5 مشكلات تعاني منها نفايات البلاستيك في ألمانيا

5 مشكلات تعاني منها نفايات البلاستيك في ألمانيا
TT

5 مشكلات تعاني منها نفايات البلاستيك في ألمانيا

5 مشكلات تعاني منها نفايات البلاستيك في ألمانيا

البلاستيك خفيف وكثير الطبقات ويمكن الحصول عليه بثمن رخيص، وموجود في كل مكان في حياتنا، ويعاني من مشكلة سمعة، حيث تصيب صور البحار الممتلئة بنفاياته الألمان على سبيل المثال بالصدمة. أصبحت متاجر الأغذية في ألمانيا تروج لنفسها الآن بأنها توقفت عن الشفاطات البلاستيكية، وكذلك الملاعق والشوك وحيدة الاستخدام والأكياس البلاستيكية. أصبح البلاستيك موضوعاً حاضراً كقضية بيئة. لا غرابة إذن من أن وزيرة البيئة الألمانية الجديدة سفينيا شولتس زارت خلال أول رحلة صيفية لها مصنعاً لتدوير البلاستيك. هناك رائحة قمامة قوية تزكم الأنوف ويظل تأثيرها فترة طويلة. أصوات الآلات مرتفعة، ولا يسمح مصنع هوبرت أينج لتدوير البلاستيك لعماله بالعمل من دون حماية للأذن من ضجيج الآلات.
هناك في فناء المصنع لفافات هائلة من نفايات البلاستيك وأكياس أكبر بها ملصقات صغيرة ملونة توضح مدى نوعية «المادة التي سيتم تدويرها» الموجودة داخل هذه الأكياس، أي المادة المصنوعة من البلاستيك المستعمل التي يصنع منها على سبيل المثال أجهزة تستخدم في ساحات الأطفال المخصصة للعب أو أرائك بلاستيكية.
هنا يتم تفتيت النفايات وفصلها وتنظيفها ثم إعادة تفتيتها وفي النهاية بيعها. ما لا يمكن إعادة تدويره يتم حرقه «أي استخدامه حرارياً» لتوليد الكهرباء والحرارة. وينسحب ذلك أيضاً على الأجهزة الكهربائية أو غير ذلك من النفايات، حسبما أوضح رئيس الشركة شتيفان أينج، الذي أكد أن انضباط المواطنين في فصل النفايات قد تراجع كثيراً.
وأوضحت وكالة الأنباء الألمانية، أن أينج يتبع قطاع التدوير الألماني وهو قطاع كبير يضم شركات تابعة للبلديات الألمانية وشركات خاصة تشغل نحو 300 ألف إنسان، منهم 129 ألف عامل يعملون في مجال تدوير النفايات والتخلص منها. يكاد يكون فصل النفايات وتدويرها أمراً خاصاً بالشركات الخاصة، أما إعادة تدوير المعلبات فتقوم به الأنظمة الثنائية التي من بينها «النقطة الخضراء».
هناك إجماع بين المسؤولين عن هذا القطاع، وصناع القرار السياسي والاتحادات البيئية على أن ألمانيا في مقدمة الدول فيما يتعلق بمجال التدوير، وبمعنى آخر «بطل العالم في هذا المجال» حسبما تؤكد سفينيا شولتس. لكن نظام التدوير الألماني يعاني هو الآخر من مشكلات، هناك جهود تبذل لحل بعضها، حيث إن بعضها سيتغير العام المقبل بالفعل، في حين أن مشكلات أخرى لن تتغير. وهذه أمثلة على بعض المشكلات:
1- ليس كل بلاستيك قابلاً للتدوير، أو يتم تدويره، فهناك أنواع مختلفة من البلاستيك، حيث لا يمكن الحصول من كل البلاستيك على مادة يمكن الاستفادة منها. يذكر بنيامين بونجارت، من اتحاد نابو الألماني لحماية الطبيعة، من ذلك على سبيل المثال بلاستيك PET المبلمر والملدن حرارياً، حيث يمكن إعادة صناعة زجاجات منه، لكن لا يمكن إعادة تدوير الأطباق المصنوعة منه التي تستخدم في تغليف الفاكهة. كما يصعب إعادة تدوير طبقات البلاستيك الرقيقة المصنوعة منه، وبخاصة الطبقات الأكثر رقة، حيث أوضح بونجارت أن خطوط الإنتاج التي طورت لهذا الهدف قليلة. كما أن الحرق أقل تكلفة من إعادة التدوير، حسبما أوضح شتيفان أينج. لذلك؛ فإن أينج يعيد فقط تدوير الكمية المفروضة عليه حالياً بالقانون، أي 36 في المائة. وحسب وزارة البيئة الألمانية، فإنه تتم إعادة 45 في المائة من إجمالي نفايات البلاستيك وإعادة الاستفادة منها، أي لا يتم حرقها. ومن المقرر أن يرفع قانون المعلبات الجديد هذه النسبة اعتباراً من عام 2019، وأن تصل عام 2022 إلى 63 في المائة.
2- أحياناً تكون الأولوية للشكل قبل البيئة: فالزجاجة التي بها منظفات تلون باللون الأسود، في حين أن زجاجة الشامبو تغلف بطبقة بلاستيكية رقيقة ومطبوع عليها البيانات. ربما كان هذا جيداً من ناحية الشكل، لكنه يحول دون التدوير في كثير من الأحيان. لأن الآلات المخصصة لا تتعرف على المادة ولا تستطيع فصلها. لذلك؛ فإن الأنظمة المزدوجة ستجبر اعتباراً من عام 2019 على الحصول من الشركات المصنعة على رسوم تراخيص أعلى للعبوات البلاستيكية صعبة التدوير مقارنة بمنتجي العبوات الأخرى، كما أن بعض المصنعين لا يريدون استخدام بلاستيك قابل لإعادة التدوير، على سبيل المثال لأن لونه داكن وليس لامعاً.
3- ليس كل البلاستيك يصل لنظام التدوير: الكثيرون لا يعرفون أنه غير مسموح لهم بإلقاء سوى العبوات البلاستيكية في الحاوية الصفراء المخصصة لهذه المواد. أي أنه لا يسمح لهم على سبيل المثال بإلقاء الشفاطات في هذه الحاويات، لكن عليهم إلقاء البلاستيك الرقيق التي تغلف بها هذه الشفاطات في الحاويات الصفراء. على أي حال، فإن هذه النسبة مرتفعة، و«40 في المائة من جميع البلاستيك يستخدم في صناعة العبوات»، حسبما أوضح بونجارت، مضيفاً «والعبوات تلقى فوراً في القمامة».
لذلك؛ فإن التركيز يكون كثيراً على نفايات العبوات، في حين أن البقية مصيرها نفايات الطعام التي لا يتم فصلها مرة أخرى سوى في حالات قليلة؛ لأن القاعدة هي حرقها. ربما ساعد اعتماد حاوية برتقالية للنفايات، يسمح بإلقاء كل البلاستيك (والمعدن) بها، في زيادة النسبة التي يمكن تدويرها، لكن مثل هذه الحاوية لا توجد إلا في حالة تفاهمات خاصة بين البلديات والأنظمة المزدوجة.
4- من الممكن أن تكون هناك دوائر مفتوحة فيما يتعلق ببعض المواد البلاستيكية: وبخاصة زجاجات PET، لكن هذه ليست القاعدة، حيث إن التدوير يعني في كثير من الأحيان إعادة استخدام هذه المواد لأغراض أدنى، حيث لا تستخدم زجاجات PET وحيدة الاستخدام على سبيل المثال في صناعة زجاجات جديدة، بل في ألياف لصناعة المنسوجات لا يمكن إعادة تدويرها. أي أن بلاستيك PE وPP، تفقد من جودتها مع كل معالجة جديدة لها، حسبما أوضح رالف بوشمان من منظمة بوند الألمانية لحماية البيئة.
5- النظام يعاني من نقاط ضعف: هناك منافسة بين مختلف الجهات العاملة في التخلص من نفايات المعلبات، أي الأنظمة الثنائية، هناك الكثير من الشكاوى بشأن «الخراف السوداء» التي تستغل الثغرات القانونية وتقدم عروضاً أرخص على حساب الآخرين. كما تتسبب التجارة عبر الإنترنت التي يحصل فيها العملاء على بضاعتهم بالبريد، في نزاع قانوني لأن الجهات العاملة في هذه التجارة لا تحتاج إلى تسديد مصاريف تراخيص. ومن المقرر إنشاء مؤسسة مركزية، هيئة جديدة، اعتباراً من عام 2019 من شأنها تحقيق الشفافية في هذا المجال.
أي أن نظام التدوير في ألمانيا ليس كاملاً. لذلك؛ فهناك رسالة يود حماة البيئة إسماعها لمن يهمهم الأمر، ألا وهي أن ألمانيا ليست فقط من أولى دول العالم فيما يتعلق بإعادة الاستفادة من النفايات، بل أيضاً فيما يتعلق أيضاً بحجم النفايات، حيث يبلغ حجم نفايات البلاستيك في ألمانيا نحو ستة أطنان سنوياً، «والمشكلة تكمن في بداية السلسلة»، حسب بوشمان من اتحاد بوند، الذي أضاف «فهل نحن في حاجة إلى مثل هذه العبوات وحيدة الاستخدام؟». ورغم تشديد بوشمان على أهمية إعادة التدوير، فإنه شدد في الوقت ذاته على أولية تجنب النفايات أصلاً.


مقالات ذات صلة

مصر: غالبية الدول تعتبر مشاريع قرارات «كوب 27» متوازنة

شمال افريقيا وزير الخارجية المصري سامح شكري (إ.ب.أ)

مصر: غالبية الدول تعتبر مشاريع قرارات «كوب 27» متوازنة

أكد رئيس مؤتمر الأطراف حول المناخ (كوب27) سامح شكري اليوم (السبت) أن «الغالبية العظمى» من الدول تعتبر مشاريع القرارات التي قدمتها رئاسة مؤتمر المناخ «متوازنة» بعدما انتقدها الاتحاد الأوروبي. وأوضح وزير خارجية مصر سامح شكري للصحافيين بعد ليلة من المفاوضات المكثفة إثر تمديد المؤتمر في شرم الشيخ أن «الغالبية العظمى من الأطراف أبلغتني أنها تعتبر النص متوازنا وقد يؤدي إلى اختراق محتمل توصلا إلى توافق»، وفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية. وتابع يقول «على الأطراف أن تظهر تصميمها وأن تتوصل إلى توافق».

«الشرق الأوسط» (شرم الشيخ)
بيئة البيئة في 2021... قصص نجاح تعزز الأمل في تخفيف أزمة المناخ

البيئة في 2021... قصص نجاح تعزز الأمل في تخفيف أزمة المناخ

شهدت سنة 2021 الكثير من الكوارث والخيبات، لكنها كانت أيضاً سنة «الأمل» البيئي. فعلى الصعيد السياسي حصلت تحولات هامة بوصول إدارة داعمة لقضايا البيئة إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة. كما شهدت السنة العديد من الابتكارات الخضراء والمشاريع البيئية الواعدة، قد يكون أبرزها مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر» التي أطلقتها السعودية. وفي مجال الصحة العامة، حقق العلماء اختراقاً كبيراً في مواجهة فيروس كورونا المستجد عبر تطوير اللقاحات وبرامج التطعيم الواسعة، رغم عودة الفيروس ومتحوراته. وفي مواجهة الاحتباس الحراري، نجح المجتمعون في قمة غلاسكو في التوافق على تسريع العمل المناخي.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق فرقة «كولدبلاي» تراعي المعايير البيئية في جولتها سنة 2022

فرقة «كولدبلاي» تراعي المعايير البيئية في جولتها سنة 2022

أعلنت فرقة «كولدبلاي» البريطانية، الخميس، عن جولة عالمية جديدة لها سنة 2022 «تراعي قدر الإمكان متطلبات الاستدامة»، باستخدام الألواح الشمسية وبطارية محمولة وأرضية تعمل بالطاقة الحركية لتوفير كامل الكهرباء تقريباً، فضلاً عن قصاصات «كونفيتي» ورقية قابلة للتحلل وأكواب تحترم البيئة. وذكرت «كولدبلاي» في منشور عبر «تويتر» أن «العزف الحي والتواصل مع الناس هو سبب وجود الفرقة»، لكنها أكدت أنها تدرك «تماماً في الوقت نفسه أن الكوكب يواجه أزمة مناخية». وأضاف المنشور أن أعضاء فرقة الروك الشهيرة «أمضوا العامين المنصرمين في استشارة خبراء البيئة في شأن سبل جعل هذه الجولة تراعي قدر الإمكان متطلبات الاستدامة» و«

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق بعد انخفاضها بسبب الإغلاق... انبعاثات الكربون تعاود الارتفاع

بعد انخفاضها بسبب الإغلاق... انبعاثات الكربون تعاود الارتفاع

انخفضت انبعاثات الغازات المسببة للاحترار العالمي بشكل كبير العام الماضي حيث أجبر وباء «كورونا» الكثير من دول العالم على فرض الإغلاق، لكن يبدو أن هذه الظاهرة الجيدة لن تدوم، حيث إن الأرقام عاودت الارتفاع بحسب البيانات الجديدة، وفقاً لشبكة «سي إن إن». وتسببت إجراءات الإغلاق لاحتواء انتشار الفيروس التاجي في انخفاض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 7 في المائة على مدار عام 2020 - وهو أكبر انخفاض تم تسجيله على الإطلاق - وفق دراسة نُشرت أمس (الأربعاء) في المجلة العلمية «نيتشر كلايميت شينج». لكن مؤلفيها يحذرون من أنه ما لم تعطِ الحكومات الأولوية للاستثمار بطرق بيئية في محاولاتها لتعزيز اقتصاداتها الم

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
بيئة 5 ملفات بيئية هامة في حقيبة بايدن

5 ملفات بيئية هامة في حقيبة بايدن

أعلن الفريق الانتقالي للرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن أن وزير الخارجية السابق جون كيري سيكون له مقعد في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، وهي المرة الأولى التي يخصّص فيها مسؤول في تلك الهيئة لقضية المناخ. ويأتي تعيين كيري في إطار التعهدات التي قطعها جو بايدن خلال حملته الانتخابية بإعادة الولايات المتحدة إلى الطريق الصحيح في مواجهة تغيُّر المناخ العالمي ودعم قضايا البيئة، بعد فترة رئاسية صاخبة لسلفه دونالد ترمب الذي انسحب من اتفاقية باريس المناخية وألغى العديد من اللوائح التشريعية البيئية. وعلى عكس ترمب، يعتقد بايدن أن تغيُّر المناخ يهدّد الأمن القومي، حيث ترتبط العديد من حالات غياب الاستقرار

«الشرق الأوسط» (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)