وحوش «جوراسيك وورلد» تتهيأ لتسود العالم

العلماء ورجال الأعمال شركاء في الجريمة

كريس برات يوقف هجوم بايبي ديناصور
كريس برات يوقف هجوم بايبي ديناصور
TT

وحوش «جوراسيك وورلد» تتهيأ لتسود العالم

كريس برات يوقف هجوم بايبي ديناصور
كريس برات يوقف هجوم بايبي ديناصور

اعتلى «جوراسيك وورلد: فولِن كينغدوم» المركز الأول في إيرادات أفلام نهاية الأسبوع منجزاً نحو 74 مليون دولار يومي الخميس والجمعة، وحثّ هوليوود على أن تتوقع أن يتجاوز الفيلم الـ140 مليوناً بعدما افتتح في عدد ضخم من صالات أميركا وكندا بلغ 4475 صالة.
هذا الرقم أعلى ممّا سُجلّ في أي مكان آخر حتى الآن، لكنّه ليس بعيداً جداً عن إيراداته في الصين، إذ جمع 110 ملايين دولار في أربعة أيام و34 مليون دولار في بريطانيا خلال 12 يوماً.

من فيلم لآخر
بعيداً عن لغة الأرقام ومدلولاتها المهمّة (من بينها قدرة السلسلة في خامس فيلم لها على الحفاظ على جماهير مخلصة)، فإنّ هذا هو الجزء الخامس من مسلسل غُيّر عنوانه من «جوراسيك بارك» إلى «جوراسيك وورلد» قبل ثلاث سنوات عندما خرج الجزء الرابع. والمرء له الحق في طرح السؤال فيما يمكن أن يكون الفرق بين الكلمتين. والمنتج ستيفن سبيلبرغ (الذي أخرج الفيلمين الأول والثاني من «جوراسيك بارك») ذكر، رداً على ذلك، أنّ الأحداث كبرت بحيث لم تعد الجزيرة المجهولة - حيث اكتُشفت الديناصورات - المكان الوحيد لما تتناوله الأفلام من أحداث.
في الواقع، تغيّر العنوان أكثر من مرّة منذ أن انطلق الجزء الأول سنة 1993، فالجزء الثاني (1997) انتقى اسم «العالم المفقود: جيروسيك بارك» ما قرّبه إلى عنوان شيخ أفلام الديناصورات وهو «العالم المفقود» (The Lost World) الذي حقّقه هاري أو هيت سنة 1925، اقتباساً عن رواية آرثر كونان دويل.
الجزء الثالث الذي أخرجه جو جونستون سنة 2001، عاد إلى عنوانه الأول مع إضافة رقم 3 إليه. لكن الرابع (كولِن تريفورو، 2015) انتقل إلى «جيروسيك وورلد» بينما أضاف الفيلم الجديد كلمتي Fallen Kingdom إلى Fallen World وانطلق يسبر حكاية جديدة مختلفة عن تلك الحكايات السابقة في بعض النواحي المهمّة.
إلى حين تحقيق سبيلبرغ الجزء الثاني، كانت السلسلة تستند إلى رواية الكاتب (وأحيانا المخرج) مايكل كريتون التي حملت عنوان «جيروسيك بارك». نجاح الرواية اضطره، من حيث لم يرغب كما قال، لوضع رواية ثانية وهذه أيضاً التقطها سبيلبرغ وحوّلها إلى فيلم آخر.
في هذا الجزء بدا أنّ الحكاية تحتاج إلى نقل الأحداث من تلك الجزيرة التي تقع على ساحل أميركا اللاتينية إلى العالم الخارجي. وأنّ الرّعب الذي أوقعته في صفوف الشخصيات البشرية يمكن له أن يتضاعف إذا ما حطّت تلك الزواحف الضخمة أو طيور بتيرانودونز العملاقة على الساحل الأميركي الغربي.
مايكل كرايتون (1942 - 2008) دائماً ما كان يربط بين العلم والجشع المادي وينتقدهما في أعماله. نجد في «سلالة إندروميدا» (روبرت وايز، 1971) و«علاج كاري» (بليك إدواردز، 1972). لاحقاً أخرج بنفسه «وستوورلد» (1973) ثم «كوما» (1978) وفيهما ذلك الهجوم على جشع العلماء وخروجهم عمّا يفيد البشرية. «وستوورلد» بحدّ ذاته هو أكثر أفلامه تجسيداً لهذا المعنى فقد بنى العلماء مدينة ينتقل إليها المواطنون ليعشوا خيالاتهم المفرطة. البعض يود العيش في التاريخ الروماني، والبعض في الغرب الأميركي والبعض الآخر في سنوات أخرى. للغاية، ابتكر علماء هذا المتنزه روبوتس، تمثل شخصيات وهمية في تلك العوالم مما يجعل الآدميين يشعرون بالتفوق عندما يقتلون تلك الآلات المسيرة التي تبدو حقيقية وذلك في طي الفانتازيا التي يعيشونها. لكن ما الذي سيحدث لو أنّ الروبوتس بدأت ترفض الموت والانصياع للأوامر وتنطلق لتقتل المدنيين؟

القالب والخطوات
ناصية كرايتون هذه، مارسها في جزأي «جيروسيك بارك» بطلاقة: العلم والاقتصاد يعملان سوية. مرّة أخرى يبتدع العلم المحنة التي ستعرض الآخرين للموت. فقد لُقّحت جينات حافظت على قدراتها ووجدت في بعُوض اكتُشفت مجمّدة وبذلك خُلق جيل جديد من الديناصورات المختلفة وتركها تعيش فوق جزيرة لا تبعد كثيراً عن كوستاريكا على أن تتحوّل الجزيرة إلى مرتع طبيعي للديناصورات ومتنزه يجذب إليه الأثرياء القادرين على دفع المبلغ الكبير لزيارة آخر معاقل الحياة الأولى.
سبيلبرغ بدوره كان وصم المصالح التجارية في أول فيلم له عن وحوش تنبري للإنسان وذلك في فيلمه Jaws سنة 1975، عندما صوّر كيف يقود جشع محافظ مدينة ساحلية يقصدها المتنزهون صيفاً، إلى التساهل بشأن خطر سمكة قرش كبيرة قاتلة تقتات من السابحين في البحر. لكنّ حجم الخسائر هنا والخيط المدروس من الأحداث في الجزأين الأول والثاني من «جوراسيك بارك» لا مثيل له في أي فيلم آخر لسبيلبرغ.
مع توقف كرايتون عن الكتابة بقي الوضع قائماً مع تنويعات. لا يمكن تحقيق فيلم من بشر كلهم نموذجيون وذوو مبادئ لا تحيد، وحيوانات كلّها فاتكة لا تعرف الرّحمة. لا بد من عناصر بشرية تعمل ضد المصلحة العامة ووفق مقتضياتها ومصالحها الخاصة والنموذج الأقرب إلى هذه العناصر هم العلماء الذين يتوارون وراء مراكزهم لصالح علاقاتهم مع رؤوس أموال تريد تحقيق الثّراء حتى مع خطر انفلات الديناصورات من معاقلها والهجوم على السّياح الذين جاءوا معتقدين أنّ الاحتياطات الكافية قد قامت لمنع حدوث أي احتكاك بينهم وبين تلك الأنياب الضخمة.
هذا ما ورد في «جيروسيك وورلد» قبل ثلاث سنوات. لكن بما أنّه لا يمكن السير على الخطوات ذاتها طوال الوقت فإن الفيلم الجديد يعمد إلى قدر لا يستهان به من التغييرات في القالب ذاته.
في هذا الفيلم الجديد «جيروسيك وورلد: فولِن كينغدوم» يعود أووَن غرادي (كريس برات) وكلير ديرينغ (برايس دالاس هوارد) بعدما نجيا من الموت المحقق في الفيلم السابق. ها هما يلتقيان من جديد بعد ثلاث سنوات، ويبدأ كل منهما لوم الآخر على من الذي بادر لإنهاء العلاقة العاطفية التي مهّد لها الفيلم السابق.
هذا لا يأخذ أكثر من نصف دقيقة في الفيلم، والمياه تعود إلى مجاريها وكلاهما منصرفان الآن لدراسة وضع جديد. المؤسسة العلمية - الاقتصادية التي تشرف على تلك الجزيرة تريد نقل بعض الديناصورات إلى مكان آمن بسبب انفجار بركاني سيقضي على تلك الديناصورات لا محالة. وهي مهمّة إنسانية بالنسبة إليهما تنطلق من الرغبة في المحافظة على أي حيوان مهدد بالانقراض حتى ولو كان وحشاً فتاكاً اسمه تي - ركس أو إندورباتور ومعاملتها كمعاملة الغزلان أو القطط الأليفة. وهما غير مدركان أنّ ويتلي ورجاله ينفّذون رغبة المؤسسة في نقل ما يمكن نقله من تلك الوحوش للمتاجرة بها في مزادات علنية بحيث يصبح لكل ملياردير راغب «ديناصوره» الخاص.

مفردات ناجحة ولكن...
لا يخلو الفيلم من مشاهد مشوّقة من بينها، على سبيل المثال، هروب البشر والحيوانات في اتجاه واحد بعيداً عن البركان. والفصل النهائي مع مختلف ألوان القتل والفتك وسقوط الأبرياء. لكنّ السائد من المفارقات يبقى ذاته، خصوصاً في كل وضع يجد فيه بطلا الفيلم غرادي وكلي، نفسيهما على بعد شبر واحد من فم الوحش لكنّهما ينجحان في الإفلات من تلك الأنياب الكبيرة. كل هذا في سبيل الحفاظ على هذه الثروة الوحشية وفي واحد من الحوارات المسلوقة من جينات الأفلام السابقة تقول كلير بأسى: «الديناصورات تموت ولا أحد يكترث». نعم هناك مكترثون من المشاهدين، لكن ليس للغاية الإنسانية ذاتها.
كذلك هناك تلك المؤسسة التي تكترث والتي تمرّ بمخاض عسير للحفاظ على مكتسباتها.
يوفر هذا الفيلم شخصية جديدة تدخل على الخط من دون مقدّمات هي شخصية لوكوود (الرائع جيمس كروموَل): إنّه عجوز طريح الفراش معظم الوقت كان شريكاً لهاموند (رتشارد أتنبوره في الفيلمين الأولين) ثم انفصلا. هاموند كان استثمارياً بطبعه، لكنّ نيات لوكوود نظيفة، وهو يخشى من أن زوج ابنته سيعصف بكل المنجزات العلمية بقيامه باستنساخ وبيع الديناصورات للراغبين في الاقتناء.
وجود لوكوود، ثم مقتله على يد شريكه الحالي الذي يود المضي في استنساخ الديناصورات وبيعها، يحوّل دفة الفيلم - بنجاح - إلى وضع مختلف عمّا كانت عليه الأجزاء الأربعة السابقة. هنا يدخل الفيلم (والسلسلة معه) في مسار جديد حيث ما عادت الديناصورات مجرد وحوش فتاكة، بل صارت رمزا لعالم مضطرب مليء بالنيات الشريرة. صحيح أنّ الرغبة في المتاجرة بتلك الوحوش موجودة منذ الفيلم الأول، لكنّ هذه الوحوش في الفيلم الجديد تنتقل إلى عالمنا الحالي وتعد أنّها ستدمره في الجزء الخامس بلا ريب.
وفي حين تشكّل الاستعانة بالمخرج الإسباني ج. أ. بايونا (الذي من بين أفلامه «المستحيل» مع ناوومي ووتس وإيوان مكريغور قبل ست سنوات) ميزة أنّه جيد في عمله وعين خارجية على سلسلة عايشها من الداخل كل من عمل فيها سابقاً من الأميركيين، إلا أن القليل في السيناريو يرتفع إلى مستوى اختيارات المخرج من مفرداته الفنية. وكما الحال في المشاهد التي يتبنّى فيها الفيلم الجديد مواقف وحلولا سبق للأفلام السابقة أن أمّتها أكثر من مرّة، نجد أنّ الشّخصيات كرتونية وعبارات تلطيف الأجواء بمزاح كوميدي لا تزال تستخدم حتى لا يفوت الفيلم أي فرصة يعتقدها مثمرة.
هذه اللمحات كذلك المؤثرات البارعة المستخدمة لا تنفع كثيراً عندما يدرك المشاهد أنّ أخطاء الشّخصيات كلها هي السبب الوحيد في استمرار الحكايات الواردة. لوكوود الذي وافق على استنساخ البشر، لكنّه غير موافق على استنساخ الديناصورات. بطل الفيلم الذي يقترب من أحد الديناصورات ماداً يده صوبه بينما الأخرى مقبوضة قريباً من صدره كما لو أنّه يستطيع أن يلكم الديناصور إذا ما أساء هذا التّصرف. الشرير ويتلي الذي يتولّى نقل الديناصورات في باخرة (كما نُقل «كينغ كونغ» أكثر من مرّة) وهو يعتقد أنّه أذكى من الديناصور فيحاول قلع واحدا من أنيابه بعد تخديره. من ثمّ يكفي أنّ بطلي الفيلم في سعيهما ليبرهنا على إنسانيّتهما لم يفكرا في المخاطر التي سيتسببان بها عبر الإبقاء على الديناصورات حيّة، ناهيك برغبة نقلها إلى المدن، هذا على الرغم من أنّ تجربتهما في هذا المجال انقلبت وبالاً على عشرات أو ربما مئات الضّحايا في الفيلم السابق.
في كل مثال هنا، وفي سواها، يجد المشاهد نفسه أمام شخصيات افترضت أنّها تستطيع، لكنّها لم تفكر للحظة ما إذا كان ما تقوم به هو الفعل الصحيح أم لا.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)