الإعلام والسياسة... علاقة تضليل وتخدير وجس للنبض

أدوات احتكرها هتلر في الحرب العالمية الثانية ثم وظفها السادات ونتنياهو وبوتين

الرئيس المصري الراحل أنور السادات يراجع الخطة الحربية ضد إسرائيل برفقة القائد العسكري سعد الدين الشاذلي  ووزير الحرب إسماعيل علي عام 1973 (غيتي)
الرئيس المصري الراحل أنور السادات يراجع الخطة الحربية ضد إسرائيل برفقة القائد العسكري سعد الدين الشاذلي ووزير الحرب إسماعيل علي عام 1973 (غيتي)
TT

الإعلام والسياسة... علاقة تضليل وتخدير وجس للنبض

الرئيس المصري الراحل أنور السادات يراجع الخطة الحربية ضد إسرائيل برفقة القائد العسكري سعد الدين الشاذلي  ووزير الحرب إسماعيل علي عام 1973 (غيتي)
الرئيس المصري الراحل أنور السادات يراجع الخطة الحربية ضد إسرائيل برفقة القائد العسكري سعد الدين الشاذلي ووزير الحرب إسماعيل علي عام 1973 (غيتي)

لم يخترع أدولف هتلر كلمة بروباغاندا؛ فهي كانت شائعة في أيامه واستخدمت كثيراً قبله خصوصاً منذ القدم، وليس بعيداً، خلال الحرب العالمية الأولى. لكنه كان الوحيد الذي طبَّقها من دون حدود، واستخدمها على نطاق واسع. في كتابه «كفاحي» الذي أنتجه وهو في السجن، قبل أن يصل إلى السلطة، يفضح هتلر كثيراً من آرائه حول الحاجة لـ«السيطرة على العقول» بهدف النجاح، عن طريق السيطرة على الإعلام. وتتعدد الأدوار التي يمكن أن تلعبها وسائل الإعلام، وتختلف تبعاً لطبيعة الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة بها. منذ نشأتها كان لوسائل الإعلام دور سياسي، واستخدمها رجال الدولة للترويج لسياساتهم، خصوصاً في أوقات الصراعات والحروب، وأحياناً كانت تُستخدَم في التضليل ونشر الإشاعات. تختلف الاستخدامات ويختلف المستخدم؛ فهناك الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي استخدم «التضليل» لينتصر على إسرائيل في حرب «يوم الغفران»، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي طوّع تغريداته ليكسب الانتخابات. وقد يكون الأكثر تفوقاً في هذه «الرياضة» الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتدخُّل روسيا في سوريا. وتغطية الإعلام له، المثال الأكبر.

يختصر المؤرخ البريطاني روبرت أنسور الذي عايش فترة النازية، استخدام هتلر للبروباغندا بالقول: «هتلر لا يضع حدوداً على كيفية استخدام البروباغندا. (فهو مقتنع بأن) الناس يصدقون أي شيء إذا تم تكراره لهم وبشكل قاطع».
عندما وصل هتلر إلى السلطة في يناير (كانون الثاني) 1933، حرص فوراً على استحداث وزارة للبروباغندا وسلَّمها لجوزيف غوبلز الذي عمل صحافياً، وبرهن لاحقاً على أنه كان من أوفى المحيطين بالزعيم النازي وبقي معه حتى النهاية.

هتلر وغوبلز... غسل الأدمغة بالآيديولوجيا النازية
من خلال وزارة البروباغندا نجح غوبلز بالسيطرة على كل مصادر المعلومات في أنحاء البلاد وأبعد، بدءاً من الصحافة بكل أشكالها، مروراً بالأفلام والمسارح والإعلانات، وصولاً إلى الكتب، من بينها كتب المدارس.
عمل غوبلز بهدفين: الأول محو أي معارضة لهتلر من خلال بث أخبار موجهة وتثبيت فكرة تمجيد القائد. والثانية إقناع الألمان بـ«برامج» وأفكار النازيين التي بدأت بـ«تفوق» العرق الآري وانتقلت إلى ضرورة التخلص ممن يشكلون عقبة أمام «نقاوة» هذا العرق، أي مَن يعانون من إعاقات جسدية وعقلية، وصولاً إلى تصوير اليهود على أنهم أقل من البشر تبريراً للمحرقة لاحقاً.
رغم أن غوبلز نفسه كان يعاني من إعاقة جسدية ويمشي أعرج، وكان يرتدي قوسا معدنيا حول رجله الأقصر من الثانية، فإن ذلك لم يمنعه من المشاركة في هندسة واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ من خلال العمل على إقناع الألمان ببرنامج «T4» الذي يستهدف من كان يعاني من إعاقات أحياناً أقل من تلك التي كان يعاني منها غوبلز نفسه.
البرنامج قتل عبره النازيون ما يقارب الـ300 ألف شخص خلال 6 أعوام انتهت بسقوطهم عام 1945، قابلته حملات ترويجية كثيرة قادها غوبلز نفسه. من أمثلة هذه الحملات منشورات عملاقة تظهر تكلفة الاعتناء بشخص لديه إعاقة مقابل ملذات يمكن صرف تلك الأموال عليها في حال لم يكن هذا الشخص موجوداً.
وعام 1941 أمر غوبلز بإنتاج فيلم «أنا أتهم» يبرر «القتل الرحيم» من خلال تصوير رجل يسعى لإقناع مسؤولين بالسماح له بإعطاء حقنة قاتلة لزوجته التي تعاني من التصلب المتعدد، لـ«تخليصها من العذاب». وفي الفيلم يواجه الرجل المسؤولين في المحاكم ويبرر أسباب القتل ويتهمهم بالقسوة والشر.
أولى غوبلز أهمية كبيرة للسينما وبقوة تأثيرها على الرأي العام وكان يقول إنها بمثابة «المقدمة للعمليات العسكرية» للنازيين.
وبالإضافة إلى قوة تأثير السينما، عرف غوبلز أيضاً قوة تأثير الإذاعة في ذلك الحين لنشر رسالة النازيين. فأمر بشراء ملايين أجهزة البث (الراديو) وبيعها بأسعار بخسة. وهكذا مع بداية الحرب العالمية الثانية، كان 70 في المائة من المنازل في ألمانيا النازية يمتلكون جهاز راديو تُبَثّ عليه خطابات هتلر.
وبعد أن بدأ المستمعون يشعرون بالممل من سماع الخطابات على مدار الساعة، اضطر النازيون لإدخال برامج ترفيهية موسيقية للحفاظ عليهم. لاحقاً اعترف غوبلز بأهمية «الراديو»، وكتب في يومياته: «ما كان بإمكاننا الوصول للسلطة أو استخدامها بالشكل الذي فعلنا من دون الراديو… الراديو أوصلنا إلى كل الأمة بغضِّ النظر عن المستوى الاجتماعي أو المرتبة أو الدين».
الكتب المدرسية والتعليم المبكر كانت أيضاً من أسس البروباغندا النازية. فغوبلز وهتلر حرصا على «تربية» أجيال على الأفكار النازية منذ البداية، وكانوا يرسلون أوامر وإرشادات للمعلمين تتعلق خاصة بمواد «البيولوجيا» التي حاولوا عبرها إقناع الأطفال بقوانين نورمبيرغ، التي تهدف للحفاظ على «الدم الألماني» وتمنع الاختلاط باليهود.

التسريبات... سبب انتصار السادات وجسَّ بها مبارك نبض الشارع
عدة أمثلة حية وتاريخية تؤكد ارتباط الإعلام بالسياسة، ولعل أبرز الأدوار السياسية التي لعبها الإعلام في مصر كانت قبيل حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، حيث استخدم الرئيس الأسبق الراحل أنور السادات الإعلام في تضليل إسرائيل، وخداعها، لإخفاء موعد الحرب. وكتب الدكتور محمد عبد القادر حاتم، وزير الإعلام المصري الأسبق، الذي كان مسؤولاً عن الإعلام وقت الحرب، في شهادته، أن «الإعلام نجح في إخفاء قدرتنا على الحرب وحققنا المفاجأة الاستراتيجية».
نجاح هذه الخطة أكدته نتائج الحرب، وكذلك شهادة قادة إسرائيل أنفسهم، حيث قال الجنرال الإسرائيلي إيلي زعيرا، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية خلال الحرب، في كتابه «حرب يوم الغفران»، إن كل موضوعات الإعلام المصري كانت حملة خداع من جانب السادات، أو من شخص ما بجواره، وذلك ليعتبر أكبر نجاح لمصر في حرب «يوم الغفران»، ناقلاً عن الكاتب الصحافي المصري محمد حسنين هيكل، قوله إن «هناك تعليمات صدرت للجهاز الإعلامي والسياسي المصري لتضليل العدو حول موعد الحرب، وتم التنسيق بين وزارات الإعلام والخارجية والمخابرات الحربية قبل الحرب بـ6 أشهر».
وفي كتابه «دور الإعلام في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية»، قال حاتم: «عندما كلفني السادات قبل حرب أكتوبر بأن أكون مسؤولاً عن الحكومة، وأن أنوب عنه في رئاسة مجلس الوزراء، كان قراري الأول هو عدم الإدلاء بأي تصريح مباشر أو تلميح عن الأداء أو الاستعداد للحرب، وانطبق ذلك على العسكريين والسياسيين أيضاً». وأشار إلى أن الخطة الإعلامية «ركَّزَت على الإيحاء بأن مصر تتجه نحو العمل والنضال السياسي، وتم تسريب أخبار بأن مصر تؤمن بالتسوية السلمية في الشرق الأوسط... كما سُرّبت أخبار بأن مصر أعلنت حالة الطوارئ، ونُشِر الخبر في لبنان ووسائل الإعلام العالمية، لتعلن إسرائيل التعبئة، ثم يتضح عدم صدق الخبر، الذي تكرر تسريبه أكثر من مرة، حتى اقتنعت إسرائيل أن أخبار مصر عن الحرب هي للاستهلاك المحلي». مضيفاً: «من ضمن سياسة الخداع والتمويه الإعلامي كنا نضخِّم أخباراً معينة ونقلل من أهمية أخرى»، مؤكداً «كان هدفنا إيهام إسرائيل بأن مصر جثة هامدة وهي لا تقوى على الحرب».
الكاتب الصحافي المصري، محمد علي إبراهيم، رئيس تحرير صحيفة «الجمهورية» الرسمية الأسبق، كان محرراً لشؤون الرئاسة المصرية خلال حرب 1973، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن «هناك نوعين من التضليل في العمل الإعلامي، إيجابي وسلبي»، مشيراً إلى أن «سياسة التضليل الإعلامي التي اتُّبعت خلال الحرب، كانت تضليلاً إيجابياً، حيث تم نشر أخبار بأن ضباط الجيش يستعدون للسفر لأداء مناسك الحج، وأخبار أخرى عن فتح باب حجز وحدات سكنية للضباط»، مضيفاً: «هذه الخطة نجحت بدرجة كبيرة، وتمكَّنَت مصر من مفاجأة إسرائيل، حتى إننا عندما دخلنا المواقع العسكرية الإسرائيلية في اليوم الرابع من الحرب وجدناهم نائمين».
وتواصل الاستخدام السياسي لوسائل الإعلام في الفترات التالية، ففي عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، استخدم الإعلام لتوجيه رسائل معينة للغرب، أو لتسريب معلومات معينة لجس نبض الشعب بشأن قرارات مهمة، سواء كان ذلك بشكل متعمد أو غير متعمَّد. وقال الدكتور معتز بالله عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «تسريب الأخبار قبل اتخاذ قرارات مهمة كرفع الأسعار مثلاً، كان متبعاً في فترات حكم سابقة في مصر، لكن مصر الآن لا تستخدم سياسة جس النبض».
وأوضح إبراهيم، أن «وزير الإعلام المصري الأسبق صفوت الشريف كان رجل مخابرات، واستخدم الإعلام لخدمة أغراض الدولة السياسية، فكانت تصدر تعليمات لنا بالهجوم على دولة معينة أو كتابة مقالات في اتجاه معين، وفي فترات محددة»... ومن بين الأمثلة على ذلك «قيام الشريف بتسريب أخبار للإعلام الخاص بأن مبارك لن يحضر القمة العربية في بيروت عام 2002».
بينما أشار الدكتور صفوت العالم، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة إلى أن «الإعلام يقوم بمجموعة من الوظائف، بعضها وظائف مطلوبة، وبعضها وظائف كامنة»، وقال لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدولة استخدمت الإعلام في بعض الفترات بهدف تخدير وإلهاء الشعب عن المشكلات الحقيقية، عبر التركيز على برامج التسلية والترفيه والرياضة، وهو ما استمرَّ في صور مختلفة إلى الآن، حيث يتم فتح قنوات رياضية وإغلاق القنوات الإخبارية».
وتعاني مصر خلال الفترة الأخيرة من انتشار الإشاعات، حتى إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قال في أحد المؤتمرات، إن «الدولة رصدت 21 ألف شائعة في 3 شهور»، وبناء على ذلك أنشأت الحكومة المصرية مركزاً إعلامياً هدفه الرد على الإشاعات، في الوقت الذي تشهد فيه الساحة الإعلامية ممارسات احتكارية لصالح أجهزة الدولة المصرية».
وقال عبد الفتاح إن «الإشاعات هي نتيجة لحرب بين طرفين كل طرف لديه مصالح يريد تحقيقها على حساب الآخر، ولها 3 أهداف؛ إما الاستكشاف، أي قياس رد فعل طرف ما على قرار أو تصرف معين، أو الاستنزاف من خلال خلق حالة من التوتر والشوشرة وعدم اليقين للتشكيك في أداء الدولة والحكومة، أو التوجيه نحو سلوك معين»، مشيراً إلى أن «نشر شائعة تقول إن ثروة مبارك تجاوزت 70 مليار دولار، كان هدفه تحريك الجماهير للمشاركة في انتفاضة 25 يناير».

«فيك نيوز» على طريقة نتنياهو... انتخابات وجولة لاتينية
خسرت إسرائيل حرب «يوم الغفران» نتيجة لحنكة السادات في تسييس الإعلام، إلا أن حاضرها اختلف، حيث أصبحت الحكومة الإسرائيلية متمكنة من التلاعب الإعلامي، تستغله لمصلحتها، ضد العرب. ففي مثل هذه الفترة من العام الماضي (2017)، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يقوم بزيارة وصفت بأنها تاريخية، إلى ثلاث دول في أميركا اللاتينية، هي: الأرجنتين وكولومبيا والمكسيك. تاريخية لأنه أول رئيس وزراء إسرائيلي يصل إلى هذه البلدان البعيدة.
قبل أن يخلد إلى النوم، غرد على صفحته في «تويتر»، التي يتابعها مليون شخص، وصفحته في «فيسبوك»، التي يتابعها أكثر من مليوني شخص، بالكلمات التالية: «انتبهوا! إنهم لا يريدونكم أن تعرفوا. فأنا في زيارة تاريخية لأميركا اللاتينية. نحو ربع مليار شخص يتابعون أخبار زيارتي من خلال وسائل الإعلام هناك، قسم كبير منها بالبث المباشر. أما الإعلام عندنا، فلا يهتمون بالزيارة، لا يوجد عندنا بث حي لزيارة رئيس الحكومة».
وكما كان متوقعاً، راحت الشبكات الاجتماعية باللغة العبرية تغلي كالمرجل. أنصار نتنياهو راحوا يهاجمون وسائل الإعلام الإسرائيلية ويشتمونها ويحرِّضون عليها وعلى مراسليها، من خلال ذكر عدد من أسماء «الخونة» ويتهمونهم بأنهم ينشرون أخبار الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أكثر من أخبار نتنياهو... إلخ.
لم تكن هذه المرة الأولى التي ينشر فيها نتنياهو الأكاذيب، بهذه الطريقة التحريضية. فقد سبق له أن فعلها كثيراً في الماضي. أشهرها في يوم مشهود، هو يوم الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية بتاريخ 17 مارس (آذار) 2015، عندما أجرى مساعدوه استطلاع رأي بين الناخبين ووجدوا أن الاتجاه يسير نحو تقارب شديد بين عدد الأصوات التي سيحصل عليها حزبه الليكود وبين الأصوات التي سيحصل عليها منافسه، تكتل المعسكر الصهيوني. وحسب نتائج الاستطلاع سيفوز كل منهما بـ24 مقعداً مع تفضيل ما لمنافسيه. فاستلَّ من كُمّه آخر سلاح، كان قد أعده له مستشاره الاستراتيجي القادم من أميركا. وهو: «التحريض على الناخبين العرب».
وهكذا كتب في تغريدته، التي غيرت مجرى الانتخابات وربما التاريخ: «حكم اليمين في خطر. الناخبون العرب يتدفقون بكميات هائلة على صناديق الاقتراع. يجلبونهم بالباصات التي موَّلتها عناصر يسارية من أوروبا». وقد كان لهذه التغريدة تأثير مباشر على ناخبي اليمين المتطرف. فقد شاهدها 145 ألف شخص وأعجب بها 10 آلاف شخص وعملوا لها «لايك». وعلَّق عليها أكثر من ألف شخص. وقد صدقوا أن حُكمه في خطر. وأولئك الذين كانوا ينوون التصويت لأحزاب اليمين المتطرف، عدلوا رأيهم وصوَّتوا لحزب نتنياهو. وفي النتيجة ارتفع الليكود إلى 30 مقعداً وبقي منافسه بـ24 مقعداً، وهكذا عاد إلى كرسي الحكم لأربع سنوات أخرى عجاف. فقد سحب من شركائه في اليمين المتطرف 6 مقاعد (حزب المستوطنين «البيت اليهودي» خسر أربعة مقاعد وحزب ليبرمان مقعداً وحزب شاس مقعداً آخر).
وهكذا، التزييف الذي استخدمه نتنياهو أكسبه الحكم. لكن الأمر لم يُقلِق المجتمع الإسرائيلي كثيراً. كتبوا عنه وانتقدوه ولكنه، ولأنه يتعلق بالعرب، لم يتحول إلى موضوع مقلق. إلا أن تحريض نتنياهو على وسائل الإعلام وهو في أميركا اللاتينية أقلق الإسرائيليين جداً. فما بدأه بالعرب، وصل إلى صدور اليهود وعصَبِهم الحساس. فقررت وسائل الإعلام فَحْص نفسها، إن كانت فعلاً مقصِّرة بحق رئيس الحكومة وزيارته لأميركا اللاتينية، فوجدوا أنه وعلى الرغم من فارق التوقيت (إذ إن زياراته واجتماعاته في دول أميركا اللاتينية، كانت تتم في حين كان الإسرائيليون نائمين، إذ إن فارق السعات يصل إلى 10 ساعات مع الشرق الأوسط)، فإن أهم 20 وسيلة إعلام إسرائيلية نشرت 270 تقريراً عنها. وفي بقية وسائل الإعلام الإسرائيلية تم نشر 770 تقريراً عن هذه الزيارة.
وقد فضحته وسائل الإعلام ونشرت المعطيات للرأي العام، وراحت تتساءل: هل نتنياهو يكذب هكذا في جلسات الحكومة وفي لقاءاته مع قادة العالم؟ لكن الأمر لم يوقف التحريض الجماهيري على الصحافة والصحافيين. ونتنياهو، ليس فقط لم يعتذر، بل انتقل ليعدَّ وجبة أخرى من هذا التحريض. فهو واثق من أن الجمهور الذي يهمه، أي اليمين واليمين المتطرف، يسير وراءه ولا يصدق الإعلام.
اتبع نتنياهو هذا الأسلوب لأنه يعرف أن المتطرفين والعنصريين من الجمهور اليميني يقبضون هذه البضاعة ويتصرفون من خلالها. وهو يحرص على تغذيتها بهذا النوع من الأخبار الكاذبة والتعليقات التحريضية التي يغذيها بها. وكان نتنياهو قد حرص على أن يتولى وزارة الاتصالات بنفسه، إضافة إلى كونه رئيساً للحكومة ووزيراً للخارجية، إلى أن أجبرته المحكمة على التخلي عن حقيبة الاتصالات.
ومنذ سنة 2017، توجد تحت يديه صحيفة يومية مجانية تدعى «يسرائيل هيوم»، أسسها رجل الأعمال اليهودي الأميركي وصاحب شبكة الكازينوهات، شلدون إدلسون. وهو يصرف على هذه الصفحة مبلغ 22 مليون شيقل في الشهر (6 ملايين دولار). وقد اشترى لها موقع صحيفة «معاريف» في الإنترنت بثلاثة ملايين شيقل في سنة 2011. وهما صحيفتان حزبيتان لصالحه.
وأصبحت «يسرائيل هيوم» الأوسع انتشاراً في إسرائيل. وأصبحت تشكل ضائقة للصحف الأخرى. وحاول نتنياهو إبرام صفقة مع صاحب صحيفة «يديعوت أحرونوت»، نواح موزيس، بأن يخفض أعداد صحيفة «يسرائيل هيوم»، مقابل تعهد موزيس بأن يخفف من انتقادات صحيفته لنتنياهو. ولأن هذا الأمر يعتبر محظوراً في إسرائيل فقد تم فتح ملف تحقيق مع الرجلين بتهمة الرشى، وهو ما يُعرف في الشرطة باسم «الملف 2000»، الذي يضاف إلى ثلاثة ملفات فساد أخرى يتم التحقيق فيها مع نتنياهو وزوجته.

انتصارات روسيا في سوريا... بوتين يتفاخر
نتنياهو ليس الوحيد الذي أتقن اللعبة. إنما قد يتفوق عليه سياسي آخر... الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بخطاباته وتصريحاته... وظهوره الإعلامي. ولم تكن «الانتصارات» التي حققتها روسيا في الفضاء الإعلامي حول سوريا بحجم ما حققته الآلة العسكرية الروسية من «انتصارات» ميدانية لصالح النظام السوري، إذ لا تزال وسائل الإعلام الغربية تعرض وتنشر تقارير تتناول فيها ما تراه «تضليلاً إعلامياً روسياً»، وذلك رغم الكمِّ الهائل من الضخ الإعلامي الذي ترافق مع العملية العسكرية الروسية في سوريا منذ بدايتها قبل ثلاث سنوات وحتى الآن، الذي حرص خلاله «المتحدثون الرسميون» باسم المؤسسات الروسية، تدعمهم «ماكينة البروباغاندا» الرسمية العملاقة، على تصوير ما يبثونه من معلومات وتقارير على أنها «الحقيقة المطلقة القائمة على وقائع وأدلة»، وأن ما يطرحونه من أفكار تحمل «الخلاص» لسوريا والسوريين من المعاناة.
وفي جولة جديدة، وليست الأخيرة، من المواجهة الإعلامية حول سوريا، يجري التركيز حالياً بصورة خاصة على الوضع في إدلب، وذلك على خلفية مزاعم روسية بأن «مجموعات إرهابية» تقوم بتصوير وفبركة «مسرحية» هجوم كيماوي لتحميل النظام السوري المسؤولية عنه، واستغلاله من جانب الغرب ذريعة لتوجيه ضربة ضد قوات النظام.
توقفت صحيفة «نوي تسيرخر تسيتُنغ» (NZZ) السويسرية عند المزاعم الروسية بهذا الصدد، وفي تقرير عنوانه «روسيا تمدح نفسها في سوريا»، قالت إن «جميع وسائل الإعلام الروسية تبث منذ نهاية الأسبوع الماضي رسالة مفادها أن الغرب يستعد لضربات جوية استفزازية جديدة في سوريا»، ولَمّحت إلى أن مثل تلك المزاعم ربما تشكِّل مقدمة لاستخدام النظام السوري السلاح الكيماوي في إدلب، وقالت إن الأميركيين والشركة العسكرية البريطانية، التي يزعم الروس أن عناصر منها يشاركون في تصوير «مسرحية الكيماوي»، سارعوا إلى نفي الاتهامات الروسية، بينما أثارت تلك المزاعم قلق «الخوذ البيضاء» ومراقبين غربيين، ذلك أنه «بعد تحذيرات روسية مماثلة في السابق، وفق ما ترى الدول الغربية، يتم دوماً استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين، لكن من جانب النظام السوري».
من ثم أشارت الصحيفة إلى أنه مع منتصف شهر سبتمبر (أيلول)، تكون ثلاث سنوات قد مضت على التدخل العسكري في سوريا، وتتوقف بعد ذلك عن تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول تلك العملية، وتقول إن «بوتين أعلن بعد ذلك أكثر من مرة عن انتهاء تلك العملية في سوريا. إلا أنه في كل مرة يكون الكلام موجهاً للمشاهدين داخل البلاد، الذين لا يظهرون حماسة للمشاركة في حرب بعيداً خارج البلاد».
في السياق ذاته تشير (NZZ) السويسرية إلى شريط فيديو نشرته وزارة الدفاع الروسية على «يوتيوب» حول «النجاح» في سوريا، وتقول إن «الفيديو ومدته عشر دقائق، يعرض سلسلة غير منتهية من البيانات حول نجاحات العملية في سوريا منذ منتصف سبتمبر 2015 لغاية منتصف أغسطس (آب) الماضي»، إلا أن «مقطع الفيديو تجاهل المعلومات حول حجم الخسائر الروسية، كما تجاهل مشاركة شركات عسكرية روسية خاصة في القتال في سوريا. بينما يتم فيه التركيز على اكتساب العسكريين الروس الخبرة القتالية في تلك الحرب، التي شكلت فرصة لاختبار الأسلحة الروسية في ظروف حرب حقيقية». وترى الصحيفة السويسرية أن التركيز على هذا النوع من المعلومات، ومعلومات أخرى مثل «القضاء على قادة الإرهابيين» إنما هي «وسيلة لمنح المشاركة الروسية في الحرب السورية صفة شرعية».

فيليس المقدونية... هندسة الإشاعات «حرفة» أهلها

لندن: «الشرق الأوسط»

حصل جوفان على زوج من أحذية نايكي وذهب إلى عطلة في اليونان مكافأة له على المساعدة في تحويل بلدة فيليس المقدونية الصغيرة إلى مركز من مراكز الأخبار المزيفة ونشر الشائعات خلال سباق الرئاسة الأميركي لعام 2016.
قال الشاب البالغ من العمر 20 عاماً، والذي طلب عدم الكشف عن هويته الحقيقية: «هذا ما كسبته من مواقع الأخبار المزيفة. كنت أحصل على نحو 200 يورو (230 دولاراً) في الشهر... والقليلون يحصلون على هذا المبلغ في البلاد»، في حديثه إلى وكالة الصحافة الفرنسية الإخبارية في بلدة فيليس التي تضم نحو 50 ألف نسمة فقط.
تعاني بلدة فيليس، التي كانت في يوم من الأيام مركزا صناعيا مقدونيا مزدهرا، من الهبوط الحاد منذ انهيار الاتحاد اليوغوسلافي السابق، وهي تكافح الآن مثل بقية أنحاء البلاد في مواجهة البطالة وانتشار موجة الهجرة الجماعية بين الشباب.
لكن قبل عامين ماضيين، ظهر مصدر جديد للدخل في تلك البلدة على نحو غير متوقع عندما عرض المستثمرون المال على السكان المحليين في مقابل إنتاج القصص الإخبارية لدعم دونالد ترمب الذي كان يخوض حملة انتخابية كي يصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية، وفق ما نشر موقع «ستار» الإخباري مؤخرا.
وظهرت إثر ذلك المئات من المواقع الإلكترونية وصفحات «فيسبوك» المختلفة المنطلقة من خوادم بلدة فيليس المقدونية بهدف وحيد وهو تشويه معارضي دونالد ترمب من الحزب الديمقراطي مثل هيلاري كلينتون أو سلفه باراك أوباما.


مقالات ذات صلة

«بي بي سي» ستطعن في دعوى ترمب القضائية بشأن مقاطع معدلة من خطابه

أوروبا شعار هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) على مكتبها في لندن (أ.ف.ب)

«بي بي سي» ستطعن في دعوى ترمب القضائية بشأن مقاطع معدلة من خطابه

قالت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، اليوم (الثلاثاء)، إنها ستطعن في دعوى قضائية رفعها الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضدها بسبب مقاطع معدلة من خطاب له.

«الشرق الأوسط» (لندن )
أوروبا شعار هيئة البث الخارجية الألمانية (دويتشه فيله) كما يظهر على مقرها الرئيسي في برلين (د.ب.أ)

روسيا تصنف «دويتشه فيله» الألمانية «منظمة غير مرغوب فيها»

أعلنت روسيا تصنيف هيئة البث الخارجية الألمانية (دويتشه فيله) «منظمة غير مرغوب فيها».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
يوميات الشرق يتوّج مسار «التميز الإعلامي» المنتجات النوعية التي تُصاغ بروح إبداعية وفق أعلى المعايير المهنية (موقع المنتدى)

«الجائزة السعودية للإعلام» تطلق مسار «التميّز» للاحتفاء بالأعمال الوطنية

أطلقت «الجائزة السعودية للإعلام 2026» مسار «التميّز» المخصَّص للاحتفاء بالأعمال التي جسّدت الهوية الوطنية، وارتقت بالرسائل الاتصالية للمناسبات الكبرى في البلاد.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الرحيل حدث لكنَّ الحضور لم يغب يوماً (الشرق الأوسط)

«عشرون» جبران تويني الذي مضى في طريقه حتى النهاية

كان الاحتفاء بجبران تويني مواجهة متجدّدة مع معنى أن يصرّ أحدهم على قول «لا» في مرحلة انتشرت فيها الـ«نعم» الرخوة...

فاطمة عبد الله (بيروت)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ف.ب) play-circle

«تنطوي على خيانة»... ترمب يصف تقارير إعلامية بشأن صحته بـ«التحريضية»

انتقد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشدة وسائل إعلام طرحت تساؤلات حول وضعه الصحي، واصفاً تقاريرها بأنها «تحريضية، وربما تنطوي على خيانة».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE
TT

«نتفليكس» و«باراماونت» تتسابقان لشراء «ورنر بروس»

epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue.  EPA/HANNIBAL HANSCHKE
epa12579810 The app logos of Netflix, Warner Brothers and Paramount are seen on a smartphone display in Berlin, Germany, 09 December 2025. Following Netflix's 82 billion dollars offer, the next major bid for Warner Bros. has arrived: Paramount wants to raise 108 billion dollars for the company. Now, an expensive bidding war between the two giants could ensue. EPA/HANNIBAL HANSCHKE

تعيش هوليوود واحدة من أكثر لحظاتها اضطراباً منذ عقود، بعدما تحوّلت صفقة الاستحواذ على «ورنر بروس ديسكفري» إلى مواجهة مفتوحة بين عملاق البث «نتفليكس» من جهة، والتحالف الذي تقوده «باراماونت – سكاي دانس» برئاسة ديفيد إليسون (نجل مؤسس «أوراكل» الملياردير لاري إليسون)، المدعوم بثروات هائلة وشبكة نفوذ سياسية، من جهة أخرى.

ورغم أن ظاهر المعركة تجاري بحت، فإن جوهرها يتجاوز حدود صناعة الترفيه ليصل إلى توازنات القوة الإعلامية في الولايات المتحدة، وإلى مقاربات البيت الأبيض التنظيمية، وربما حتى إلى علاقة الرئيس دونالد ترمب بعدد من هذه المؤسسات.

Paramount, Netflix and Warner Bros logos are seen in this illustration taken December 8, 2025. REUTERS/Dado Ruvic/Illustration

أهمية «ورنر بروس»

تعد «ورنر بروس» إحدى أثقل القلاع الثقافية والإعلامية في العالم. فإلى جانب تاريخها السينمائي العريق، تمتلك الشركة واحدة من أضخم مكتبات المحتوى التي تضم أعمالاً من «هاري بوتر» و«دي سي كوميكس» و«غيم أوف ثرونز»، إضافة إلى شبكة «إتش بي أو» ومحفظة تلفزيونية واسعة. والسيطرة عليها تمنح مالكها ثلاث ركائز جوهرية:

• محتوى ضخم عالي القيمة قادر على تغذية منصات البث لعقود مقبلة.

• حقوق بث وتوزيع دولية تتيح توسعاً كبيراً في الأسواق العالمية.

• تكامل رأسي كامل يجمع بين الإنتاج والتوزيع والبث، ويخلق قوة سوقية استثنائية.

من هنا، فإن فوز «نتفليكس» أو «باراماونت» بالاستوديو يعني تغيّراً جوهرياً في المشهد العالمي، وظهور كيان يتجاوز في وزنه معظم الشركات الإعلامية الحالية.

"باراماونت" تخوض سباقاً مع "نتفليكس" لشراء "ورنر بروس" (أ.ف.ب)

صفقة نتفليكس و«قلق» البيت الأبيض

أعلنت «نتفليكس» قبل أيام التوصل إلى اتفاق مبدئي لشراء معظم أصول «ورنر بروس ديسكفري» مقابل 83 مليار دولار (عرضت فيها 27.75 دولار للسهم)، مع إبقاء «سي إن إن» والقنوات الإخبارية والرياضية ضمن شركة مستقلة تدعى «ديسكفري غلوبال».

عدّ كثيرون الخطوة منطقية: توحيد أكبر منصة بث في العالم مع واحد من أضخم الاستوديوهات، ما يخلق عملاقاً يصعب منافسته. لكن العامل السياسي دخل ساحة المعركة بقوة. فقد صرّح الرئيس ترمب بأنه سيكون «منخرطاً» في تقييم الصفقة، ملمّحاً إلى أن الحصة السوقية لـ«نتفليكس» قد تشكل «مشكلة».

ورغم ثنائه على تيد ساراندوس، الرئيس التنفيذي المشارك للمنصة، فإن تلويحه بالتدخل التنظيمي ألقى ظلالاً من الشك على الصفقة، خصوصاً أن عرض «نتفليكس» يجمع بين النقد والأسهم، ما يعرّضه لتدقيق احتكاري واسع.

باراماونت.. عرض «عدائي» ونقد أكثر

لم تتأخر «باراماونت – سكاي دانس» في الرد. فبعد ساعات من إعلان «نتفليكس»، أطلقت عرضاً عدائياً مباشراً للمساهمين بقيمة 108.4 مليار دولار، وبسعر 30 دولاراً للسهم، أي أعلى بكثير من عرض منافستها.

ويمتاز عرض «باراماونت» بأنه أكثر نقداً وتمويلاً مباشراً، مدعوماً من ثروة عائلة إليسون وصناديق «ريدبيرد» و«أفينيتي بارتنرز»، إضافة إلى ثلاثة صناديق سيادية عربية (السعودية، الإمارات، قطر) تشارك بتمويل بلا حقوق حوكمة. ووفقاً لمصادر في الشركة، فإن عرضها «أكثر يقيناً وسرعة في التنفيذ»، مقارنة بعرض «نتفليكس» الذي يتوقع أن يواجه تدقيقاً احتكارياً وتنظيمياً معقداً.

البعد السياسي للصراع

على الرغم من محاولة الطرفين الظهور وكأن معركتهما تجارية بحتة، فإن السياسة حاضرة بكل ثقلها. ويلعب جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترمب، دوراً محورياً بصفته شريكاً مالياً في عرض «باراماونت» عبر «أفينيتي بارتنرز». وتحدثت تقارير بريطانية عن وعود من «باراماونت» بإجراء تغييرات جذرية في «سي إن إن» في حال فوزها، وهو ما يمنح الصفقة بعداً سياسياً حساساً.

في المقابل، ينتقد ترمب «باراماونت» و«سي بي إس» التابعة لها بسبب خلافات مع برنامج «60 دقيقة». ومع ذلك، صعّد ترمب هجومه المباشر على «سي إن إن»، مطالباً بتغيير مالكيها كجزء من أي صفقة لبيع «ورنر». وقال في اجتماع بالبيت الأبيض: «لا أعتقد أنه يجب السماح للأشخاص الذين يديرون (سي إن إن) حالياً بالاستمرار. يجب بيعها مع باقي الأصول». كما أكد أنه سيشارك بنفسه في قرار الموافقة على الصفقة، في خروج غير مألوف عن الأعراف التنظيمية.

هذا التناقض يكشف عن صراع مفتوح على النفوذ الإعلامي، قد يؤثر على القرار النهائي أكثر من معايير الاحتكار ذاتها، رغم أن اكتمال أي من الصفقتين، سيؤدي إلى ولادة عملاق إعلامي فائق.

منصتان فائقتان

اندماج «نتفليكس ورنر بروس» سيخلق أكبر منصة بث ومكتبة محتوى في العالم، تفوق «أمازون برايم» و«ديزني» مجتمعتين في حجم الاشتراكات والمحتوى الأصلي والحقوق. أما اندماج «باراماونت ورنر بروس» فسيكوّن أكبر استوديو سينمائي - تلفزيوني متكامل، يضم «سي بي إس» و«باراماونت» و«إيتش بي أو» و«سي إن إن» (في حال لم تُفصل)، ما يجعله النسخة الحديثة من «استوديو هوليوودي شامل». وسيعد الكيان الناتج عن أي من الصفقتين الأكبر عالمياً في مجال الإعلام والترفيه، لكن بدرجات مختلفة: «نتفليكس» ستتربع على قمة البث، و«باراماونت» على قمة الإنتاج التقليدي والخبري.

لكن المخاطر كبيرة أيضاً. فوفق محللين، قد يبتلع الاستوديو إدارة «نتفليكس» ويستهلك طاقاتها، بينما يخشى البعض من تراجع نوعية المحتوى إذا خضعت المكتبة الضخمة لمنهج المنصة القائم على الكميات الكبيرة.

ويتفق خبراء على أن كلا العرضين يواجه عوائق تنظيمية ضخمة، لكن الخطر الأكبر ليس تنظيمياً، بل سياسي، كما قال وليام باير، المدير السابق لقسم مكافحة الاحتكار في وزارة العدل. وقال لصحيفة «واشنطن بوست»: «المشكلة الحقيقية هي إن كانت القرارات ستُبنى على اعتبارات قانونية أم على مصلحة الرئيس».

بالنسبة لمحطة «سي إن إن» التي يناهضها ترمب علناً، فستكون مع عرض «نتفليكس»، جزءاً من شركة منفصلة لديها استقلال أكبر، بعيداً عن الصراع السياسي. وهو ما يعدّه كثير من العاملين فيها مخرجاً آمناً، بعد تخوفهم من احتمال أن تقود «باراماونت»، المتجهة نحو توجّهات محافظة، عمليات تغيير واسعة فيها. ومع ذلك، من الناحية الاقتصادية، سيكون مستقبل «سي إن إن» في شركة صغيرة تحدياً قد يقود إلى تقشف أكبر.

وفي النهاية، قد تكون القرارات السياسية هي العامل الحاسم في تحديد من سيضع يده على إرث «ورنر بروس» العريق.


قرارات «يوتيوب» حول «مراقبة المحتوى» تثير جدلاً متصاعداً

شعار «يوتيوب»         (د.ب.أ)
شعار «يوتيوب» (د.ب.أ)
TT

قرارات «يوتيوب» حول «مراقبة المحتوى» تثير جدلاً متصاعداً

شعار «يوتيوب»         (د.ب.أ)
شعار «يوتيوب» (د.ب.أ)

أثارت قرارات «يوتيوب» بشأن «مراقبة المحتوى» بالاعتماد على «نظام الإشراف القائم على الذكاء الاصطناعي في المنصة»، جدلاً متصاعداً بين صُنّاع المحتوى، بعد تكرار حالات الإغلاق المفاجئ لقنوات بـ«تهم الممارسات الخادعة وعمليات الاحتيال»، دون ردود واضحة من المنصة حول الأسباب. إذ يأتي الرد على الطعون بشكل «نمطي جاهز»، مما يعرّض قنوات بارزة للاختفاء بعد سنوات من الجهد.

واللافت أن بعض حالات حجب القنوات انتهت باستعادتها بعد لجوء صُنّاع المحتوى إلى إثارة «ضجة» على منصات التواصل الاجتماعي الأخرى، حسبما رصد «سيرش إنجين جورنال». من جانبها، نفت «يوتيوب»، عبر مدونتها، اتهامات «عدم الدقة»، وقالت إنها «لم ترصد أي مشكلات واسعة النطاق في قرارات إغلاق القنوات، وإن نسبة صغيرة فقط من إجراءات الإنفاذ يتم التراجع عنها».

ويرى المتخصص في الإعلام الرقمي بالإمارات، تاج الدين الراضي، أن «يوتيوب» منصة لها استراتيجية خاصة مقارنةً بالمنصات الأخرى. وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «(يوتيوب) ارتبطت بالمحتوى الغني والعميق والفيديو الطويل، ومن ثم فإن أي تطوير في المنصة يجب ألا يخترق هويتها». وأضاف أن «(يوتيوب) ليست منصة تصفّح سريع بلا مضمون، فما يميزها هم صُنّاع محتوى استثمروا وقتاً وجهداً وإنتاجاً».

وعن توسّع «يوتيوب» في استخدام الذكاء الاصطناعي في «مراقبة المحتوى»، قال الراضي: «هذا الاتجاه من (يوتيوب) هو أمر مفهوم في إطار تطوير إدارة المنصة، لكن بشرط أساسي، ألا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى نسخة جديدة من (السباق وراء السرعة) على حساب جوهر (يوتيوب)». وأشار إلى أن «أي نموذج رقابي آلي يحمل هامش خطأ عالي المستوى، وعملياً قد لا يكون عادلاً، وهنا تكلفة الخطأ كبيرة، لأنها منصة مهنية أكثر منها منصة عبور سريع».

وأثار الراضي خلال حديثه شعوراً بـ«عدم الأمان لدى صُنّاع المحتوى على (يوتيوب)» وتأثير هذه القرارات على الاستثمار في المنصة. وقال إن «مناخ عدم الأمان يدفع (اليوتيوبرز) نحو محتوى أكثر تحفظاً وأقل عمقاً، ويضعف استعدادهم للاستثمار طويل الأمد في (يوتيوب)، لأن مستقبلهم يصبح مرهوناً بقرار آلي غير متوقع».

وتحدث موقع Dexerto الإنجليزي عن حالة صانع محتوى يملك آلاف المشتركين، تم حظره بسبب تعليق لصانع المحتوى كتبه من حساب آخر عندما كان عمره 13 عاماً. ولاحقاً اعتذرت «يوتيوب» وأبلغته أن الحظر كان خطأ من جانبها.

وأعلنت «يوتيوب» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن برنامج تجريبي باسم «الفرص الثانية» يسمح لبعض المبدعين بإنشاء قنوات جديدة إذا استوفوا شروطاً محددة، وكانت قنواتهم قد أُغلقت منذ أكثر من عام، إلا أن البرنامج لا يعيد الفيديوهات أو المشتركين المفقودين.

من ناحية أخرى، أشار الرئيس التنفيذي لـ«يوتيوب»، نيل مواهان، في مقابلة مع مجلة «تايم»، في ديسمبر (كانون الأول) الجاري، إلى «نية الشركة توسيع أدوات الإشراف بالذكاء الاصطناعي». وقال إن «(يوتيوب) ستمضي قدماً في توسيع الإنفاذ بالذكاء الاصطناعي رغم مخاوف المبدعين».

ويعتقد الصحافي المصري، المدرّب المتخصص في الإعلام الرقمي، معتز نادي، أن النموذج الأنسب ليس اختياراً بين مراجعة بشرية أو شفافية خوارزميات تعلن عنها منصة «يوتيوب»، بل معادلة هجينة تجمع أيضاً الذكاء الاصطناعي. وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «ذلك يتحقق من خلال الفرز أولاً وفق معايير واضحة، لكن مع مراجعة بشرية إلزامية تشرح سبب المخالفات والبنود التي تعرضت للانتهاك في السياسة الخاصة بالموقع وكيفية تقديم استئناف (ضد قرارات الحظر)».

وتعليقاً على تصريح رئيس «يوتيوب» بأن الشركة ستواصل توسيع استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، قال معتز نادي إن «العلاقة المقبلة مع صُناع المحتوى ستكون على المحك، فالمنصة تريد الـAI (الذكاء الاصطناعي) لأنه سلاحها لتنقيح كل المحتوى في ظل العدد الهائل من الحسابات».

وأضاف أن «صُنّاع المحتوى أمام سيناريو مواصلة العمل على منصة (يوتيوب) للحصول على مزيد من الأرباح والانصياع لسياساتها وبنودها، أو التفكير في الهجرة لمنصة تواصل اجتماعي أخرى، لكن يبقى هاجس المكاسب حاضراً، فالكل يبحث عن زيادة موارده، والكنز هنا هو الجمهور بعدد مشاهداته، ومن ثم سيكون الربح هو لغة التعامل بينهما».


بسّام برَّاك... عاشق العربية وحارسها أوصى بتكريمها في جائزة

أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
TT

بسّام برَّاك... عاشق العربية وحارسها أوصى بتكريمها في جائزة

أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)
أوصى زوجته دنيز بإطلاق جائزة خاصة باللغة العربية (الشرق الأوسط)

أقفل الإعلامي اللبناني الراحل بسّام برَّاك باب العربية الفصحى وراءه ومشى. أصدقاؤه وزملاؤه، عندما تسألهم من يرشحون لحمل إرثه، يردّون: لا أحد. حبّه للعربية الفصحى كان يسري في دمه. أبحر في مجالها الواسع وغاص في معانيها حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته. ألقابه ترتبط ارتباطاً مباشراً بها، وهي كثيرة. فهو «الأستاذ» و«المعلّم» و«عاشق اللغة» و«حارسها». كثيرون من أهل الإعلام والصحافة يعدّونه شخصية لن تتكرر في لبنان. وكان برَّاك قد رحل بعد صراع مع المرض عن عمر ناهز الـ53 عاماً في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

حالة العشق هذه لم يكن يخفيها عن أحد. يفتخر بإجادة العربية وبالتحدث بها في أي مكان ومناسبة. حتى عندما يحاور أولاده في البيت كان يتكلّم معهم بالفصحى، وهو على يقين بأن زرع بذور العربية في أعماقهم، لا بدّ أن تتفتّح براعمها عند الكبر.

الإعلامية لينا دوغان رافقته في مشوار إعلامي طويل (الشرق الأوسط)

جائزة بسام برَّاك للغة العربية

حلم الإعلامي الراحل بتنظيم جائزة يكرّم من خلالها اللغة المغرم بها. فهو تربّى في منزل يهوى أفراده، من والدين وأخوة، العربية. نشأ على حبها والإعجاب بها. حاول أكثر من مرة إطلاق الجائزة، غير أن ظروفاً عاكسته. وعندما أصابه المرض وبدأت صحته تتراجع، أوصى زوجته دنيز بأن تنفذها بعد مماته.

تقول دنيز لـ«الشرق الأوسط»: «كان يطرب للعربية فيقرأها بنهم، ويتحدث بها بشغف. كانت فكرة الجائزة تراوده دائماً. وعندما مرض أوكل هذه المهمة لي. وسنعلن عن هذه الجائزة في الذكرى السنوية الأولى لوفاته، ونقدمها لمن يستحقها».

المناسبة الثانية التي سيتم تكريم بسام برَّاك خلالها تقام في 18 ديسمبر (كانون الأول)، ويصادف اليوم العالمي للغة العربية. تنظّم مدرسة العائلة المقدسة التي كان أستاذ الصفوف العربية فيها، يوماً كاملاً لاستذكاره.

كان الراحل برّاك يلقب بـ"عاشق اللغة العربية وحارسها" (الشرق الأوسط)

بسام الزميل الخلوق

عندما تسأل أصدقاء الراحل بسام برَّاك عنه تأتيك أجوبة متشابهة، وجميعها تصب في خانة «الزميل الخلوق». يؤكدون كذلك أنه إعلامي متميّز بشدة حبّه للعربية الفصحى.

الإعلامية لينا دوغان التي رافقت برَّاك في مشوارٍ مهني طويل، تعدّه مثلها الأعلى في اللغة العربية. وتضيف لـ«الشرق الأوسط»: «كان دقيقاً جداً في ملاحظاته للأخطاء في العربية. فعندما تسمع أذنه أي لفظ أو إلقاء أو خطأ يقترفه مذيع أخبار، يبادر إلى تصحيحه بشكل تلقائي».

وعن التأثير الذي تركه بسام على الذاكرة الجماعية من خلال اللغة، تردّ: «لقد قام بخطوة استثنائية في هذا الخصوص. أطلق مسابقة (الإملاء باللغة العربية). ووضع حجر الأساس للغة نحكيها، ولا نجيد قواعدها ولا كتابة ألفاظها. حتى أنه كان من النادر جداً في المسابقة المذكورة، أن ينجح أحد فيها، مع أن المتسابقين من الطراز الأول، ويتألفون من دكاترة واختصاصيين في العربية، إضافة إلى أدباء ووزراء ونواب».

تروي لينا دوغان أنه لبالغ ولعه بالفصحى، كان يتكلمها مع أطفاله. «تخيلي كان عندما يتوجه لابنه الصغير الذي يؤدي بالفرنسية أغنية طفولية معروفة (Tape les mains) يقول له: (صفّق صفّق). كان حارساً للغة، يعدّها أساسية في هويتنا العربية». وتضيف: «لقد كان إعلامياً مثقفاً جداً ومهذباً، خلوقاً. وهو ما بتنا نفتقده اليوم في مهنتنا».

وعما تعلّمته منه تردّ: «الكثير وأهمها الدقّة في العمل. ولا سيما قراءة النص أكثر من 10 مرات كي أتقّن إذاعته. كما تعلمت منه المثابرة في العمل. فبسام كان يملك تقنية إلقاء مثالية. ومرات كثيرة يرتجل مباشرة على المسرح في مناسبة يطلب منه تقديمها».

الإعلامي جورج صليبي كان رفيق دربه في المهنة وفي حب فيروز (الشرق الأوسط)

فيروز ألهمته فرحل وهو يردد «إيماني ساطع»

علاقة وطيدة كانت تربط بين بسام برَّاك والسيدة فيروز. وكان يردد بأنه عشق العربية من خلالها. كان صوتها يلهمه للبحث في هذه اللغة، وكذلك إتقان مخارج الحروف وعملية تحريك النص. آخر مشوار للقائها، قام به بمناسبة تقديم التعازي لفيروز بوفاة نجلها زياد الرحباني، رافقه فيه زميله وصديقه الإعلامي جورج صليبي. وتشير زوجته دنيز إلى أنه كان على علاقة وثيقة بـ«سفيرتنا إلى النجوم». «كانا يتبادلان الهدايا في المناسبات، ومن بينها ربطة عنق أوصاني بأن يرتديها عندما يرحل. وكان يزورها بين وقت وآخر. أما أغنيتها (إيماني ساطع) فقد بقي يسمعها حتى لحظاته الأخيرة». وتتابع: «صوت فيروز كان يرافقنا دائماً، في البيت كما في السيارة، وفي أي مناسبة أخرى. فلا يتعب ولا يملّ من سماعه وكأنه خبزه اليومي».

ولكن من ترشّح زوجته ليكمل طريق بسام في العربية؟ تجاوب: «في الحقيقة لا أعرف من يمكن أن يحمل هذا الإرث. بسام كان يبدي إعجابه بكثيرين يجيدون العربية الفصحى قراءة ولفظاً، ومن بينهم زملاء كالإعلاميين يزبك وهبي وماجد بو هدير وجورج صليبي ومنير الحافي والمؤرّخ الدكتور إلياس القطار وغيرهم، وجميعهم ضليعون بالعربية ويحبونها».

أصدر بسّام برَّاك كتاباً واحداً من تأليفه بعنوان «توالي الحبر»، وتضمن صوراً أدبية كثيرة، وضعها تحت عنوان الحبر، ومن بينها «حبر الحب» و«حبر الوطن» و«حبر فيروز». كما كتب مؤلفاً بعنوان «أسطورة المال والأعمال»، يحكي فيه سيرة عدنان القصار كرجل أعمال وسياسي. والجدير ذكره أن الإعلامي الراحل تأثر كثيراً بأستاذه الراحل عمر الزين. فهو من وضعه على سكة الفصحى المتقنة خلال عمله الإذاعي عبر أثير «صوت لبنان». وعندما رحل الزين أوصى بمنح برَّاك مكتبته المؤلفة من مجلدات ومؤلفات عربية، وكذلك من مدونات، وقصاصات، ورقية وخواطر. واليوم يترك بسام خلفه، إرثين، أحدهما يخصه، والآخر ورثه عن عمر الزين.

صداقة وزمالة وذكريات مع بسام برَّاك

كل من عرف الراحل بسام برَّاك عن قرب من زملاء وأصدقاء، يحدثك عنه بحماس. فالإعلامي يزبك وهبي يعتبره نابغة في مجاله، وكذلك زافين قيومجيان الذي قال عند رحيله إن اللغة العربية أصبحت يتيمة، بينما وصفه الرئيس اللبناني العماد جوزيف عون بأنه كان «الصحّ دوماً».

حبّه للعربية الفصحى كان يسري في دمه، فأبحر في مجالها الواسع وغاص في معانيها حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته

من جهته، يقول زميله جورج صليبي الذي بقي على اتصال به حتى لحظاته الأخيرة، بأنه الزميل الصديق والوفي. كانت تربطه به علاقة مميزة، عمرها 33 سنة، منذ عملهما سوياً في إحدى الإذاعات اللبنانية في أوائل التسعينات. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لجيلنا كان الراحل برَّاك مرجعنا الوحيد للعربية. نتصل به ونستفهم منه حول كيفية تحريك عبارة ما. وحتى عن معنى كلمة تصادفنا لأول مرة. كان موسوعة متنقلة للغة العربية. وأعتبره مقاتلاً شرساً في سبيلها».

ويستطرد صليبي: «كان يبالغ أحياناً في اعتماده الفصحى في أي زمان ومكان. وأذكر مرة عندما أهداني ربطة عنق، اتصلت به لأشكره، قال لي: لا نسميها كرافات أو ربطة عنق، بل (الإربة). فلا أحد يضاهيه في ثقافته وغوصه في هذه اللغة».

ترافق صليبي وبرَّاك في حبّهما لفيروز. الاثنان مولعان بها ويحبان أغنياتها ويحضران حفلاتها، فيلحقان بها أينما كانت حتى خلال تقديمها تراتيل كنائسية. «أول حفلة حضرناها معاً لفيروز، كانت في 17 سبتمبر (أيلول) من عام 1994 وسط بيروت. وبقينا نتذكر هذا التاريخ في موعده من كل عام. فيروز كانت تمثّل له العالم الذي يعشقه تماماً، كما اللغة العربية. وحتى عندما كنا نزورها سوياً، كان يخرج من عندها مفعماً بالفرح والإعجاب».

التقاه صليبي قبل 36 ساعة من وفاته: «حزن كثيراً لمصابه، فمرضه العضال أفقده القدرة على النطق. وهو ما كان يعدّه النقطة الأساسية في مهنته. فكان يحزّ في قلبه كثيراً هذا السكوت الذي ابتلي به وفُرض عليه. المرض أفقده صوته وشغفه بالإلقاء. وكان يعبّر عن هذا الأمر بلوم وعتب. وفي آخر لقاء معه كان شبه فاقد لوعيه، ولا أعرف إذا ما كان يسمعني، أخبرته عن ذكرياتي معه، وعن فيروز وأمور أخرى يحبها».

أما عن إرث بسام برَّاك اللغوي والأدبي، فيعلّق صليبي: «أرشيف غني وضخم، كان يملكه زميلي الراحل بسام. وهو تضاعف بعدما أوصى عمر الزين بتحويل مكتبته الأدبية له بعد رحيله. هذان الإرثان يجب أن يتم الاهتمام بهما من قبل مؤسسة جامعية أو ثقافية، لأن الحفاظ عليهما يفوق قدرة الفرد الواحد».