد - حظوظ الأفلام الأخرى المتسابقة في هذا الركن.
‫- ترتيبان مختلفان‬
إذا لم يفز روما بالأوسكار الرئيسي فإنّ الاحتمالات ستغلي كحمم بركانية: لدينا «بلاكككلانسمان» لسبايك لي الذي لم يسبق له أن خاض سباق الأوسكار الرئيسي هذا ولو أنه ترشح مرتين من قبل فقط. سنة 1990 رشح في مسابقة أفضل سيناريو مكتوب خصيصاً للسينما عن فيلم «افعل الشيء الصحيح» وبعد ثماني سنوات رشح لأوسكار أفضل تسجيلي عن «4 فتيات صغيرات».
في عام 2016 نال جائزة أوسكار شرفية فقط، ما يعني أنّه في هذا العام يتطلع حثيثاً لكسر هذه القاعدة من الإهمال. وهذا ممكن جداً ليس بالنظر إلى أن BlacKkKlansman فيلم جيد (على بعض المآخذ) فقط، بل لأنّ هناك فيلمين آخرين يلعبان على الخط نفسه.
«بلاك بانثر» لرايان كوغلر، هو علاوة عن أنه فيلم جيد فنياً (وأنجح الأفلام المتسابقة تجارياً)، يتحدث عن الموضوع الأفرو - أميركي بوضوح. هو فيلم «كوميكس» و«سوبر هيرو» برسالة سياسية تتعلق بالهوية الأفريقية. وهذه الرسالة لها ملحق واضح نرى فيه حضوراً نسائياً إيجابياً وفاعلاً أكثر من حضور أي ممثلات أخريات في أفلام أكشن آخر… وكل هذا في عام اشتدت فيه ظاهرة المطالبة بالمساواة بين الجنسين.
الفيلم الآخر اللاعب على العصب نفسه هو «كتاب أخضر» الذي يلتف حول موضوع العنصرية بالطريقة التي التف بها فيلم «قيادة الآنسة دايزي» الذي نال الأوسكار قبل 30 سنة كاملة. نقاط التلاقي ملحوظة: كلاهما يتحدث عن «شوفير» خصوصي وراكب من لون بشرة أخرى. في فيلم بروس بيرسفور كان الأفرو - أميركي مورغن فريمان هو السائق وجسيكا تاندي هي الأرستقراطية البيضاء. هنا السائق أبيض (فيغو مورتنسن) والراكب الخاص هو أسود (ماهرشالا علي).
في الفيلم السابق يتبادل الاثنان المعرفة وفي هذا الفيلم أيضاً. وفي الخلفية سنة 1998 هي السنة التي لم يرشح بها سبايك لي عن فيلم «افعل الشيء الصحيح» بل تم تجاوزه في إطار أفضل فيلم ومنحه أوسكار أفضل سيناريو كما مر معنا.
«كتاب أخضر» مثل «قيادة مس دايزي» يدور حول الوضع العنصري في زمن سابق إنما بتبسيط المفاهيم وتعميمها. هذا التبسيط نجح في تلك الآونة (لكن الفيلم لم يكن الأفضل بين منافسيه وهم «مولود في الرابع من يوليو» و«جمعية الشعراء الموتى» و«قدمي اليسرى» و«حقل الأحلام»).
الأفلام الأخرى لا تتحدث اللغة ذاتها. «المفضلة» فيلم ساخر من البلاط الملكي البريطاني في قرن مضى. «مولد نجمة» غنائي - درامي - عاطفي حول صعود وهبوط أهل الفن. «نائب» هو فيلم سياسي ضد شخصية ارتاحت من عناء السياسة ولو أن السياسة الأميركية الحالية هي امتداد لها.
تبعاً لكل ما سبق، فإنّ احتمالات الفوز الأعلى وما دون تتبلور على النحو التالي:
> في المرتبة الأولى: «بلاكككلانسمان» و«روما» على رأس الحربة، وإذا كان لا بد من التدقيق فإن فيلم سبايك لي يأتي أمام فيلم ألفونسو كوارون بفارق نصف ملم.
> «المفضلة» ليس «فنجان شاي» العديد من المصوّتين، لكنّه احتمال ثالث جنباً إلى جنب «بلاك بانثر» و«كتاب أخضر».
> «مولد نجمة» خسر معظم مواجهاته السابقة والغالب أنّه سيخسرها هنا أيضاً.
> «نائب» يأتي في احتمال ضعيف.
> «بوهيميان رابسودي» لا يأتي مطلقاً إن لم يكن بسبب رداءة الفيلم الفنية (هو ناجح كضجيج تقني) فبسبب المُـثار حول التهم الموجهة إلى مخرجه برايان سينجر من حيث تعرضه الجنسي لفتيان دون السادسة عشرة.
بترتيب الأولويات على أساس أفضل فيلم من دون أي عناصر أخرى:
1 «روما»
2 «بلاك بانثر»
3 «بلاكككلانسمان»
4 «نائب»
5 «المفضلة»
6 «مولد نجمة»
7 «كتاب أخضر»
8 «بوهيميان رابسودي».
‫المخرج الغالب‬
تأثير ما سبق على مسابقة الإخراج لا يقل تشابكاً وتعقيداً ولو أن أقل سعة كون المرشحين هم خمسة فقط، أي أنّ المقترعين أجروا تصفياتهم عندما ألّـفوا هذه القائمة.
وتتألف القائمة من أربعة مخرجين لديهم أفلام في مسابقة أوسكار أفضل فيلم وهم سبايك لي عن «بلاكككلانسمان» ويورغوس لانتيموس عن «المفضلة» وأدام مكاي عن «نائب» وألفونسو كوارون عن «روما».
بذلك يكون مخرجو الأفلام الأخرى في مسابقة أفضل أوسكار وهم بيتر فاريللي «كتاب أخضر» ورايان كوغلر «بلاك بانثر» وبرادلي كوبر «مولد نجمة» وبرايان سينجر خرجوا من سباق الإخراج مسبقاً. وكلهم - باستثناء رايان كوغلر - يستحقون التغييب إذا ما أخذنا عمق عملية الإخراج فنياً ومتطلباتها. الغالب هو أن اعتبار جهد كوغلر في «بلاك بانثر» كان تنفيذاً صناعياً، لكنّه في الحقيقة لم يكن كذلك فقط.
الاسم الخامس في قائمة مرشحي أفضل إخراج هو البولندي باڤل (أو باڤيو كما تُنطلق بالبولندية) باڤيوكوڤسكي مخرج «حرب باردة» وهو الفيلم الذي له حضور في مسابقة أفضل فيلم أجنبي.
الاحتمالات هنا معقدة بسبب ألفونسو كوارون وحظوظه في السباقات الأخرى. هو ذا مستوى أجمل عملاً وتأثيراً بين الآخرين، لكنّ الاحتمال عال في أن يُتوّج اليوناني يورغوس لانتيموس، خصوصاً إذا ما خسر المواجهة الأولى (مسابقة أفضل فيلم).
بالتالي الاحتمالات الأعلى بالترتيب هي:
> ألفونسو كوارون عن «روما»
> سبايك لي عن «بلاكككلانسمان».
> يورغوس لانتيموس عن «المفضلة»
> آدم مكاي وباڤل باڤيولوڤسكي (عن «نائب» و«حرب باردة» على التوالي).
يبقى بين المسابقات الأخرى، التي ستناولها تباعاً، ما يثير التساؤل عن مصائر ترشيحات تتداخل فيما بينها كما تؤثر وتتأثر باتجاهات الاحتمالات التي وردت أعلاه.


مقالات ذات صلة

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

شؤون إقليمية الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

الوثائقي «ملفات بيبي» في مهرجان تورونتو يثير غضب نتنياهو

يتناول الفيلم تأثير فساد نتنياهو على قراراته السياسية والاستراتيجية، بما في ذلك من تخريب عملية السلام، والمساس بحقوق الإنسان للشعب الفلسطيني.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
يوميات الشرق المخرج الإيراني أصغر فرهادي الحائز جائزتَي أوسكار عامَي 2012 و2017 (إدارة مهرجان عمّان السينمائي الدولي)

أصغر فرهادي... عن أسرار المهنة ومجد الأوسكار من تحت سماء عمّان

المخرج الإيراني الحائز جائزتَي أوسكار، أصغر فرهادي، يحلّ ضيفاً على مهرجان عمّان السينمائي، ويبوح بتفاصيل كثيرة عن رحلته السينمائية الحافلة.

كريستين حبيب (عمّان)
يوميات الشرق تمثال «الأوسكار» يظهر خارج مسرح في لوس أنجليس (أرشيفية - أ.ب)

«الأوسكار» تهدف لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار

أطلقت أكاديمية فنون السينما وعلومها الجمعة حملة واسعة لجمع تبرعات بقيمة 500 مليون دولار.

«الشرق الأوسط» (لوس انجليس)
يوميات الشرق الممثل الشهير ويل سميث وزوجته جادا (رويترز)

«صفعة الأوسكار» تلاحقهما... مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية تُغلق أبوابها

من المقرر إغلاق مؤسسة «ويل وجادا سميث» الخيرية بعدما شهدت انخفاضاً في التبرعات فيما يظهر أنه أحدث تداعيات «صفعة الأوسكار» الشهيرة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق أبطال المنصات (مارتن سكورسيزي وبرادلي كوبر) يغادران «أوسكار» 2024 بوفاضٍ خالٍ

هل تخلّت «الأوسكار» عن أفلام «نتفليكس» وأخواتها؟

مع أنها حظيت بـ32 ترشيحاً إلى «أوسكار» 2024 فإن أفلام منصات البث العالمية مثل «نتفليكس» و«أبل» عادت أدراجها من دون جوائز... فما هي الأسباب؟

كريستين حبيب (بيروت)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».