حول ما جرى في منتدى سان بطرسبورغ

حشد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكبر مجموعة من الزعماء الدوليين إبهاراً يشهدها منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي، الذي استغله في الترويج لنفسه ولروسيا منذ عام 2006. في الواقع، يدين بوتين بالفضل وراء الحضور الكثيف إلى شخص واحد فقط لم يحضر، دونالد ترمب.
في العادة، كان يشارك في الحدث زعيم أجنبي أو اثنان للعمل كثقل موازن أمام بوتين، الذي يلقي خطاباً بارزاً يعمد خلاله إلى الترويج لروسيا كوجهة استثمارية. بيد أنه هذا العام تشارك بوتين، المنصة، مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، والمديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي كريستين لاغارد، ونائب الرئيس الصيني وانغ كيشان. وبدا واضحاً أن ثمة عاملاً مشتركاً يجمع بين الجميع: أنهم جميعاً أثار ترمب سخطهم بصورة أو بأخرى.
من ناحيته، زار ماكرون، الرئيس الأميركي، الشهر الماضي، لمحاولة تثبيطه عن فرض تعريفات مرتفعة على الواردات من الصلب والألومونيوم الأوروبي، بجانب مناشدته عدم الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني المبرم عام 2015، وقد أخفق في المهمتين.
أما آبي فكان من أوائل ضحايا ترمب، وذلك عندما تخلت الولايات المتحدة عن اتفاق الشراكة العابرة للمحيط الهادي، التي كان يمكن أن تفيد اليابان.
بالنسبة لوانغ، نجد أن ترمب يلوح باستمرار بشن حرب تجارية ضد الصين، وإن كان موقفه متذبذباً على هذا الصعيد. علاوة على ذلك، فإن الصين تمثل الداعم الدولي الأكبر لكوريا الشمالية.
ونأتي إلى لاغارد التي تمثل المؤسسات الدولية التي تشكل العمود المؤسسي الفقري للعولمة. وقد أبدى ترمب تجاهلاً واضحاً إزاء القواعد الحاكمة لمثل هذا النظام برمته.
بالنسبة لبوتين، فإنه يغلي من الغضب تجاه العقوبات الاقتصادية الأميركية ضد روسيا، وما يراه منذ أمد بعيد أنه توجهات انفرادية من قبل واشنطن حيال جميع القضايا تقريباً بمختلف أرجاء العالم.
وعليه، يمكن وصف المنتدى الاقتصادي في سان بطرسبرغ هذا العام بأنه يشكل في حقيقة الأمر مجموعة دعم من أشخاص أثار ترمب سخطهم بصورة أو بأخرى. ومع هذا، تجنب المشاركون في المنتدى ذكر اسم الرئيس الأميركي خلال الكلمات التي ألقوها. ولم يقدموا على هذا الأمر سوى لدى إجابتهم عن أسئلة محددة وجهها إليهم الصحافي الذي تولى إدارة الحوار، جون ميكلثويت، رئيس تحرير «بلومبيرغ».
ومن بين الأسباب وراء تردد الحضور إزاء مهاجمة ترمب مباشرة، أنه رغم مرور 16 شهراً على توليه الرئاسة، لم يتوصل أعضاء هذه المجموعة المناهضة لترمب بعد إلى سبيل محدد للتعامل معه. كما أنهم يجابهون صعوبة بالغة في الاتفاق على أجندة مشتركة.
وفي كلمته الافتتاحية، ناشد بوتين الحفاظ على النظام الدولي القائم على قواعد محددة، وتوحيد الصفوف في مواجهة «الأنانية الاقتصادية» والتوجهات الانفرادية (في إشارة بالطبع لترمب). ومع هذا، فإنه بالنسبة لبعض القيادات الأوروبية على الأقل مثل ماكرون ولاغارد، لا بد أن هذه المناشدة من جانب بوتين جاءت غنية بالمفارقة، ذلك أنها تأتي من زعيم بلد غزا دولة مجاورة، وفي يوم الجمعة وجهت له هولندا وأستراليا اتهاماً بإسقاط طائرة ركاب في يوليو (تموز) 2014.
وخلال جلسة الأسئلة والإجابات، تعمد بوتين إثارة ضيق ماكرون بحديثه عن اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة في توفير الأمن. وقال: «لا تقلق، سوف نمدّكم بالأمن». إلا أن ماكرون، في المقابل، أعرب عن رضاه عن الوضع القائم.
من جهته، تحدث آبي عن إمكانات ضخمة للتعاون في مجال الطاقة مع روسيا وعن الاستثمارات اليابانية في أقصى الشرق الروسي. إلا أنه سيبقى من المتعذر تحقيق مثل هذه الشراكة على أرض الواقع دون تسوية النزاع الدائر بين البلدين حول جزر الكوريل، الذي حال دون توقيع البلدين معاهدة سلام بعد الحرب العالمية الثانية. وقد أخفق بوتين وآبي في إحراز تقدم في هذه القضية على امتداد 20 اجتماعاً بينهما حتى اليوم. ومع هذا، استهل آبي كلمته بسيناريو رائع عن بطولة كأس العالم المرتقبة في روسيا يتضمن مواجهة اليابان وروسيا في دور النهائي. ويبدو هذا السيناريو بعيداً عن الواقع بقدر بعد إمكانية التوصل لتسوية للنزاع حول الجزر.
أما نائب الرئيس الصيني، الذي حاول التقليل من حديثه قدر الإمكان، فقد التزم بالحديث عن استراتيجية بلاده الرامية للدخول في حوار مع جميع الأطراف، وعدم التعامل مع أي طرف كعدو، والعمل على التوصل لأفضل اتفاقات ممكنة. بالنسبة للصين، من الواضح أن كلاً من أوروبا والولايات المتحدة وروسيا واليابان والمؤسسات الدولية شركاء غير مقربين.
ورغم أن هناك بالفعل عوامل تمهد لظهور تحالف مناهض لترمب، فإنه بالتأكيد لن يتمركز حول بوتين، الشخص الأكثر عداءً لأميركا داخل المجموعة. في الواقع، هو شخص غير جدير بالثقة تماماً مثل ترمب «بالنسبة لباقي عناصر المجموعة». في الوقت ذاته، فإن ماكرون المفتقر إلى الخبرة ليس بمقدوره أن يصبح قائداً مقنعاً، وكذلك الحال مع رئيس الوزراء الياباني بالنظر إلى الانهماك المفرط من جانب اليابان في مصالحها الإقليمية. أما الصين، فتبدو على مسافة واضحة تفصلها عن الجميع، بينما لا تحمل المؤسسات الدولية أهمية تُذكر دون الولايات المتحدة ويتعين عليها التزام الحياد.
ومع هذا، فإن اجتماع هؤلاء القادة داخل روسيا كان حتماً سيثير قلق أي رئيس أميركي، إلا ترمب الذي يبدو منشغلاً على نحو مفرط بالشؤون السياسية الداخلية، والوعود التي قطعها على نفسه أمام ناخبيه. ويبدو أنه حتى مستشارو ترمب الذين تروق لهم فكرة استعراض واشنطن لعضلاتها، لا يرون في اجتماع سان بطرسبورغ مصدراً للقلق. على الجانب الآخر، بدا الحشد داخل سان بطرسبورغ مشتتاً ومهلهل الصف على نحو لا يوحي حتى ولو ببداية صداقة طيبة بين الأطراف المجتمعة ـ على الأقل حتى الآن. إلا أنه لا يزال أمام ترمب وقت كافٍ في منصبه لدفع هذا الوضع نحو التغير. وينبغي الانتباه إلى العقبات القائمة أمام بناء «ثقة متبادلة» بين المجتمعين في سان بطرسبورغ، ربما تتلاشى إذا ما مضت الولايات المتحدة في المسار المتصلب الذي انتهجته على مدار الشهور الـ16 الماضية.

- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»