تهدف خطابات قادة التنظيمات الإرهابية بشكلٍ عام إلى تجييش الآراء وتحريض المناصرين للتنظيم القيام لشن هجمات إرهابية أو تبني استراتيجية معينة. ويتم اختيار زعيم التنظيم لإيصال الرسالة نتيجة أسلوبه الجاذب وقدرته على إقناع الآخرين بتبنيها، ولا سيما أن اختياره لأن يصرح بذلك ينم عن مدى ما سيقوله. هذا ما يمكن أن يستدل به من خلال التسجيل الصوتي الذي تم تناقله مؤخراً لزعيم «داعش» أبو بكر البغدادي، في عيد الأضحى داعياً مناصريه إلى القيام بشن هجمات فردية تستهدف الآخرين، بالأخص في الدول الغربية، وقد اختير توقيته من أجل استغلال المناسبة الدينية للتحريض، وذلك من خلال تشديد البغدادي على كون «هجوماً واحداً في الغرب يعادل ألفاً في الشرق الأوسط»، ومن ثم هنّأ في خطابه من وصفهم بـ«الأسود الضارية» بنجاح هجمات التنظيم المستهدفة عدداً من دول التحالف التي استهدفت التنظيم من قبل في الغارات الجوية على معاقله مثل كندا وأوروبا، ومن ثم دعا مناصريه إلى استخدام القنابل والسكاكين أو السيارات المفخخة.
من هذا الخطاب يمكن استخلاص عدد من الاستنتاجات، أهمّها «مدى اهتمام التنظيم باتباع استراتيجية الهجمات العشوائية المباغتة من خلال الرسالة التحريضية التي تدعو خلاياه النائمة المتناثرة في الدول المختلفة إلى أن تستفيق وتباشر القيام بذلك».
هذا الأمر الذي لا يثبت إلا الاستمرار في الدوران في حلقة مفرغة حين يتم وضع التوقعات لمصير تنظيم داعش، تارة يظهر التنظيم هشّاً متهالكاً آيلاً للسقوط نتيجة تلاشي حلم إقامة «خلافته»، وتارة أخرى يصل أعضاؤه إلى معقل تنظيم القاعدة في جبال تورا بورا (أفغانستان)، ويرفل في بطشه وقدرته على التغلغل في مناطق لم يصل لها من قبل. إلا أن ما نستطيع أن نستدل عليه هو استمرار محاولات «داعش» الصمود وتحريض أعضائه المتناثرين في كل بقاع الأرض لأن يمارسوا القتل وزعزعة الأمن، وإن كان ذلك من خلال عمليات إرهابية عشوائية منفردة كطعن أشخاص يمشون في الطرقات في دولة أوروبية.
طبعاً هذا، يعد توجهاً جديداً يخالف التنظيمات التقليدية في بحثها عن الإثارة في الهجمات الإرهابية من خلال مسرح كبير للهجمات الإرهابية بأكبر عدد من الضحايا، ومرد ذلك بشكلٍ كبير إلى تشديد السلطات الأمنية في الدول المختلفة رقابتها واحترازاتها الأمنية الشديدة مما يقلل من فرص قدرة هذه التنظيمات على تنفيذ تهديداتها الأمنية.
إذ حاول «داعش» في روسيا إبّان المونديال الأخير شن حملة إعلامية ضخمة تحرّض مناصريه «داعش» على مهاجمة الاستاد الرياضي في موسكو، بل وقتل مشاهير كرة القدم. وعلى الرغم من ذلك، فإن المونديال الكروي انقضى دون تهديد يذكر. الأمر الذي يؤكد أن الهجمات الإرهابية الكبيرة لن تظهر إلا في المناطق التي تفتقر إلى الأمن أو الاستقرار السياسي، مثل التمدد الداعشي في العراق وسوريا والسعي في إنشاء خلافة له. الجدير بالذكر، أن خطاب زعيم «داعش» الأخير قد جاء بعد غياب ما يصل إلى العام؛ إذ لم يظهر البغدادي في أي بث صوتي منذ سبتمبر (أيلول) العام الماضي، ولقد حرص البغدادي على أن يبقى بعيداً عن الأضواء، ولم يظهر من قبل بتسجيل مرئي إلا إبان إعلانه تأسيس تنظيم داعش في سبتمبر 2014 في خطابه الشهير بالمسجد النوري في العراق. التسجيل الأخير من جهة أخرى، يبدو أشبه بمحاولة للتأكيد على أنه ما زال حياً، ودحض التقارير الكثيرة التي انتشرت عن مقتله بغارة جوية واحتمال أن يخلفه «أبو عثمان التونسي» زعيماً لـ«داعش»، وانقسام الرأي في اختياره ما بين مؤيد ورافض لذلك من أعضاء التنظيم. ومن أجل الاسترسال في محاولة إثبات حداثة التسجيل الصوتي، فإن البغدادي، وإن لم يتم التأكد من أنه صاحب التسجيل الصوتي، قد تطرق إلى أحداث تجلّت مؤخراً مثل توتر العلاقات الأميركية - التركية، وربط ذلك بنجاح تحركات تنظيم داعش في تركيا. مثل هذا الاهتمام بالاستعانة بقائد التنظيم الداعشي لم يظهر إلا مؤخراً؛ إذ إن «داعش» لا يرتكز على جاذبية قادته أو حضورهم الإعلامي مثل ما كان يحدث مع تنظيم القاعدة، الأكثر مركزية بإعطائه قادته ثقلاً وحضوراً لافتاً حتى من خلال وسائل الإعلام التقليدية من القنوات الإخبارية أو الصحف الرسمية قبل أن يعي المجتمع الدولي مدى خطورة إعطاء المتطرفين الفرصة للظهور الإعلامي. يتضح مؤخراً استغلال «داعش» قادته في الظهور من أجل إيصال رسائله الإعلامية، مثل بيان لـ«داعش» أعلن من خلاله مقتل نجل البغدادي في حمص «حذيفة البدري»، من أجل دعم تجنيد الأطفال وانضمامهم إلى التنظيم.
ولقد ركز التنظيم من قبل في رسائله الإعلامية منذ تأسيسه على اختيار شباب غير منتمين إلى هرم قيادي، وإنما يمتلكون فقط أسلوباً جاذباً من أجل إثارة الحماسة واستقطاب الشباب، وكذلك بهدف إلغاء النخبوية والتركيز على جذب الأعراق والخلفيات المتنوعة وصهرها نحو آيديولوجية تلغي الآخر وتبقي «الأنا» الداعشية المتضخمة بتطرفها. ومن المنطلق ذاته المعتمد على اختيار المناسبات الدينية لبثّ رسالة إعلامية معينة لمناصري «داعش»، ظهرت تسجيلات أخرى للتنظيم يحتفي من خلالها بعيد الأضحى في اليمن دون اختيار قادة معروفين، مجرد أعضاء ينتمون إلى «داعش» في اليمن من أجل التأكيد على تواجدهم في المنطقة التي تغلغل فيها تنظيم القاعدة بشكلٍ أكبر من خلال تسجيلات مرئية متوالية بمسمى «حصاد الأجناد» تم استعراضها على أجزاء عدة. وذلك يأتي امتداداً لمحاولة «داعش» إيجاد أوطان أخرى له مثل حضوره الأخير في أفغانستان، وقد كان يستحيل توقع احتمال وصول تنظيم داعش لمعقل زعيم القاعدة أسامة بن لادن، وإن كان التنظيم يتعرض في الآونة الأخيرة للتقويض هناك، إلا أن القدرة على الوصول إلى مناطق مثل اليمن وأفغانستان وحتى التغلغل في إندونيسيا وتحريض عدد من الأسر فيها بالقيام بهجمات إرهابية يؤكد على استمرارية الحضور الداعشي على الساحة الدولية. ولا تزال هناك مخاوف من استغلال التنظيمات المتطرفة للتحالفات مع تنظيمات أخرى مثل ما حدث مع «بوكو حرام»، وهو أمر قد يزيد من الاضطراب الأمني في أفريقيا في مناطق مختلفة مثل تمبتكو وشرق ليبيا، وكذلك في دول مثل نيجيريا وتشاد وموريتانيا. وإلى جانب ذلك، ظهرت تصريحات عدة تنم عن مخاوف قدرة التنظيم إعادة ما يسمى «خلافته»، فقد أشار المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية شون روبرتسون مؤخراً بأن من الممكن لتنظيم داعش أن يعيد بناء «الخلافة» المزعومة بعد أن بدأت أنشطته تزداد في مناطق في العراق، بالأخص في شماله. في حين حذر مساعد قائد قوات التحالف الدولي للقضاء على «داعش» الجنرال البريطاني فيليكس جيدني من استمرار خطورة التنظيم واستمرار أعمال العنف التي سيرتكبها ليس فقط في الشرق الأوسط، وإنما في الدول الغربية بما فيها بريطانيا. ويتماشى ذلك مع العمليات الأخيرة المستهدفة للدول الغربية، حيث ترفل بالأقليات من جهة نتيجة شعور بعضهم بالتهميش والنبذ أو الاضطهاد؛ مما يدفع البعض منهم بالرغبة في الانضمام إلى فئة وإن كانت متطرفة من أجل الشعور بالاحتواء، ومن جهة أخرى تعاود الظهور إلى السطح أزمة عودة المقاتلين إلى أوطانهم من مناطق القتال، وتحولهم إلى قنابل موقوتة في تلك الدول. خطاب البغدادي الأخير يؤكد اهتمامه بتحويل هذه المخاوف إلى حقيقة. وقد ظهرت الكثير من الحوادث الإرهابية التي تعكس ذلك، مثل حادثة مدينة تورونتو، حيث قام فيصل حسين، وهو مسلح ينتمي إلى «داعش» بإطلاق النار على المارة قبل أن يطلق النار على نفسه، وقد تبين فيما بعد بأنه يعاني من اضطراب عقلي، وذلك من جهة أخرى يؤكد مدى استغلال التنظيم المضطربين عقلياً، أو أصحاب السوابق الإجرامية من أجل تحريضهم على الهجوم على الآخرين كعمليات لذئاب منفردة تنسب إلى التنظيم، وقد أصبح العهد الحديث للتنظيم يحمل هذا التوجه ملاذاً أخير له؛ إذ يسهل من خلاله تنفيذ العمليات دون أن يشتبه بخلية معينة، وإنما الاعتماد التام لمنفذ واحد للعملية. من جهة أخرى، يبدو جلياً النزوح بعيداً عن التعريف التقليدي للإرهاب المتعارف عليه، مثل القيام بترهيب وقتل المدنيين من أجل تحقيق هدف سياسي أو ديني؛ إذ إن المنخرطين في العمليات الإرهابية مؤخراً والمنتمين إلى «داعش» أشبه بأشخاص متآكلين من الداخل غير مقتنعين بحياتهم، راغبين في الانضمام إلى جماعة معينة، ليس نتاجاً لقناعات داخلية؛ إذ إن هناك جهلاً فعلياً للدين وتعاليمه يفضي إلى تصديق كل ما يتم سماعه. وعلى الرغم من وجود عدد من العمليات الإرهابية التي تم تنفيذها من قبل ذئاب منفردة، فإن تنظيم داعش قام بنسبها له لمجرد توفيرهم الدعم المعنوي، أو التحريض على الهجمات من خلال حملاتهم الإعلامية. وقد اعتقلت السلطات الفرنسية مواطناً أفغانياً قام بطعن سبعة أشخاص في باريس في 9 سبتمبر الحالي. الأمر الذي ينافي ما كانت تقوم به التنظيمات الإرهابية من قبل، كاختيار لمسرحٍ كبير للقيام بهجمة إرهابية ضخمة تتناقلها الوسائل الإعلامية، وتثير الرهبة في نفوس سكان الدول المستهدفة، مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر. في نهاية المطاف، يظل التهديد الإرهابي من تنظيمات مثل القاعدة و«داعش» مستمراً؛ كونه خفياً يباغت بهجماته، ومن خلال أعضائه بقدرة على التحريض عابرة للحدود، وكذلك لأن العالم لا يزال يرزح تحت عبء وجود مناطق تئن بانعدام أمنها واحتمال استغلال هذه التنظيمات المتطرفة لوضعها لتضع أعلامها هناك، وتعلن تواجدها فيها.
قراءة سياسية في خطاب البغدادي الأخير
«داعش» في محاولة تجييش وتحريض لإثبات وجوده
قراءة سياسية في خطاب البغدادي الأخير
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة