هوليوود تتجاوز مخاوفها وتحقق 41 مليار دولار في 2018

رغم تمدد مؤسسات البث المنزلي مثل «نتفلكس» و«أمازون»

«أكوامان» يتعهد بمواصلة  نجاح أترابه في العام الجديد
«أكوامان» يتعهد بمواصلة نجاح أترابه في العام الجديد
TT

هوليوود تتجاوز مخاوفها وتحقق 41 مليار دولار في 2018

«أكوامان» يتعهد بمواصلة  نجاح أترابه في العام الجديد
«أكوامان» يتعهد بمواصلة نجاح أترابه في العام الجديد

قد تحبها وقد تكرهها وقد تكره أن تحبها… لكنها الأكثر انتشاراً والأعلى إيراداً حول العالم. إنها السينما الأميركية.
قد تقول عنها إنها عدوّة الإبداع ومثال التنميط ونموذج للسينما الفارغة من الثقافة، بل ربما ما زلت تعتقد أنها السينما التي تمثل الإمبريالية الأميركية بأبشع صورها (على غرار تعريف ساد بعض الكيانات الثقافية والسياسية في السبعينات)، لكنها السينما التي يرغب فيها العدد الأكبر من سكان هذا الكوكب. صناعة الفيلم الأميركية هي السبب وراء استمرار عمل صالات السينما بنشاط واسع، وهي السبب في حجم الإقبال الذي تشهده في كل عاصمة ومدينة كبيرة. هذه السينما سجلت في العام المنصرم إيرادات خيالية. اشطب «خيالية». ضعْ «خرافية»!
نحو 41 ملياراً و700 مليون دولار حول العالم من بينها 11 ملياراً و900 مليون في الولايات المتحدة ذاتها. مع هذه الأرقام فإن معدل الإقبال على صالات السينما ارتفع 7% عما كان عليه في العام الأسبق، 2017.

السر في المصباح السحري

هذا في حد ذاته مقياس لمختلف أنواع الاستنتاجات. مثلاً، بات من المؤكد، ومنذ سنوات، أن التوجه السائد لم يعد للسينما التي تعرضها المهرجانات الدولية وتُعرف بأسماء مختلفة من بينها «السينما الفنية» و«السينما البديلة» و«السينما المستقلة». الواقع أن هذه السينما لم تكن يوماً طاغية، لكن الواقع أيضاً أن حجمها من الحضور الثقافي والنوعي كان أعلى مما هو عليه اليوم على الرغم من كثرة الأفلام التي تعرضها المهرجانات الدولية كافة.
الاختلاف الرئيسي الدائم بين السينما الأميركية (والجماهيرية عموماً في مصر والهند والصين وإيطاليا وفرنسا على سبيل المثال) وبين السينما النوعية، هو من يتولى قيادة الفيلم.
في الأفلام الجماهيرية تتولى الحكاية وأحداثها وما تنضوي عليه من مشاهد تلتزم بالنوع الذي ينتمي الفيلم الواحد إليه (Genre) قيادة العمل السينمائي بأسره. هذا هو السر الصغير الكبير القابع داخل مصباحها السحري.
في الأفلام الفنية يتخلى السرد عن قيادته -في الكثير من الأحيان لا في جميعها- ليخلفه الحديث في الشأن الذاتي عن طريق البحث في مشكلات شخصية أو الشأن الاجتماعي العام. ونجاح الشأن الأول الدائم طوال العصور ليس نتيجة ظروف أو محض صدف، بل لأن الجماهير حول العالم تفضل «الحكاية» على «الشخصية»، و«الحبكة» على «التأمل والبحث». الفيلم الجماهيري يتبع بناءً سردياً بمواصفات وعناصر الحكاية الشعبية، وهي بطبيعة حالها وعبر كل وسائل وألوان الفنون الأكثر انتشاراً حول العالم.
أكثر من ذلك، على المرء أن يسلّم بأن هوليوود هي أفضل مَن سرَدَ حكاية، خصوصاً على أيدي كبار مخرجيها: كريستوفر نولان، وريدلي سكوت، ومارتن سكورسيزي، وستيفن سبيلبرغ، خلفاً لرهط كبير من مخرجي الأمس الذين أسسوا فن السرد الهوليوودي بنجاح (لا حصر لهم، لكن على سبيل المثال وحده: روبرت سيودماك، وجون هيوستون، وجوزف ه. لويس، وألفرد هيتشكوك، وجون واين، وهوارد هوكس، وهنري هاذاواي، إلخ…).
لكنّ هذا لا يعني غض النظر عن أفلام أميركية وأخرى من كل أنحاء العالم، سعت -وبنجاح فني وجماهيري- للجمع بين الحكاية وعناصرها وبين انتماء الفيلم إلى الذات والمؤلف والشخصية المحورية التي تحرك أحداثه، وشروط ذلك.
فرنسيس فورد كوبولا أفضل مَن سار في هذين الدربين بنجاح، و«العراب» بأجزائه الثلاثة خير دليل على ذلك. إلى هذا، فإن السينما القائمة على تلبية رغبات الجمهور ليست بالضرورة، أو بتحصيل حاصل، رديئة. بالنظر إلى ما وفّرته هوليوود في الماضي البعيد والقريب فإن بعض أفضل أفلام السينما العالمية كَمُن في إنتاجات كبيرة مبهرة، كما كان الحال في «سفر الرؤيا الآن» لكوبولا وثلاثية «سيد الخواتم» لبيتر جاكسون أو «سبارتاكوس» لستانلي كوبريك.
إلى جانب كل هذا لا ننسى أن السينما الأميركية، وفي فترة حاسمة من تاريخها القريب، عرفت ميزة الجمع بين الترفيه والمضمون السياسي أكثر (وأفضل) مما عرفه الكثير من السينمات. نتحدث هنا عن أفلام ألان ج. باكولا («كلوت»، و«بارالاكس فيو»)، وسيدني بولاك («ثلاثة أيام للكوندور»، و«جيروميا جونسون»، إلخ…)، وهال أشبي («العودة للوطن»، و«آيل للمجد Bound for Glory»، و«التفصيلة الأخيرة») والعديد سواهم.

الحقيقة حول «نتفلكس»

في الماضي كان هذا الجمع بين الترفيه والمضمون الجاد أكثر فاعلية مما هو عليه الآن خصوصاً مع سيادة أفلام البطولات الخارقة التي تشكل، شئنا أم أبينا، السبب الأول في ارتفاع معدلات الإقبال على صالات السينما وما تعرضه من أفلام.
نظرة إلى ما يسود توقعات المتابعين وقوائم النقاد من أفلام العام المتنافسة للانضمام إلى ترشيحات الأوسكار الرسمية هذا العام، تكشف عن أن بعض هذه الأفلام لم يكن ليدخل في اعتبار الناخبين في السنوات السابقة. هذ مثلاً «أنشودة بستر سكراغز» للأخوين كووَن، أو «كتاب أخضر» لأدام ماكاي، أو «ماري بوبنز تعود» لروب مارشال، أو «المرشح الأول» لجاسون رايتمان، وقارِنْها بما تم ترشيحه في عقود خلت، تجدْ أنه كان من المستبعد حينها دخول هذه الأفلام التي لا تخلو من هفوات فادحة قوائم فعلية.
في المقابل، فإن الأفلام الترفيهية مرتاحة من هَمِّ الترشيحات واعتبارات الفوز بالجوائز أو لا، لأن رهانها أكثر ثباتاً، فهي تراهن على جمهور واسع تم تدجينه ضمن ظروف العولمة من ناحية وتم إغداق هدايا الخيال الجانح المتمثل في أبطال لا ينتمون إلى الواقع ولا حتى إلى ذلك النوع من الخيال الذي كان يمكن، لروّاد سينما الأمس، تصديقه بشروط.
ولا ريب أن الشراكة القائمة بين مؤسستي «ديزني» و«مارڤل» كانت خبطة العمر، لا بالنسبة إليهما فقط بل أيضاً بالنسبة إلى هواة السينما الفانتازية القائمة على سير البطولات الخارقة. «مارڤل» و«ديزني» يموّلان وينتجان و«ديزني» توزّع وتسيطر على سوق أفلام الكوميكس بأكمله. وهذا العام ليس شاذاً عن الأعوام السابقة في هذا الشأن وهذا تؤكده الأرقام المتداولة بين المعنيين.
فـ«ديزني» استحوذت على 27% من حصص السوق في شمالي أميركا، وهي النسبة الأعلى في تاريخها. هذا يعني أن كل الشركات الكبيرة الأخرى (يونيفرسال، وورنر، صوني، فوكس، م ج م وباراماونت) اكتفت بنحو ثلثي الإيرادات أو أكثر من الثلثين بقليل.
هذا النجاح الأميركي الأسطوري (يتجاوز نجاح السياسة الخارجية للولايات المتحدة إلا إذا اعتبرناها جزءاً منه) ليس خالياً من ثقوب سوداء يجدها المراقبون في بورصة «وول ستريت». على سبيل المثال، لم يرتفع كثيراً سعر الأسهم المتداولة لعديد من الشركات سواء المنتجة أو الموزعة أو شركات صالات السينما الرئيسية.
المتخصصون في اقتصاديات الصناعة يرون أن نجاح العام الماضي في تبوُّؤ أعلى الإيرادات على النحو المذكور آنفاً جيد، بل ممتاز لكنه سيبقى في خطر التراجع في أي سنة مقبلة (بما فيها السنة الجديدة) ما دام سعر الأسهم لم يتغير إيجابياً لأن هذه مرتبطة مباشرةً بتقييم المستثمرين الكبار لقيمة السوق الفعلية وما إذا تجاوز خط الرجعة في صعوده هذا أو ليس بعد.
هناك أيضاً مخاوف من أن العلاقات الأميركية - الصينية قد تدفع بالأخيرة إلى تحديد ما تستورده من أفلام بعدما باتت السوق الثانية حجماً بعد السوق الأميركية للأفلام الأميركية.
لكنّ أكبر هذه الثقوب هو المتمثل في مستقبل السينما كما نعرفها اليوم وكما تهددها مؤسسات البث المنزلي المكوّنة حالياً من بضع شركات تتقدمها «نتفلكس» و«أمازون».
النجاح الكبير الذي حققتاه في هذا المجال يبرر أن «نتفلكس» تضخ رقماً خرافياً آخر في الإنتاج السينمائي والتلفزيوني لعامي 2018 و2019 يبلغ 13 مليار دولار. «أمازون» ستصرف 6 مليارات دولار على إنتاجاتها.
لكن وعلى عكس التخوّفات التي يثيرها البعض، فإن النجاح الضخم الذي حققته العروض السينمائية في السنة المنصرمة (وتلك التي واكبتها في الأعوام الخمس الأخيرة) فإن إنتاجاتها لم تصرف الجمهور الكبير عن حضور الأفلام في قاعات السينما الكبيرة كما كان دأبها منذ العقد الأول للقرن العشرين.
يؤكد ذلك إحصاء أخير قامت به «الجمعية الوطنية لأصحاب صالات السينما» تبيَّن فيه أن نسبة كبيرة من رواد صالات السينما في عام 2018 (تقدَّر بنحو 26%) لم يمنعها اشتراكها في «نتفلكس» و«أمازون» من التردد على العروض السينمائية في الصالات طوال العام.
أحد أهم الأسباب في ذلك أن هاتين الشركتين، «نتفلكس» و«أمازون»، لا تنتجان ما توفره شركات هوليوود التقليدية من أفلام جماهيرية كاسحة (نموذج «بلاك بانثر» و«ذا أفنجرز» أو «أكوامان»).
أكثر من ذلك أن هوليوود انتبهت في العام المنصرم إلى أنها لن تستطيع الاتكال على موسم الصيف وحده لكي تتخطى بإيراداتها ما سبق لها تحقيقه. نعم موسم الصيف ما زال الأهم بالنسبة إلى الأفلام ذات الكيان التجاري المحض، لكن هوليوود قامت في 2018 بتوزيع أفلام ضخمة أخرى من الصنف ذاته على أشهر السنة كافة، ما جعل الرواد يُقبلون على صالات السينما على نحو غير متقطع.
مطلع 2019 يتواصل مع السنة المنصرمة. هذا واضح من النجاح الكبير لفيلم «أكوامان»، إذ يسارع الخطى حالياً لبلوغ 900 مليون دولار من الإيرادات العالمية بعد أقل من أسبوعين على بدء عروضه.


مقالات ذات صلة

وفاة الممثل البريطاني راي ستيفنسون نجم «ثور» و«ستار وورز»

يوميات الشرق الممثل البريطاني راي ستيفنسون (أ.ب)

وفاة الممثل البريطاني راي ستيفنسون نجم «ثور» و«ستار وورز»

توفي الممثل البريطاني راي ستيفنسون الذي شارك في أفلام كبرى  مثل «ثور» و«ستار وورز» عن عمر يناهز 58 عامًا.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق «إسماعيلية رايح جاي» يشعل «الغيرة الفنية» بين محمد فؤاد وهنيدي

«إسماعيلية رايح جاي» يشعل «الغيرة الفنية» بين محمد فؤاد وهنيدي

أثارت تصريحات الفنان المصري محمد فؤاد في برنامج «العرافة» الذي تقدمه الإعلامية بسمة وهبة، اهتمام الجمهور المصري، خلال الساعات الماضية، وتصدرت التصريحات محرك البحث «غوغل» بسبب رده على زميله الفنان محمد هنيدي الذي قدم رفقته منذ أكثر من 25 عاماً فيلم «إسماعيلية رايح جاي». كشف فؤاد خلال الحلقة أنه كان يكتب إفيهات محمد هنيدي لكي يضحك المشاهدين، قائلاً: «أنا كنت بكتب الإفيهات الخاصة بمحمد هنيدي بإيدي عشان يضحّك الناس، أنا مش بغير من حد، ولا يوجد ما أغير منه، واللي يغير من صحابه عنده نقص، والموضوع كرهني في (إسماعيلية رايح جاي) لأنه خلق حالة من الكراهية». واستكمل فؤاد هجومه قائلاً: «كنت أوقظه من النوم

محمود الرفاعي (القاهرة)
سينما جاك ليمون (يسار) ومارشيللو ماستروياني في «ماكاروني»

سنوات السينما

Macaroni ضحك رقيق وحزن عميق جيد ★★★ هذا الفيلم الذي حققه الإيطالي إيتوري سكولا سنة 1985 نموذج من الكوميديات الناضجة التي اشتهرت بها السينما الإيطالية طويلاً. سكولا كان واحداً من أهم مخرجي الأفلام الكوميدية ذات المواضيع الإنسانية، لجانب أمثال بيترو جيرمي وستينو وألبرتو لاتوادا. يبدأ الفيلم بكاميرا تتبع شخصاً وصل إلى مطار نابولي صباح أحد الأيام. تبدو المدينة بليدة والسماء فوقها ملبّدة. لا شيء يغري، ولا روبرت القادم من الولايات المتحدة (جاك ليمون في واحد من أفضل أدواره) من النوع الذي يكترث للأماكن التي تطأها قدماه.

يوميات الشرق الممثل أليك بالدوين يظهر بعد الحادثة في نيو مكسيكو (أ.ف.ب)

توجيه تهمة القتل غير العمد لبالدوين ومسؤولة الأسلحة بفيلم «راست»

أفادت وثائق قضائية بأن الممثل أليك بالدوين والمسؤولة عن الأسلحة في فيلم «راست» هانا جوتيريز ريد اتُهما، أمس (الثلاثاء)، بالقتل غير العمد، على خلفية إطلاق الرصاص الذي راحت ضحيته المصورة السينمائية هالينا هتشينز، أثناء تصوير الفيلم بنيو مكسيكو في 2021، وفقاً لوكالة «رويترز». كانت ماري كارماك ألتوايز قد وجهت التهم بعد شهور من التكهنات حول ما إن كانت ستجد دليلاً على أن بالدوين أبدى تجاهلاً جنائياً للسلامة عندما أطلق من مسدس كان يتدرب عليه رصاصة حية قتلت هتشينز. واتهم كل من بالدوين وجوتيريز ريد بتهمتين بالقتل غير العمد. والتهمة الأخطر، التي قد تصل عقوبتها إلى السجن خمس سنوات، تتطلب من المدعين إقناع

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
سينما سينما رغم الأزمة‬

سينما رغم الأزمة‬

> أن يُقام مهرجان سينمائي في بيروت رغم الوضع الصعب الذي نعرفه جميعاً، فهذا دليل على رفض الإذعان للظروف الاقتصادية القاسية التي يمر بها البلد. هو أيضاً فعل ثقافي يقوم به جزء من المجتمع غير الراضخ للأحوال السياسية التي تعصف بالبلد. > المهرجان هو «اللقاء الثاني»، الذي يختص بعرض أفلام كلاسيكية قديمة يجمعها من سينمات العالم العربي من دون تحديد تواريخ معيّنة.


100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)