الإعلام والسياسة... علاقة تضليل وتخدير وجس للنبض

أدوات احتكرها هتلر في الحرب العالمية الثانية ثم وظفها السادات ونتنياهو وبوتين

الرئيس المصري الراحل أنور السادات يراجع الخطة الحربية ضد إسرائيل برفقة القائد العسكري سعد الدين الشاذلي  ووزير الحرب إسماعيل علي عام 1973 (غيتي)
الرئيس المصري الراحل أنور السادات يراجع الخطة الحربية ضد إسرائيل برفقة القائد العسكري سعد الدين الشاذلي ووزير الحرب إسماعيل علي عام 1973 (غيتي)
TT

الإعلام والسياسة... علاقة تضليل وتخدير وجس للنبض

الرئيس المصري الراحل أنور السادات يراجع الخطة الحربية ضد إسرائيل برفقة القائد العسكري سعد الدين الشاذلي  ووزير الحرب إسماعيل علي عام 1973 (غيتي)
الرئيس المصري الراحل أنور السادات يراجع الخطة الحربية ضد إسرائيل برفقة القائد العسكري سعد الدين الشاذلي ووزير الحرب إسماعيل علي عام 1973 (غيتي)

لم يخترع أدولف هتلر كلمة بروباغاندا؛ فهي كانت شائعة في أيامه واستخدمت كثيراً قبله خصوصاً منذ القدم، وليس بعيداً، خلال الحرب العالمية الأولى. لكنه كان الوحيد الذي طبَّقها من دون حدود، واستخدمها على نطاق واسع. في كتابه «كفاحي» الذي أنتجه وهو في السجن، قبل أن يصل إلى السلطة، يفضح هتلر كثيراً من آرائه حول الحاجة لـ«السيطرة على العقول» بهدف النجاح، عن طريق السيطرة على الإعلام. وتتعدد الأدوار التي يمكن أن تلعبها وسائل الإعلام، وتختلف تبعاً لطبيعة الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة بها. منذ نشأتها كان لوسائل الإعلام دور سياسي، واستخدمها رجال الدولة للترويج لسياساتهم، خصوصاً في أوقات الصراعات والحروب، وأحياناً كانت تُستخدَم في التضليل ونشر الإشاعات. تختلف الاستخدامات ويختلف المستخدم؛ فهناك الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي استخدم «التضليل» لينتصر على إسرائيل في حرب «يوم الغفران»، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي طوّع تغريداته ليكسب الانتخابات. وقد يكون الأكثر تفوقاً في هذه «الرياضة» الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتدخُّل روسيا في سوريا. وتغطية الإعلام له، المثال الأكبر.

يختصر المؤرخ البريطاني روبرت أنسور الذي عايش فترة النازية، استخدام هتلر للبروباغندا بالقول: «هتلر لا يضع حدوداً على كيفية استخدام البروباغندا. (فهو مقتنع بأن) الناس يصدقون أي شيء إذا تم تكراره لهم وبشكل قاطع».
عندما وصل هتلر إلى السلطة في يناير (كانون الثاني) 1933، حرص فوراً على استحداث وزارة للبروباغندا وسلَّمها لجوزيف غوبلز الذي عمل صحافياً، وبرهن لاحقاً على أنه كان من أوفى المحيطين بالزعيم النازي وبقي معه حتى النهاية.

هتلر وغوبلز... غسل الأدمغة بالآيديولوجيا النازية
من خلال وزارة البروباغندا نجح غوبلز بالسيطرة على كل مصادر المعلومات في أنحاء البلاد وأبعد، بدءاً من الصحافة بكل أشكالها، مروراً بالأفلام والمسارح والإعلانات، وصولاً إلى الكتب، من بينها كتب المدارس.
عمل غوبلز بهدفين: الأول محو أي معارضة لهتلر من خلال بث أخبار موجهة وتثبيت فكرة تمجيد القائد. والثانية إقناع الألمان بـ«برامج» وأفكار النازيين التي بدأت بـ«تفوق» العرق الآري وانتقلت إلى ضرورة التخلص ممن يشكلون عقبة أمام «نقاوة» هذا العرق، أي مَن يعانون من إعاقات جسدية وعقلية، وصولاً إلى تصوير اليهود على أنهم أقل من البشر تبريراً للمحرقة لاحقاً.
رغم أن غوبلز نفسه كان يعاني من إعاقة جسدية ويمشي أعرج، وكان يرتدي قوسا معدنيا حول رجله الأقصر من الثانية، فإن ذلك لم يمنعه من المشاركة في هندسة واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ من خلال العمل على إقناع الألمان ببرنامج «T4» الذي يستهدف من كان يعاني من إعاقات أحياناً أقل من تلك التي كان يعاني منها غوبلز نفسه.
البرنامج قتل عبره النازيون ما يقارب الـ300 ألف شخص خلال 6 أعوام انتهت بسقوطهم عام 1945، قابلته حملات ترويجية كثيرة قادها غوبلز نفسه. من أمثلة هذه الحملات منشورات عملاقة تظهر تكلفة الاعتناء بشخص لديه إعاقة مقابل ملذات يمكن صرف تلك الأموال عليها في حال لم يكن هذا الشخص موجوداً.
وعام 1941 أمر غوبلز بإنتاج فيلم «أنا أتهم» يبرر «القتل الرحيم» من خلال تصوير رجل يسعى لإقناع مسؤولين بالسماح له بإعطاء حقنة قاتلة لزوجته التي تعاني من التصلب المتعدد، لـ«تخليصها من العذاب». وفي الفيلم يواجه الرجل المسؤولين في المحاكم ويبرر أسباب القتل ويتهمهم بالقسوة والشر.
أولى غوبلز أهمية كبيرة للسينما وبقوة تأثيرها على الرأي العام وكان يقول إنها بمثابة «المقدمة للعمليات العسكرية» للنازيين.
وبالإضافة إلى قوة تأثير السينما، عرف غوبلز أيضاً قوة تأثير الإذاعة في ذلك الحين لنشر رسالة النازيين. فأمر بشراء ملايين أجهزة البث (الراديو) وبيعها بأسعار بخسة. وهكذا مع بداية الحرب العالمية الثانية، كان 70 في المائة من المنازل في ألمانيا النازية يمتلكون جهاز راديو تُبَثّ عليه خطابات هتلر.
وبعد أن بدأ المستمعون يشعرون بالممل من سماع الخطابات على مدار الساعة، اضطر النازيون لإدخال برامج ترفيهية موسيقية للحفاظ عليهم. لاحقاً اعترف غوبلز بأهمية «الراديو»، وكتب في يومياته: «ما كان بإمكاننا الوصول للسلطة أو استخدامها بالشكل الذي فعلنا من دون الراديو… الراديو أوصلنا إلى كل الأمة بغضِّ النظر عن المستوى الاجتماعي أو المرتبة أو الدين».
الكتب المدرسية والتعليم المبكر كانت أيضاً من أسس البروباغندا النازية. فغوبلز وهتلر حرصا على «تربية» أجيال على الأفكار النازية منذ البداية، وكانوا يرسلون أوامر وإرشادات للمعلمين تتعلق خاصة بمواد «البيولوجيا» التي حاولوا عبرها إقناع الأطفال بقوانين نورمبيرغ، التي تهدف للحفاظ على «الدم الألماني» وتمنع الاختلاط باليهود.

التسريبات... سبب انتصار السادات وجسَّ بها مبارك نبض الشارع
عدة أمثلة حية وتاريخية تؤكد ارتباط الإعلام بالسياسة، ولعل أبرز الأدوار السياسية التي لعبها الإعلام في مصر كانت قبيل حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، حيث استخدم الرئيس الأسبق الراحل أنور السادات الإعلام في تضليل إسرائيل، وخداعها، لإخفاء موعد الحرب. وكتب الدكتور محمد عبد القادر حاتم، وزير الإعلام المصري الأسبق، الذي كان مسؤولاً عن الإعلام وقت الحرب، في شهادته، أن «الإعلام نجح في إخفاء قدرتنا على الحرب وحققنا المفاجأة الاستراتيجية».
نجاح هذه الخطة أكدته نتائج الحرب، وكذلك شهادة قادة إسرائيل أنفسهم، حيث قال الجنرال الإسرائيلي إيلي زعيرا، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية خلال الحرب، في كتابه «حرب يوم الغفران»، إن كل موضوعات الإعلام المصري كانت حملة خداع من جانب السادات، أو من شخص ما بجواره، وذلك ليعتبر أكبر نجاح لمصر في حرب «يوم الغفران»، ناقلاً عن الكاتب الصحافي المصري محمد حسنين هيكل، قوله إن «هناك تعليمات صدرت للجهاز الإعلامي والسياسي المصري لتضليل العدو حول موعد الحرب، وتم التنسيق بين وزارات الإعلام والخارجية والمخابرات الحربية قبل الحرب بـ6 أشهر».
وفي كتابه «دور الإعلام في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية»، قال حاتم: «عندما كلفني السادات قبل حرب أكتوبر بأن أكون مسؤولاً عن الحكومة، وأن أنوب عنه في رئاسة مجلس الوزراء، كان قراري الأول هو عدم الإدلاء بأي تصريح مباشر أو تلميح عن الأداء أو الاستعداد للحرب، وانطبق ذلك على العسكريين والسياسيين أيضاً». وأشار إلى أن الخطة الإعلامية «ركَّزَت على الإيحاء بأن مصر تتجه نحو العمل والنضال السياسي، وتم تسريب أخبار بأن مصر تؤمن بالتسوية السلمية في الشرق الأوسط... كما سُرّبت أخبار بأن مصر أعلنت حالة الطوارئ، ونُشِر الخبر في لبنان ووسائل الإعلام العالمية، لتعلن إسرائيل التعبئة، ثم يتضح عدم صدق الخبر، الذي تكرر تسريبه أكثر من مرة، حتى اقتنعت إسرائيل أن أخبار مصر عن الحرب هي للاستهلاك المحلي». مضيفاً: «من ضمن سياسة الخداع والتمويه الإعلامي كنا نضخِّم أخباراً معينة ونقلل من أهمية أخرى»، مؤكداً «كان هدفنا إيهام إسرائيل بأن مصر جثة هامدة وهي لا تقوى على الحرب».
الكاتب الصحافي المصري، محمد علي إبراهيم، رئيس تحرير صحيفة «الجمهورية» الرسمية الأسبق، كان محرراً لشؤون الرئاسة المصرية خلال حرب 1973، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن «هناك نوعين من التضليل في العمل الإعلامي، إيجابي وسلبي»، مشيراً إلى أن «سياسة التضليل الإعلامي التي اتُّبعت خلال الحرب، كانت تضليلاً إيجابياً، حيث تم نشر أخبار بأن ضباط الجيش يستعدون للسفر لأداء مناسك الحج، وأخبار أخرى عن فتح باب حجز وحدات سكنية للضباط»، مضيفاً: «هذه الخطة نجحت بدرجة كبيرة، وتمكَّنَت مصر من مفاجأة إسرائيل، حتى إننا عندما دخلنا المواقع العسكرية الإسرائيلية في اليوم الرابع من الحرب وجدناهم نائمين».
وتواصل الاستخدام السياسي لوسائل الإعلام في الفترات التالية، ففي عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، استخدم الإعلام لتوجيه رسائل معينة للغرب، أو لتسريب معلومات معينة لجس نبض الشعب بشأن قرارات مهمة، سواء كان ذلك بشكل متعمد أو غير متعمَّد. وقال الدكتور معتز بالله عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «تسريب الأخبار قبل اتخاذ قرارات مهمة كرفع الأسعار مثلاً، كان متبعاً في فترات حكم سابقة في مصر، لكن مصر الآن لا تستخدم سياسة جس النبض».
وأوضح إبراهيم، أن «وزير الإعلام المصري الأسبق صفوت الشريف كان رجل مخابرات، واستخدم الإعلام لخدمة أغراض الدولة السياسية، فكانت تصدر تعليمات لنا بالهجوم على دولة معينة أو كتابة مقالات في اتجاه معين، وفي فترات محددة»... ومن بين الأمثلة على ذلك «قيام الشريف بتسريب أخبار للإعلام الخاص بأن مبارك لن يحضر القمة العربية في بيروت عام 2002».
بينما أشار الدكتور صفوت العالم، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة إلى أن «الإعلام يقوم بمجموعة من الوظائف، بعضها وظائف مطلوبة، وبعضها وظائف كامنة»، وقال لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدولة استخدمت الإعلام في بعض الفترات بهدف تخدير وإلهاء الشعب عن المشكلات الحقيقية، عبر التركيز على برامج التسلية والترفيه والرياضة، وهو ما استمرَّ في صور مختلفة إلى الآن، حيث يتم فتح قنوات رياضية وإغلاق القنوات الإخبارية».
وتعاني مصر خلال الفترة الأخيرة من انتشار الإشاعات، حتى إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قال في أحد المؤتمرات، إن «الدولة رصدت 21 ألف شائعة في 3 شهور»، وبناء على ذلك أنشأت الحكومة المصرية مركزاً إعلامياً هدفه الرد على الإشاعات، في الوقت الذي تشهد فيه الساحة الإعلامية ممارسات احتكارية لصالح أجهزة الدولة المصرية».
وقال عبد الفتاح إن «الإشاعات هي نتيجة لحرب بين طرفين كل طرف لديه مصالح يريد تحقيقها على حساب الآخر، ولها 3 أهداف؛ إما الاستكشاف، أي قياس رد فعل طرف ما على قرار أو تصرف معين، أو الاستنزاف من خلال خلق حالة من التوتر والشوشرة وعدم اليقين للتشكيك في أداء الدولة والحكومة، أو التوجيه نحو سلوك معين»، مشيراً إلى أن «نشر شائعة تقول إن ثروة مبارك تجاوزت 70 مليار دولار، كان هدفه تحريك الجماهير للمشاركة في انتفاضة 25 يناير».

«فيك نيوز» على طريقة نتنياهو... انتخابات وجولة لاتينية
خسرت إسرائيل حرب «يوم الغفران» نتيجة لحنكة السادات في تسييس الإعلام، إلا أن حاضرها اختلف، حيث أصبحت الحكومة الإسرائيلية متمكنة من التلاعب الإعلامي، تستغله لمصلحتها، ضد العرب. ففي مثل هذه الفترة من العام الماضي (2017)، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يقوم بزيارة وصفت بأنها تاريخية، إلى ثلاث دول في أميركا اللاتينية، هي: الأرجنتين وكولومبيا والمكسيك. تاريخية لأنه أول رئيس وزراء إسرائيلي يصل إلى هذه البلدان البعيدة.
قبل أن يخلد إلى النوم، غرد على صفحته في «تويتر»، التي يتابعها مليون شخص، وصفحته في «فيسبوك»، التي يتابعها أكثر من مليوني شخص، بالكلمات التالية: «انتبهوا! إنهم لا يريدونكم أن تعرفوا. فأنا في زيارة تاريخية لأميركا اللاتينية. نحو ربع مليار شخص يتابعون أخبار زيارتي من خلال وسائل الإعلام هناك، قسم كبير منها بالبث المباشر. أما الإعلام عندنا، فلا يهتمون بالزيارة، لا يوجد عندنا بث حي لزيارة رئيس الحكومة».
وكما كان متوقعاً، راحت الشبكات الاجتماعية باللغة العبرية تغلي كالمرجل. أنصار نتنياهو راحوا يهاجمون وسائل الإعلام الإسرائيلية ويشتمونها ويحرِّضون عليها وعلى مراسليها، من خلال ذكر عدد من أسماء «الخونة» ويتهمونهم بأنهم ينشرون أخبار الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أكثر من أخبار نتنياهو... إلخ.
لم تكن هذه المرة الأولى التي ينشر فيها نتنياهو الأكاذيب، بهذه الطريقة التحريضية. فقد سبق له أن فعلها كثيراً في الماضي. أشهرها في يوم مشهود، هو يوم الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية بتاريخ 17 مارس (آذار) 2015، عندما أجرى مساعدوه استطلاع رأي بين الناخبين ووجدوا أن الاتجاه يسير نحو تقارب شديد بين عدد الأصوات التي سيحصل عليها حزبه الليكود وبين الأصوات التي سيحصل عليها منافسه، تكتل المعسكر الصهيوني. وحسب نتائج الاستطلاع سيفوز كل منهما بـ24 مقعداً مع تفضيل ما لمنافسيه. فاستلَّ من كُمّه آخر سلاح، كان قد أعده له مستشاره الاستراتيجي القادم من أميركا. وهو: «التحريض على الناخبين العرب».
وهكذا كتب في تغريدته، التي غيرت مجرى الانتخابات وربما التاريخ: «حكم اليمين في خطر. الناخبون العرب يتدفقون بكميات هائلة على صناديق الاقتراع. يجلبونهم بالباصات التي موَّلتها عناصر يسارية من أوروبا». وقد كان لهذه التغريدة تأثير مباشر على ناخبي اليمين المتطرف. فقد شاهدها 145 ألف شخص وأعجب بها 10 آلاف شخص وعملوا لها «لايك». وعلَّق عليها أكثر من ألف شخص. وقد صدقوا أن حُكمه في خطر. وأولئك الذين كانوا ينوون التصويت لأحزاب اليمين المتطرف، عدلوا رأيهم وصوَّتوا لحزب نتنياهو. وفي النتيجة ارتفع الليكود إلى 30 مقعداً وبقي منافسه بـ24 مقعداً، وهكذا عاد إلى كرسي الحكم لأربع سنوات أخرى عجاف. فقد سحب من شركائه في اليمين المتطرف 6 مقاعد (حزب المستوطنين «البيت اليهودي» خسر أربعة مقاعد وحزب ليبرمان مقعداً وحزب شاس مقعداً آخر).
وهكذا، التزييف الذي استخدمه نتنياهو أكسبه الحكم. لكن الأمر لم يُقلِق المجتمع الإسرائيلي كثيراً. كتبوا عنه وانتقدوه ولكنه، ولأنه يتعلق بالعرب، لم يتحول إلى موضوع مقلق. إلا أن تحريض نتنياهو على وسائل الإعلام وهو في أميركا اللاتينية أقلق الإسرائيليين جداً. فما بدأه بالعرب، وصل إلى صدور اليهود وعصَبِهم الحساس. فقررت وسائل الإعلام فَحْص نفسها، إن كانت فعلاً مقصِّرة بحق رئيس الحكومة وزيارته لأميركا اللاتينية، فوجدوا أنه وعلى الرغم من فارق التوقيت (إذ إن زياراته واجتماعاته في دول أميركا اللاتينية، كانت تتم في حين كان الإسرائيليون نائمين، إذ إن فارق السعات يصل إلى 10 ساعات مع الشرق الأوسط)، فإن أهم 20 وسيلة إعلام إسرائيلية نشرت 270 تقريراً عنها. وفي بقية وسائل الإعلام الإسرائيلية تم نشر 770 تقريراً عن هذه الزيارة.
وقد فضحته وسائل الإعلام ونشرت المعطيات للرأي العام، وراحت تتساءل: هل نتنياهو يكذب هكذا في جلسات الحكومة وفي لقاءاته مع قادة العالم؟ لكن الأمر لم يوقف التحريض الجماهيري على الصحافة والصحافيين. ونتنياهو، ليس فقط لم يعتذر، بل انتقل ليعدَّ وجبة أخرى من هذا التحريض. فهو واثق من أن الجمهور الذي يهمه، أي اليمين واليمين المتطرف، يسير وراءه ولا يصدق الإعلام.
اتبع نتنياهو هذا الأسلوب لأنه يعرف أن المتطرفين والعنصريين من الجمهور اليميني يقبضون هذه البضاعة ويتصرفون من خلالها. وهو يحرص على تغذيتها بهذا النوع من الأخبار الكاذبة والتعليقات التحريضية التي يغذيها بها. وكان نتنياهو قد حرص على أن يتولى وزارة الاتصالات بنفسه، إضافة إلى كونه رئيساً للحكومة ووزيراً للخارجية، إلى أن أجبرته المحكمة على التخلي عن حقيبة الاتصالات.
ومنذ سنة 2017، توجد تحت يديه صحيفة يومية مجانية تدعى «يسرائيل هيوم»، أسسها رجل الأعمال اليهودي الأميركي وصاحب شبكة الكازينوهات، شلدون إدلسون. وهو يصرف على هذه الصفحة مبلغ 22 مليون شيقل في الشهر (6 ملايين دولار). وقد اشترى لها موقع صحيفة «معاريف» في الإنترنت بثلاثة ملايين شيقل في سنة 2011. وهما صحيفتان حزبيتان لصالحه.
وأصبحت «يسرائيل هيوم» الأوسع انتشاراً في إسرائيل. وأصبحت تشكل ضائقة للصحف الأخرى. وحاول نتنياهو إبرام صفقة مع صاحب صحيفة «يديعوت أحرونوت»، نواح موزيس، بأن يخفض أعداد صحيفة «يسرائيل هيوم»، مقابل تعهد موزيس بأن يخفف من انتقادات صحيفته لنتنياهو. ولأن هذا الأمر يعتبر محظوراً في إسرائيل فقد تم فتح ملف تحقيق مع الرجلين بتهمة الرشى، وهو ما يُعرف في الشرطة باسم «الملف 2000»، الذي يضاف إلى ثلاثة ملفات فساد أخرى يتم التحقيق فيها مع نتنياهو وزوجته.

انتصارات روسيا في سوريا... بوتين يتفاخر
نتنياهو ليس الوحيد الذي أتقن اللعبة. إنما قد يتفوق عليه سياسي آخر... الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بخطاباته وتصريحاته... وظهوره الإعلامي. ولم تكن «الانتصارات» التي حققتها روسيا في الفضاء الإعلامي حول سوريا بحجم ما حققته الآلة العسكرية الروسية من «انتصارات» ميدانية لصالح النظام السوري، إذ لا تزال وسائل الإعلام الغربية تعرض وتنشر تقارير تتناول فيها ما تراه «تضليلاً إعلامياً روسياً»، وذلك رغم الكمِّ الهائل من الضخ الإعلامي الذي ترافق مع العملية العسكرية الروسية في سوريا منذ بدايتها قبل ثلاث سنوات وحتى الآن، الذي حرص خلاله «المتحدثون الرسميون» باسم المؤسسات الروسية، تدعمهم «ماكينة البروباغاندا» الرسمية العملاقة، على تصوير ما يبثونه من معلومات وتقارير على أنها «الحقيقة المطلقة القائمة على وقائع وأدلة»، وأن ما يطرحونه من أفكار تحمل «الخلاص» لسوريا والسوريين من المعاناة.
وفي جولة جديدة، وليست الأخيرة، من المواجهة الإعلامية حول سوريا، يجري التركيز حالياً بصورة خاصة على الوضع في إدلب، وذلك على خلفية مزاعم روسية بأن «مجموعات إرهابية» تقوم بتصوير وفبركة «مسرحية» هجوم كيماوي لتحميل النظام السوري المسؤولية عنه، واستغلاله من جانب الغرب ذريعة لتوجيه ضربة ضد قوات النظام.
توقفت صحيفة «نوي تسيرخر تسيتُنغ» (NZZ) السويسرية عند المزاعم الروسية بهذا الصدد، وفي تقرير عنوانه «روسيا تمدح نفسها في سوريا»، قالت إن «جميع وسائل الإعلام الروسية تبث منذ نهاية الأسبوع الماضي رسالة مفادها أن الغرب يستعد لضربات جوية استفزازية جديدة في سوريا»، ولَمّحت إلى أن مثل تلك المزاعم ربما تشكِّل مقدمة لاستخدام النظام السوري السلاح الكيماوي في إدلب، وقالت إن الأميركيين والشركة العسكرية البريطانية، التي يزعم الروس أن عناصر منها يشاركون في تصوير «مسرحية الكيماوي»، سارعوا إلى نفي الاتهامات الروسية، بينما أثارت تلك المزاعم قلق «الخوذ البيضاء» ومراقبين غربيين، ذلك أنه «بعد تحذيرات روسية مماثلة في السابق، وفق ما ترى الدول الغربية، يتم دوماً استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين، لكن من جانب النظام السوري».
من ثم أشارت الصحيفة إلى أنه مع منتصف شهر سبتمبر (أيلول)، تكون ثلاث سنوات قد مضت على التدخل العسكري في سوريا، وتتوقف بعد ذلك عن تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول تلك العملية، وتقول إن «بوتين أعلن بعد ذلك أكثر من مرة عن انتهاء تلك العملية في سوريا. إلا أنه في كل مرة يكون الكلام موجهاً للمشاهدين داخل البلاد، الذين لا يظهرون حماسة للمشاركة في حرب بعيداً خارج البلاد».
في السياق ذاته تشير (NZZ) السويسرية إلى شريط فيديو نشرته وزارة الدفاع الروسية على «يوتيوب» حول «النجاح» في سوريا، وتقول إن «الفيديو ومدته عشر دقائق، يعرض سلسلة غير منتهية من البيانات حول نجاحات العملية في سوريا منذ منتصف سبتمبر 2015 لغاية منتصف أغسطس (آب) الماضي»، إلا أن «مقطع الفيديو تجاهل المعلومات حول حجم الخسائر الروسية، كما تجاهل مشاركة شركات عسكرية روسية خاصة في القتال في سوريا. بينما يتم فيه التركيز على اكتساب العسكريين الروس الخبرة القتالية في تلك الحرب، التي شكلت فرصة لاختبار الأسلحة الروسية في ظروف حرب حقيقية». وترى الصحيفة السويسرية أن التركيز على هذا النوع من المعلومات، ومعلومات أخرى مثل «القضاء على قادة الإرهابيين» إنما هي «وسيلة لمنح المشاركة الروسية في الحرب السورية صفة شرعية».

فيليس المقدونية... هندسة الإشاعات «حرفة» أهلها

لندن: «الشرق الأوسط»

حصل جوفان على زوج من أحذية نايكي وذهب إلى عطلة في اليونان مكافأة له على المساعدة في تحويل بلدة فيليس المقدونية الصغيرة إلى مركز من مراكز الأخبار المزيفة ونشر الشائعات خلال سباق الرئاسة الأميركي لعام 2016.
قال الشاب البالغ من العمر 20 عاماً، والذي طلب عدم الكشف عن هويته الحقيقية: «هذا ما كسبته من مواقع الأخبار المزيفة. كنت أحصل على نحو 200 يورو (230 دولاراً) في الشهر... والقليلون يحصلون على هذا المبلغ في البلاد»، في حديثه إلى وكالة الصحافة الفرنسية الإخبارية في بلدة فيليس التي تضم نحو 50 ألف نسمة فقط.
تعاني بلدة فيليس، التي كانت في يوم من الأيام مركزا صناعيا مقدونيا مزدهرا، من الهبوط الحاد منذ انهيار الاتحاد اليوغوسلافي السابق، وهي تكافح الآن مثل بقية أنحاء البلاد في مواجهة البطالة وانتشار موجة الهجرة الجماعية بين الشباب.
لكن قبل عامين ماضيين، ظهر مصدر جديد للدخل في تلك البلدة على نحو غير متوقع عندما عرض المستثمرون المال على السكان المحليين في مقابل إنتاج القصص الإخبارية لدعم دونالد ترمب الذي كان يخوض حملة انتخابية كي يصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأميركية، وفق ما نشر موقع «ستار» الإخباري مؤخرا.
وظهرت إثر ذلك المئات من المواقع الإلكترونية وصفحات «فيسبوك» المختلفة المنطلقة من خوادم بلدة فيليس المقدونية بهدف وحيد وهو تشويه معارضي دونالد ترمب من الحزب الديمقراطي مثل هيلاري كلينتون أو سلفه باراك أوباما.


مقالات ذات صلة

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (إ.ب.أ)

«إيه بي سي نيوز» تدفع 15 مليون دولار لمكتبة ترمب الرئاسية لتسوية دعوى تشهير

وافقت شبكة «إيه بي سي نيوز» على دفع 15 مليون دولار لصالح مكتبة دونالد ترمب الرئاسية، لتسوية دعوى قضائية تتعلق بتصريح غير دقيق من المذيع جورج ستيفانوبولوس.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي
TT

إعلاميو فرنسا أمام معضلة البقاء مع «إكس» أو الابتعاد عنها

الصحف الفرنسية أمام التحدي
الصحف الفرنسية أمام التحدي

يرى البعض في فرنسا أن موسم رحيل «العصافير الزرقاء» يلوح في الأفق بقوة، وذلك بعدما أعلنت مجموعة كبيرة من الشخصيات والمؤسسات الإعلامية انسحابها من منصّة التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقاً).

الظاهرة بدأت تدريجياً بسبب ما وصف بـ«الأجواء السامة» التي اتسّمت بها المنصّة. إذ نقلت صحيفة «كابيتال» الفرنسية أن منصة «إكس» فقدت منذ وصول مالكها الحالي إيلون ماسك أكثر من مليون مشترك، إلا أن الوتيرة أخذت تتسارع في الآونة الأخيرة بعد النشاط الفعّال الذي لعبه ماسك في الحملة الانتخابية الأميركية، ومنها تحويله المنصّة إلى أداة دعاية قوية للمرشح الجمهوري والرئيس العائد دونالد ترمب، وكذلك إلى منبر لترويج أفكار اليمين المتطرف، ناهيك من تفاقم إشكالية «الأخبار الزائفة» أو «المضللة» (الفايك نيوز).

نقاش إعلامي محتدم

ومهما يكن من أمر، فإن السؤال الذي صار مطروحاً بإلحاح على وسائل الإعلام: هل نبقى في منصّة «إكس»... أم ننسحب منها؟ حقاً، النقاش محتدم اليوم في فرنسا لدرجة أنه تحّول إلى معضلة حقيقية بالنسبة للمؤسسات الإعلامية، التي انقسمت فيها الآراء بين مؤيد ومعارض.

للتذكير بعض وسائل الإعلام الغربية خارج فرنسا كانت قد حسمت أمرها باكراً بالانسحاب، وكانت صحيفة «الغارديان» البريطانية الأولى التي رحلت عن المنصّة تاركة وراءها ما يناهز الـ11 مليون متابع، تلتها صحيفة «فون غوارديا» الإسبانية، ثم السويدية «داكنز نيهتر».

أما في فرنسا فكانت أولى وسائل الإعلام المنسحبة أسبوعية «ويست فرنس»، وهي صحيفة جهوية تصدر في غرب البلاد، لكنها تتمتع بشعبية كبيرة، إذ تُعد من أكثر الصحف الفرنسية قراءة بأكثر من 630 ألف نسخة تباع يومياً ونحو 5 ملايين زيارة على موقعها عام 2023. ولقد برّر نيكولا ستارك، المدير العام لـ«ويست فرنس»، موقف الصحيفة بـ«غياب التنظيم والمراقبة»، موضحاً «ما عاد صوتنا مسموعاً وسط فوضى كبيرة، وكأننا نقاوم تسونامي من الأخبار الزائفة... تحوّلت (إكس) إلى فضاء لا يحترم القانون بسبب غياب المشرفين». ثم تابع أن هذا القرار لم يكن صعباً على الأسبوعية الفرنسية على أساس أن منصّة التواصل الاجتماعي هي مصدر لأقل من واحد في المائة من الزيارات التي تستهدف موقعها على الشبكة.

بصمات ماسك غيّرت «إكس» (تويتر سابقاً)

«سلبيات» كثيرة بينها بصمات إيلون ماسك

من جهتها، قررت مجموعة «سود ويست» - التي تضم 4 منشورات تصدر في جنوب فرنسا هي «سود ويست»، و«لاروبوبليك دي بيريني»، و«شارانت ليبر» و«دوردون ليبر» - هي الأخرى الانسحاب من منصّة «إكس»، ملخصّة الدوافع في بيان وزع على وسائل الإعلام، جاء فيه أن «غياب الإشراف والمراقبة، وتحديد عدد المنشورات التابعة لحسابات وسائل الإعلام، وإبدال سياسة التوثيق القديمة بواسطة أخرى مدفوعة الثمن، كانت العوامل وراء هذا القرار».

أيضاً الموقع الإخباري المهتم بشؤون البيئة «فير» - أي «أخضر» - انسحب بدوره من «إكس»، تاركاً وراءه عشرين ألف متابع لدوافع وصفها بـ«الأخلاقية»، قائلا إن مضامين المنصّة تتعارض مع قيمه التحريرية. وشرحت جولييت كيف، مديرة الموقع الإخباري، أنه لن يكون لهذا القرار تأثير كبير بما أن الحضور الأهم الذي يسجّله الموقع ليس في «إكس»، وإنما في منصّة «إنستغرام»، حيث لديه فيها أكثر من 200 ألف متابع. ولكن قبل كل هؤلاء، كان قرار انسحاب برنامج «لوكوتيديان» الإخباري الناجح احتجاجاً على التغييرات التي أحدثها إيلون ماسك منذ امتلاكه «إكس» قد أطلق ردود فعل كثيرة وقويّة، لا سيما أن حساب البرنامج كان يجمع أكثر من 900 ألف متابع.

سالومي ساكي

... الفريق المتريّث

في المقابل، وسائل إعلام فرنسية أخرى فضّلت التريّث قبل اتخاذ قرار الانسحاب، وفي خطوة أولى اختارت فتح باب النقاش لدراسة الموضوع بكل حيثياته. وبالفعل، عقدت صحيفة «ليبيراسيون»، ذات التوجّه اليساري، جلسة «تشاور» جمعت الإدارة بالصحافيين والعمال يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي للبحث في مسألة «البقاء مع منصّة (إكس) أو الانسحاب منها؟». وفي هذا الإطار، قال دون ألفون، مدير الصحيفة، في موضوع نشر بصحيفة «لوموند»، ما يلي: «نحن ما زلنا في مرحلة التشاور والنقاش، لكننا حدّدنا لأنفسنا تاريخ 20 يناير (كانون الثاني) (وهو اليوم الذي يصادف تنصيب دونالد ترمب رئيساً للمرة الثانية) لاتخاذ قرار نهائي».

الوضع ذاته ينطبق على الأسبوعية «لاكروا» التي أعلنت في بيان أن الإدارة والصحافيين بصّدد التشاور بشأن الانسحاب أو البقاء، وكذلك «لوموند» التي ذكرت أنها «تدرس» الموضوع، مع الإشارة إلى أن صحافييها كانوا قد احتفظوا بحضور أدنى في المنصّة على الرغم من عدد كبير من المتابعين يصل إلى 11 مليوناً.

من جانب آخر، إذا كان القرار صعب الاتخاذ بالنسبة لوسائل الإعلام لاعتبارات إعلانية واقتصادية، فإن بعض الصحافيين بنوا المسألة من دون أي انتظار، فقد قررت سالومي ساكي، الصحافية المعروفة بتوجهاتها اليسارية والتي تعمل في موقع «بلاست» الإخباري، إغلاق حسابها على «إكس»، ونشرت آخر تغريدة لها يوم 19 نوفمبر الماضي. وفي التغريدة دعت ساكي متابعيها - يصل عددهم إلى أكثر من 200 ألف - إلى اللّحاق بها في منصّة أخرى هي «بلو سكاي»، من دون أن تنسى القول إنها انسحبت من «إكس» بسبب إيلون ماسك وتسييره «الكارثي» للمنّصة.

وفي الاتجاه عينه، قال غيوم إرنر، الإعلامي والمنتج في إذاعة «فرنس كولتو»، بعدما انسحب إنه يفضل «تناول طبق مليء بالعقارب على العودة إلى (إكس)». ثم ذهب أبعد من ذلك ليضيف أنه «لا ينبغي علينا ترك (إكس) فحسب، بل يجب أن نطالب المنصّة بتعويضات بسبب مسؤوليتها في انتشار الأخبار الكاذبة والنظريات التآمرية وتدّني مستوى النقاش البنّاء».

«لوفيغارو»... باقية

هذا، وبين الذين قرّروا الانسحاب وأولئك الذين يفكّرون به جدياً، يوجد رأي ثالث لوسائل الإعلام التي تتذرّع بأنها تريد أن تحافظ على حضورها في المنصّة «لإسماع صوتها» على غرار صحيفة «لوفيغارو» اليمينية. مارك فويي، مدير الصحيفة اليمينية التوجه، صرح بأنها لن تغيّر شيئاً في تعاملها مع «إكس»، فهي ستبقى لتحارب «الأخبار الكاذبة»، وتطالب بتطبيق المراقبة والإشراف بحزم وانتظام.

ولقد تبنّت مواقف مشابهة لـ«لوفيغارو» كل من صحيفة «لي زيكو» الاقتصادية، ويومية «لوباريزيان»، وقناة «تي إف1» و«إم 6»، والقنوات الإخبارية الكبرى مثل «بي إف إم تي في»، و«سي نيوز». وفي حين تتّفق كل المؤسّسات المذكورة على أن المنّصة «أصبحت عبارة عن فضاء سام»، فهي تعترف في الوقت نفسه باستحالة الاستغناء عنها، لأن السؤال الأهم ليس ترك «إكس»، بل أين البديل؟ وهنا أقرّ الصحافي المعروف نيكولا دوموران، خلال حوار على أمواج إذاعة «فرنس إنتير»، بأنه جرّب الاستعاضة عن «إكس» بواسطة «بلو سكاي»، لكنه وجد الأجواء مملة وكان النقاش ضعيفا، الأمر الذي جعله يعود إلى «إكس»، حيث «الأحداث أكثر سخونة» حسب رأيه.

أما الصحافي المخضرم جان ميشال أباتي، فعلى الرغم من انتقاده الشديد للمنصّة وانسحاب برنامج «لوكوتيديان» - الذي يشارك فيه - من «إكس» - فإنه لم يفكر في إغلاق حسابه لكونه الإعلامي الفرنسي الأكثر متابعة؛ إذ يسجل حسابه أكثر من 600 ألف متابع.

في هذه الأثناء، وصفت كارين فوتو، رئيسة موقع «ميديا بارت» الإخباري المستقّل الوضع «بالفخ الذي انغلق على وسائل الإعلام»، حيث «إما البقاء وتعزيز أدوات الدعاية لليمين المتطرّف وإما الانسحاب والتخلّي عن مواجهة النقاش». وللعلم، من الملاحظ أن المنصّة غدت حاجة شبه ماسة لأصحاب القرار والساسة، حيث إن بعضهم يتوجه إليها قبل أن يفكّر في عقد مؤتمر صحافي، وهذا ما حدا بالباحث دومينيك بوليي، من معهد «سيانس بو» للعلوم السياسية، إلى القول في حوار لصحيفة «لوتان» إن منصّة «إكس» بمثابة «الشّر الذي لا بد منه»، إذ تبقى المفضّلة لدى رجال السياسة للإعلان عن القرارات المهمة، وللصحافيين لتداولها والتعليق عليها، مذكّراً بأن الرئيس الأميركي جو بايدن اختار «إكس» للإعلان عن انسحابه من السباق الرئاسي الأخير.