يرى قطاع معتبر من المراقبين والباحثين، أن «المعركة الأولى للتنظيمات الإرهابية، كانت ولا تزال هي معركة الإعلام وصورة التنظيم أمام الرأي العام... واستخدام الصحافة هو السبيل الأمثل لكسب الحرب النفسية والدعاية وكسب العقول». وتعد جريدة «النبأ» الأسبوعية الصادرة عن ما يسمى «ديوان الإعلام المركزي» التابع لتنظيم داعش الإرهابي، أحد أهم الأدوات الدعائية التي استخدمها التنظيم في نشر أخباره وأفكاره المضللة. وأكدت دراسة مطولة حديثة في مصر، أن «الجريدة احترفت التضليل وهاجمت التنظيمات الأخرى، ويستخدمها التنظيم في مقاومة الانشقاقات و(فرار) عناصره عقب هزائم متتالية طالته في سوريا والعراق».
الدراسة أعدها مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، وحصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، تضمنت تحليلاً لمضمون أعداد «النبأ» خلال عام 2017... وكشفت عن اختلال خطاب الجريدة والحديث عن الهزائم، بعدما كانت أداة ساهمت في تجنيد الأتباع عام 2014. وقال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، لـ«الشرق الأوسط»: إن «الدراسة اعتمدت على منهجية كمية وكيفية، فعرضت تصنيفاً للمحتوى الخبري وللمقالات؛ استكشافاً للمسكوت عنه الذي يحاول التنظيم إخفاءه، عندما يركز على إظهار سمة وتوجه ما، فعندما تركز الجريدة على ضرورة الثبات، فهي تخفي تزايداً في أعداد الفارين بغية مواجهة حالات الانشقاق».
و«النبأ» مرآة عاكسة لفكر وممارسة التنظيم، تحترف التضليل في أخبارها وافتتاحياتها ومقالاتها... كما أنها أداة إعلامية تنتهج استراتيجية التنظيم في الصدمة والرعب، فعناوينها تصدم متصفحها بـ«الدماء والأشلاء والتكفير».
وقال المراقبون: إن «داعش» يقاوم الآن للحفاظ على منصاته الإعلامية، التي وفر لها طاقات مالية وبشرية، منذ أول مرة صعد فيها أبو بكر البغدادي على منبر «الجامع الكبير» بالموصل عام 2014 ليعلن عن «دولته المزعومة» التي تهاوت بعد ذلك.
صحافة الدعاية
بلغت العينة التي عملت عليها الدراسة المصرية، التي جاءت بعنوان «التضليل المحترف»، 44 عدداً من الجريدة، شملت 331 خبراً، و223 مقالاً، و7 إنفوغرافات. ويشار إلى أن التنظيمات الإرهابية أدركت مبكراً أن استخدام الصحافة هو السبيل الأمثل لكسب الحرب النفسية والدعاية وكسب العقول؛ لذا ففي عام 1988 أنشأ زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن إدارة «إعلام القاعدة» بهدف نشر ما يقوم به التنظيم من عمليات في أفغانستان... واستخدم «داعش» كافة أشكال وسائل الإعلام، سواء التقليدية عبر جريدة «النبأ»، أو المتطورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الوكالات الإعلامية.
ويشار إلى أن «النبأ» عكست التطور الذي طرأ على الأداة الإعلامية لـ«داعش» وسعى التنظيم لتوظيف فكرة الجهاد من دون قائد، التي ظهرت مع «القاعدة»، وتقوم على أساس «الجهاد» عبر الإنترنت لأبو مصعب السوري، الذي وثّق لهذه الفكرة عبر مؤلف له بعنوان «الاستراتيجية اللامركزية للجماعات الجهادية»؛ وذلك لضمان استمرار التنظيمات حال مقتل قادتها... وتنظر الجماعات الإرهابية إلى أهمية التغطية الصحافية لما تقوم به على أساس أنه اعتراف صريح بوجودها وبمشروعية ما تقوم به من عنف؛ فظهور القيادات الإرهابية عبر حوارات أو أخبار يحقق لهم شهرة وانتشاراً، من وجهة نظرهم.
تداول إجباري
قالت دراسة الإفتاء: إن الصفحة الأولى لـ«النبأ» تعكس مرايا العدد، والكلمة الافتتاحية إذا كانت مهمة مثل أن تكون كلمة لأحد قيادات التنظيم أو كلمة صوتية تم تفريغها لأبو بكر البغدادي، والعدد يقع غالباً في 12 صفحة، ثم زاد إلى 16... وكانت توزع عقب صلاة الجمعة في النقاط الإعلامية وفي الأسواق والأماكن العامة... وتحتوي الصفحة الأولى على تحذير من إلقاء الجريدة؛ كونها تحتوي على آيات قرآنية وأحاديث، وهذا التحذير يهدف فقط إلى زيادة تداولها بين الأعضاء.
لغة الخبر في «النبأ»، بحسب الدراسة، يغلب عليها الطابع المركزي، الذي يعمل على تجميع الأخبار من مختلف أفرع التنظيم ويضعها في قالب دعائي يستثير حماسة أتباعه، ويقوم بتضخيم أعداد الضحايا في صفوف خصوم التنظيم... فمثلاً أعلنت «النبأ» عن مقتل 572 وجرح 393 في العراق خلال أغسطس (آب) الماضي، وبالرجوع إلى بيانات «منظمة ضحايا حرب العراق» وجد أن عدد القتلى 201، في حين رصدت «المنظمة الدولية» مقتل 90 شخصاً وإصابة 117؛ ما يؤكد أن «النبأ» تقوم بنشر أكاذيب عن عمليات وهمية، وتقوم بتضخيم أرقام الضحايا، في إطار الحرب النفسية التي يشنها التنظيم على دول المنطقة.
وتحتوي «النبأ» على عدد كبير من صور الغرافيك التي تبعث موضوعاتها دلالات كثيرة، جاءت أغلبها في الفترة الأخيرة عبارة عن رسائل إيمانية لمقاتلي التنظيم، كما حوت موضوعات ركزت على وجهة نظر التنظيم في «الانتخابات والديمقراطية».
وأكدت الدراسة، أن مجموعة المقالات التي اختصت بمنظومة القيم الدعوية مثلت أكثر من 25 في المائة من مجموع المقالات خلال عام؛ وهو ما يشير إلى أهميتها، حيث يسعى التنظيم إلى توظيفها لبث قيم تخدم الطابع التجنيدي القائم على «السمع والطاعة»، والحفاظ على هياكله الداخلية في مواجهة عمليات الانشقاقات وتثبيت عناصره في المواجهات... ومن بين هذه القيم «حفظ الأسرار، والصبر، والصمت، وتجنب المعاصي، والثبات».
نصيحة في مقال
تناولت أعداد الجريدة أيضاً مقالات حملت نصائح أمنية للعناصر، تمحورت حول مجموعة تقنيات تتعلق بتنفيذ العمليات. وأهمية «الصولات الهجومية» في إيقاع الخسائر التي تتم عن طريق مجموعات صغيرة من «الذئاب المنفردة». وآلية استخدام العبوات الناسفة. وطرق التصدي للحملات الأمنية.
وأشار مستشار مفتي مصر إلى «تناقض منظومة القيم التي يدعيها التنظيم بشكل كامل مع واقع ممارساته التي قامت على استباحة الدماء للأبرياء وارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية من نشر الرعب بمشاهد الذبح والحرق وقتل الرجال والنساء وتدمير ممتلكات المسلمين».
وكشف الباحثون، معدّو الدراسة، عن أن الجريدة ضمت في صفحاتها الأخيرة مجموعة من الفتاوى بمتوسط 2 في العدد... وركزت هذه الفتاوى على العبادات بمعدل 6 فتاوى خاصة بالصلاة والاعتكاف، و3 بالصيام، و4 بالأضحية والنذر، و2 بالزكاة. أما ما يتعلق بالمعاملات العائلية، فهي عبارة عن 3 فتاوى حول تعدد الزوجات، وعقوق الوالدين، وسفر المرأة، فضلاً عن فتاوى أقل حول «الجهاد ونيل الشهادة والديون».
وتظهر الأرقام، أن هناك اهتماماً أقل بفتاوى القتال لصالح المعاملات العائلية، وهو ما يبرز تركيزهم على قضايا الاختلاط والزواج، وأنهم يريدون التحكم في العلاقات الاجتماعية قسراً، وإشارة إلى الهوس الجنسي... كما أن تساوي عدد فتاوى الديون مع الجهاد يشير إلى أن المنضمين للتنظيم يعانون من الفقر، وهم ما يستهدفهم بخطابه.
خداع العناصر
أكد الباحثون، أن الجريدة لجأت إلى عرض سير بعض «الإرهابيين» الذين قتلوا أثناء تنفيذ عمليات انغماسية، أو في عمليات استهداف أوكار التنظيم، باعتبارهم أبطالاً؛ بهدف كسب تعاطف العناصر للإقدام على نيل الشهادة وتنفيذ عمليات خاصة.
وعن اعتراف «داعش» بهزائمه في جريدة «النبأ»، أكدت الدراسة، أن التنظيم يدرك أنه لم يعد هناك مجال للاستخفاف بعقول أنصاره... فلم تعد «دولته المزعومة» باقية وتتمدد، ومن هنا كانت هناك ضرورة للمصارحة والمكاشفة أمام عناصره لمحاولة استعادة الثقة المفقودة، مع الدعوة إلى الصبر. لكن خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة تحول خطاب الجريدة لتأكيد أن «داعش» دين ودولة، وأن ما يعاني منه التنظيم هو ضريبة للجهاد.
وقال الباحثون: إن ذلك الخطاب في ظل مساعي التنظيم لاستعادة نشاطه الميداني والإعلامي في العراق وسوريا والعودة إلى وضع ما قبل 2014، وهو ما ركز عليه البغدادي في خطاباته للحفاظ على معاقل التنظيم في سوريا، والقتال في جبهات مفتوحة واستخدام «الذئاب المنفردة» وبخاصة في أوروبا، وتوظيف «مهاجمة العدو البعيد»، وعلى رأسها أميركا وروسيا والدول الأوروبية لإعادة كسب ثقة الأنصار الفارين واستقطاب عناصر جديدة.
تجنيد {الإخوان}
وحول رؤية التنظيم نفسه في مرآة التنظيمات الإرهابية الأخرى، أشار الباحثون إلى سعي التنظيم من خلال الجريدة إلى تضليل عناصره بمحاولة إقناعهم بأنه التنظيم الأوحد الذي يسعى إلى إقامة الدولة – على حد زعمهم -، أما باقي الفصائل والجماعات التي لم تبايعه فهي لم تقدم للإسلام شيئاً. فهاجمت الجريدة «صحوات الشام»، و«الفصائل المسلحة في سوريا»، و«حراس الدين»، وجماعة «الإخوان» الذي سعى التنظيم لاستمالة عناصرها بانتقاد منهج الجماعة الفكري، كما اشتبكت الجريدة مع حركة طالبان وتنظيم القاعدة.
وكشفت الدراسة عن سبع أزمات هيكلية ضربت التنظيم وأظهرتها أعداد «النبأ»، هي، خسارة الرهان على الفروع الكبرى، ومنها «ولاية سيناء» في مصر بعد نجاح «العملية الشاملة في سيناء 2018»، وتزايد أعداد الفارين والمنشقين من التنظيم، فضلاً عن الانقسامات والخلافات الداخلية بين صفوفه عقب الهزائم التي لحقته في العراق وسوريا. وكذا تفكك العقيدة القتالية والدعوية لدى عناصره. والإفلاس القيمي والإعلامي. والتراجع الشديد في التخطيط المركزي وغياب الاستراتيجيات. وانتشار ضعف القوة الإيمانية والنفسية لدى العناصر وفقدانهم الثقة بالتنظيم. وانتشار المعاصي والانحرافات السلوكية بين عناصر «داعش».
وقدمت الدراسة المصرية توصيات للتصدي للدعاية السوداء التي تطلقها «النبأ»، أهمها، إيجاد آلية تضمن استبدال المحتوى العنيف بمحتوى آخر معتدل. وحظر الوجود العنيف على المنصات الإلكترونية والعمل على حذفها بشكل سريع وعاجل وملاحقتها في المنصات كافة المنتشرة في مختلف الدول. فضلاً عن العمل على إيجاد منصة عالمية تقوم بفضح الأكاذيب التي تتعلق بالعمليات الإرهابية وضحاياها. إضافة إلى البحث العلمي والأمني لإصدارات التنظيمات الإرهابية، والكشف عما إذا كانت تحتوي على رسائل «مشفرة» لأعضاء التنظيم بخصوص القيام بالعمليات الإرهابية.