أغسطس 1991... «عصر ذهبي» للصحافة الروسية رافق تفكك الاتحاد السوفياتي

المنابر لفظت أنفاس الحرية الأولى وأصبحت فعلياً «سلطة رابعة»

«موسكوفسكي نوفوستي» نشرت نص الاتفاقية الاتحادية التي يقترحها غورباتشوف
«موسكوفسكي نوفوستي» نشرت نص الاتفاقية الاتحادية التي يقترحها غورباتشوف
TT

أغسطس 1991... «عصر ذهبي» للصحافة الروسية رافق تفكك الاتحاد السوفياتي

«موسكوفسكي نوفوستي» نشرت نص الاتفاقية الاتحادية التي يقترحها غورباتشوف
«موسكوفسكي نوفوستي» نشرت نص الاتفاقية الاتحادية التي يقترحها غورباتشوف

بعد مضي أكثر من ربع قرن على محاولة الانقلاب التي شهدها الاتحاد السوفياتي في 19 أغسطس (آب) 1991، وأدت في النهاية إلى تفكك الدولة السوفياتية، يمكن القول إن تلك المرحلة ورغم كل ما شهدته من آلام، كانت بمثابة «عصر ذهبي» فريد من نوعه للإعلام الروسي. هذه الحقبة حررته من «حضن الكرملين».
وتمكن بعد عقود من الكبت من تنشق الحرية، ومن ثم التمرد على مركز القرار السياسي. وبات يمثل فعليا «السلطة الرابعة». ولعب دورا رئيسيا في تطورات تلك المرحلة، من خلال امتلاكه قدرة تأثير فعلية على الرأي العام، عبر مقالات رأي وتقارير صحافية، لم يسبق أن نُشر نظير لها في الصحافة السوفياتية.
كانت ذروة العصر الذهبي للإعلام الروسي في نهاية أغسطس 1991، حين تمرد على قرار «لجنة الطوارئ» التي قادت حينها محاولة الانقلاب على غورباتشوف، إلا أن الصحافة الروسية بدأت تشق دربها نحو الحرية الإعلامية المطلقة، قبل تلك الأحداث، وقبل تفكك الاتحاد السوفياتي، حين دأبت على مواكبة الحدث السياسي، منذ عام 1989، بأسلوب عبرت فيه عن ذاتها، دون التزام بالأطر التي كانت تفرضها السلطات السوفياتية.
برز دور الإعلام الروسي بشكل واضح في المرحلة إبان الأحداث التي سبقت محاولة الانقلاب التي شهدها الاتحاد السوفياتي، وخلالها وبعد فشلها.
بشكل عام يمكن القول إن أسلوب الخطاب الإعلامي في الصحف الروسية في السنوات الأخيرة من الحقبة السوفياتية، بدأ يتغير جوهريا منذ إعلان غورباتشوف نهج «البيريسترويكا»، وإطلاق الحريات تدريجيا. وعندما بدأ الحديث يدور عن إعادة صياغة الاتفاقية الاتحادية بين الدول الأعضاء في الاتحاد السوفياتي، دخل الإعلامي الروسي على المشهد من موقع «اللاعب المستقل» الذي لم يذهب، كما كان يفعل سابقاً، إلى تمجيد خطة «الزعيم» غورباتشوف الخاصة بتوقيع اتفاقية اتحادية جديدة، وإنما تعامل مع الطرح بمهنية، حين قامت بعض الصحف بنشر تفاصيل نص الاتفاقية التي يدور الحديث عنها، بينما ذهبت صحف أخرى إلى الحديث عن احتمال انتهاء حقبة غورباتشوف بسبب ضعف سياسته الداخلية.
وكانت سنوات قبل الانقلاب شهدت اضطرابات واحتجاجات في عدد من عواصم الجمهوريات التي كانت حينها جزءا من الدولة السوفياتية، منها المواجهات في العاصمة الليتوانية فيلنوس في منتصف يناير (كانون الثاني) 1991، أي بعد أقل من عام على إعلان ليتوانيا انفصالها عن الاتحاد السوفياتي، وهو ما رفضته السلطات المركزية في موسكو. وفي سياق تطور الوضع حول ليتوانيا حينها، قامت القوات السوفياتية بالسيطرة على المراكز الإعلامية في المدينة، الأمر الذي رأت فيه صحف روسية محاولة لإعادة تحكم الرقابة السياسية على الإعلام. وصدرت صحيفة «نيزافيسمايا غازيتا» في عددها يوم 22 يناير بصفحة رئيسية نصف فارغة، تحت عنوان واحد «هكذا ستبدو الصحف السوفياتية إذا عادت الرقابة السياسية».
قبل ذلك وفي عددها يوم 9 أبريل (نيسان) 1991، نشرت «نيزافيسمايا غازيتا» مقالا جريئا بعنوان «بدائل غورباتشوف»، كتبه فيتالي تريتياكوف، رئيس تحرير الصحيفة حينها، وقال فيه إن فشل غورباتشوف في التعامل مع الاحتجاجات في العاصمة الجورجية تبليسي في أبريل (نيسان) 1989، والاحتجاجات في العاصمة الأذربيجانية باكو في يناير 1990، وفي العاصمة الليتوانية فيلنوس في يناير 1991، التي سقط فيها ضحايا من المدنيين، خلال المواجهات مع القوات السوفياتية، «هذه هي المحاور الرئيسية التي قادت غورباتشوف نحو أزمته الحالية». وفق ما كتب تريتياكوف، الذي توقع بصراحة تغييرا في السلطة. وفي الفقرة التالية عرض أسماء شخصيات مرشحة لتحل بديلا عن غورباتشوف، بينهم بوريس يلتسين، الذي أصبح فيما بعد أول رئيس لروسيا، وقادة مثل غيناي ينايف، نائب أمين اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، الذي تلا في 19 أغسطس 1991 بيان «لجنة حالة الطوارئ»، أي مجموعة الانقلابيين.
مع تصاعد حدة التوتر السياسي في أوساط النخب السياسية الحاكمة، بين مؤيد ومعارض لفكرة توقيع اتفاقية اتحادية جديدة، عبرت مجموعة من الشخصيات السياسية والعسكرية والثقافة الروسية، عن رفضها نهج غورباتشوف، وقاموا بإعداد مقال صحافي بعنوان «كلمة إلى الشعب» نشرته صحيفة «سوفياتساكايا روسيا» في عددها يوم 23 يوليو (تموز)، دعوا فيها المواطنين إلى العمل على «بناء بيت واحد للجميع، تعيش فيه الشعوب الصغيرة والكبيرة بصداقة وسعادة»، وأشاروا بشكل غير مباشر إلى أنه هناك بدائل متوفرة عن غورباتشوف، حين أكدوا «يوجد بين الروس رجال دولة مستعدون لقيادة البلاد نحو مستقبل سيادي لا ذل فيه». وبعد يومين فقط من نشر «كلمة إلى الشعب» طلب قادة المؤسسات الأمنية والعسكرية (مدير «كي جي بي»، ووزير الدفاع، ووزير الداخلية، وغيرهم) من غورباتشوف التنحي عن السلطة.
****الصحافة تنفض على محاولة الانقلاب
صباح 19 أغسطس عام 1991 طلبت مجموعة من كبار القادة السوفيات، بينهم نائب الرئيس ووزير الدفاع ووزير الداخلية ومدير «كي جي بي»، تشكيل «لجنة حالة الطوارئ» لإدارة شؤون البلاد وخروجها من الأزمة. وكانت تلك محاولة انقلاب على الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، الذي احتجزه الانقلابيون في مقر استجمامه الصيفي، وزعموا أنه مريض يتلقى العلاج هناك، دون أن يسمحوا بأي تواصل معه. وقامت صحيفة «إزفستيا» في اليوم التالي بنشر نص بيان لجنة الطوارئ كاملاً، وتقول مراجع تاريخية إن إدارة تحرير الصحيفة كانت مضطرة حينها لنشر نص الإعلان، نتيجة ضغط من السلطات. وكانت لجنة الطوارئ فرضت حظرا على عمل وسائل الإعلام الروسية، إلا أن معظم الصحف صدرت، بعناوين عكست موقفها ضد الانقلابيين، ودعمها بوريس يلتسين، الذي قاد حملة واسعة ضد السلطات السوفياتية، من موقعه رئيسا لروسيا السوفياتية حينها. صحيفة «كومسمولسكايا برافدا» فردت حينها معظم صفحاتها لتغطية «الانقلاب» وركزت على تعميم القرارات الصادرة عن يلتسين، بما في ذلك تعيينه قيادات عسكرية جديدة، على رأس الجيوش في مختلف أنحاء البلاد، وقيادات إدارية، بديلة عن القيادات المؤيدة للانقلاب.
نتيجة قرار حظر وسائل الإعلام اضطر الكتاب والصحافيون في صحيفة «نيزافيسمايا غازيتا» لإرسال مقالاتهم إلى دول أخرى لطباعة الصحيفة، وتقول مصادر وثقت تلك المرحلة إن مؤسسة فرنسية قامت بطباعة آلاف النسخ باللغة الفرنسية من عدد الصحيفة الروسية. كما تمردت معظم الصحف على قرار الحظر، وصدرت يومها صحيفة «موسكوفسكي نوفوستي» بعنوان رئيسي على صفحتها الأولى «أغلقونا لكننا صدرنا»، وكذلك صحيفة «ترود» وصحف أخرى. وشهدت موسكو منذ 19 حتى 22 أغسطس احتجاجات واسعة، حيث خرج الآلاف نحو البيت الأبيض ومقار حكومية أخرى كانت تحاصرها دبابات الجيش السوفياتي، وعبروا عن دعهم لموقف الرئيس يلتسين، الذي كان قد اتخذ جملة خطوات جعلته عمليا يمسك بزمام القيادة في البلاد، وتمكن من تحرير غورباتشوف وإعادته إلى موسكو.
بعد 3 أيام «مصيرية» في موسكو، أعلنت الصحف الروسية ومنها «نيزافسيمايا» في عددها يوم 22، عن فشل الانقلاب، وقالت على صفحتها الرئيسية بـ«الخط العريض»: «الدبابات غادرت موسكو. إلغاء حالة الطوارئ. الانقلاب فشل والشعب حافظ على السلطات الشرعية. من بين جميع الشخصيات القيادية الكبرى كان بوريس يلتسين الوحيد الذي وقف علنا بوجه المتآمرين»، وكان لافتا أن قالت الصحيفة حينها إن «دور غورباتشوف فيما جرى غير واضح بعد» ووضعت علامة استفهام أمام العبارة التي أشارت فيها إلى أنه كان محتجزا في مقر إقامته.
بعد فشل محاولة الانقلاب عام 1991 تسارعت الأحداث، وبرزت جلية للعلن الخلافات الحادة بين يلتسين وغورباتشوف، ولا سيما صراعهما على السلطة، حيث بدا واضحا أن يلتسين سعى إلى أن يكون البديل عن غورباتشوف. في غضون ذلك تنامت المزاجية الانفصالية في الجمهوريات السوفياتية. وبحلول ديسمبر (كانون الأول) من عام 1991، كانت معظم الجمهوريات السوفياتية، بما في ذلك روسيا، قد أعلنت عمليا استقلالها بصورة أحادية عن الدولة السوفياتية. وفي 25 ديسمبر (كانون الأول) أعلن غورباتشوف استقالته رئيسا للاتحاد السوفياتي، عبر خطاب متلفز، وفي اليوم التالي أصدر المجلس الأعلى لجمهوريات الاتحاد السوفياتي بيانا اعترف فيه باستقلال الجمهوريات، وتفكك الدولة السوفياتية. ومنذ ذلك التاريخ دخل الإعلام الروسي مرحلة جديدة من العمل، تميزت بحريات غير محدودة، أتاحت طرح مختلف وجهات النظر، وتوجيه انتقادات للسلطات دون أي رقيب. ومع الوقت ظهرت إمبراطوريات إعلامية، حافظت على هامش من حرية العمل الصحافي، إلا أن أصحاب النفوذ الذين أسسوا تلك الإمبراطوريات، تحكموا بها وعمدوا إلى توجيه خطها الإعلامي، لخدمة مصالحهم. وفي السنوات الأخيرة، في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، تم القضاء عمليا على تلك الإمبراطوريات، وعادت معظم وسائل الإعلام الروسية إلى «حضن الكرملين» مجدداً.


مقالات ذات صلة

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

المشرق العربي المسؤول الإعلامي في «حزب الله» محمد عفيف خلال مؤتمر صحافي بالضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ف.ب) play-circle 00:40

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

باغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» محمد عفيف تكون إسرائيل انتقلت من اغتيال القادة العسكريين في الحزب إلى المسؤولين والقياديين السياسيين والإعلاميين.

بولا أسطيح (بيروت)
يوميات الشرق «SRMG Labs» أكثر الوكالات تتويجاً في مهرجان «أثر» للإبداع بالرياض (SRMG)

«الأبحاث والإعلام» تتصدّر مهرجان «أثر» للإبداع بـ6 جوائز مرموقة

حصدت «SRMG Labs»، ذراع الابتكار في المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)، 6 جوائز مرموقة عن جميع الفئات التي رُشّحت لها في مهرجان «أثر» للإبداع.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق تضم المنطقة المتكاملة 7 مباني استوديوهات على مساحة 10.500 متر مربع (تصوير: تركي العقيلي)

الرياض تحتضن أكبر وأحدث استوديوهات الإنتاج في الشرق الأوسط

بحضور نخبة من فناني ومنتجي العالم العربي، افتتحت الاستوديوهات التي بنيت في فترة قياسية قصيرة تقدر بـ120 يوماً، كواحدة من أكبر وأحدث الاستوديوهات للإنتاج.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
العالم سيارة عليها كلمة «صحافة» بالإنجليزية بعد تعرض فندق يقيم فيه صحافيون في حاصبيا بجنوب لبنان لغارة إسرائيلية في 25 أكتوبر (رويترز)

اليونيسكو: مقتل 162 صحافياً خلال تأديتهم عملهم في 2022 و2023

«في العامين 2022 و2023، قُتل صحافي كل أربعة أيام لمجرد تأديته عمله الأساسي في البحث عن الحقيقة».

«الشرق الأوسط» (باريس)
المشرق العربي صحافيون من مختلف وسائل إعلام يتشاركون موقعاً لتغطية الغارات الإسرائيلية على مدينة صور (أ.ب)

حرب لبنان تشعل معركة إعلامية داخلية واتهامات بـ«التخوين»

أشعلت التغطية الإعلامية للحرب بلبنان سجالات طالت وسائل الإعلام وتطورت إلى انتقادات للإعلام واتهامات لا تخلو من التخوين، نالت فيها قناة «إم تي في» الحصة الأكبر.

حنان مرهج (بيروت)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».