تعليم الفلسفة للطفل... تعميقٌ لفضوله أم إجهاضٌ لبراءته؟

يرى البعض أنه أمر مستحب وآخرون يرفضون الفكرة تماما

تعليم الفلسفة للطفل... تعميقٌ لفضوله أم إجهاضٌ لبراءته؟
TT
20

تعليم الفلسفة للطفل... تعميقٌ لفضوله أم إجهاضٌ لبراءته؟

تعليم الفلسفة للطفل... تعميقٌ لفضوله أم إجهاضٌ لبراءته؟

صدر هذا العام كتاب بعنوان: «الطفل والفلسفة» عن دار أفريقيا الشرق، وهو من إعداد وتنسيق عبد الواحد أولاد الفقيهي. وهذا المؤلَف عبارة عن عمل جماعي قام به اثنا عشر من الباحثين وبمشارب تخصصية مختلفة، وهو ما أضفى عليه خصوبة؛ إذ تجد نفسك وكأنك تقرأ كتبا وليس كتابا واحدا. وما دام أن الكتاب متشعب فإننا سنقربه للقارئ في نقط محددة تعطي فكرة عامة عنه، وهنا بيان ذلك:
لقد اجتمع خبراء اليونيسكو في مارس (آذار) 1998 لمناقشة قضية الفلسفة والطفل، فتم تتويج ذلك بتقرير يحمل عنوان: «الفلسفة من أجل الأطفال»، وخلاصته أنه يمكن تعلم التفلسف منذ السنين الأولى لحياة الإنسان، بل تم إعلان أن الأمر مستحب لأسباب فلسفية وسياسية وأخلاقية وتربوية. فهل حقا يمكن ذلك؟ أم أن الفلسفة حكر على الكبار فقط؛ نظرا لطابعها «المجرد» و«المعقد» كما يلح البعض؟
لقد كثرت الإصدارات والدعوات والتجارب في الكثير من بقاع العالم تنادي بحق الطفل في الفلسفة، وبحقه في الدهشة والتأمل والشك والسؤال، فما مبررات التفكير في حاجة الطفل للفلسفة؟ أليس في ذلك إجهاض لبراءة الطفولة وتكسير للنمو النفسي والعقلي للطفل؟
إن الأمر يحتمل الوجهين، فهناك دعاة إمكانية إقحام الطفل في عالم الفلسفة؛ لأنه ذو خيال واسع، وهو بالفطرة فضولي وجريء ومغامر في أسئلته، وعلى العكس من ذلك، هناك من يرى أن الفلسفة ضد الطفولة، فهي تحتاج إلى النضج واستكمال القوى العقلية. فلننظر إذن في بعض من حجج كل فريق.
- الفلسفة لا تصلح للأطفال
يرى ديكارت أن الطفولة هي مرحلة بادئ الرأي، مرحلة السذاجة والاستقبال العفوي للمعارف، سواء باستخدام الحواس الخادعة أو بتلقي أجوبة المجتمع، فالطفل يكدس كمية هائلة من الأفكار التي هي في معظمها خاطئة وغير ذات أساس صلب؛ ولهذا فالفلسفة تأتي متأخرة، أي حينما يستكمل الفرد قواه العقلية التي تمكنه من التسلح بالمنهج الذي يمكنه من التخلص من كل زيف الطفولة.
إن الاعتراض الرئيسي لعدم القبول بممارسة الفلسفة من طرف الأطفال هو أن لهم نقصا معرفيا وذهنيا يحتاج إلى الوقت كي ينضج، فهم عاجزون على القيام باستدلالات منطقية صورية ومجردة يحتاج إليها التفكير الفلسفي بالضرورة. إضافة إلى أن الفلسفة تحتاج إلى ما يسمى «الأشكلة» وهو مستوى عال من التفكير يجعل المتفلسف يضع القضايا في مفارقات غير محسومة الحل، وهو أمر كما نعلم متعب جدا، ويجعل الحياة غير مريحة ومقلقة، وهو ما يتنافى والطفولة الباحثة عن الاطمئنان والسكينة، كما تحتاج أيضا إلى ما يسمى «المفهمة»، أي التعامل مع المفاهيم وبالمفاهيم، وهي كلمات مكثفة ومشحونة بدلالات عميقة لا يقدر الطفل على استيعابها بله تفكيكها، كما تحتاج الفلسفة أيضا إلى ما يسمى «المحاجة»، أي أن الأطروحات الفلسفية لا تقدم عارية دون إقناع منظم وبكل صنوفه: المنطقية والبلاغية والنقلية. وهو ما لا يقدر عليه طفل لا يزال قيد النمو.
إن دعاة عدم صلاحية الفلسفة للأطفال يؤكدون على مسألة أخرى، وهي أن تدريسها فيه خطر نفسي عليهم، فزج الطفل مبكرا في مشكلات الحياة الكبرى هو إجهاض لنموه الطبيعي، فهو له الفرصة حين ينضج لاكتشافها، فتعليم الفلسفة للطفل هو تكسير لبراءته، ودفعه إلى إدراك، سابق للأوان، لمأساوية الحياة. ناهيك على أن الفلسفة ببرودها وجفائها وصلابتها المنطقية، ستكبح خيال الطفل وتهدم له أحلامه، أو بكلمة واحدة ستسرق له طفولته. لكن، ورغم ذلك، فإننا نجد المدافعين عن إمكانية تدريس الفلسفة للأطفال يرون في التهديد النفسي للفلسفة على الطفل أمرا مردودا، فالطفولة ليس كما يروج عادة وبشكل أسطوري أنها عالم براءة بامتياز، فالإنسان منذ أن يرى النور وهو يلقى به في عالم كله تهديد بالموت، وسؤال الموت هو السؤال الفلسفي الأول، كما أن الكثير من الأطفال يعيشون منذ ولادتهم القسوة، حيث يتعرضون للمجاعة والعبودية والشغل وزنا المحارم والبغاء وسوء المعاملة، كما قد ترميهم الأقدار في مناطق تعج بالحروب والاقتتال... وحتى إن وجد الطفل في بلد آمن وتوفر لديه العيش الكريم، فهذا لا يمنع أن يعيش تمزقا أسريا أو عنفا بين الآباء، أو موت الأقرباء... وكلها أمور تجعل الطفل يتساءل رغم أنفه، وهو ما يفرض من وجهة نظرهم تدريس الفلسفة كي يتطبع مع المشهد الإنساني الدرامي، ويكتشف أنه ليس استثناءً. لكن كيف يمكن تدريس الفلسفة للأطفال؟
- الطفل فيلسوف بالقوة
يعد الانطباع العام حول تعليم الفلسفة للطفل صادما وغير مستساغ؛ لأنه في الغالب يتم تصور الفلسفة على أنها تمتاز بالتعقيد والغموض والتجريد وتحتاج إلى الجدية والحزم والصرامة، وتتطلب ملكات عقلية عالية، وهو ما يتنافى وعالم الطفولة الذي هو عالم اللهو والعبث والعفوية والتلقائية، عالم الخيال غير المنضبط، عالم البراءة بامتياز. فكيف نقحم الطفل في عالم غير عالمه؟ يتم الرد على ذلك بالذهاب نحو دهشة الطفل وجرأته في اقتحام المجهول، أليس هو ذلك الكائن الذي يطرح الأسئلة الوجودية الأزلية الأكثر إحراجا؟ (عن الله والأصل والمصير والموت والعدالة)، وهي كما نعلم الأسئلة الفلسفية الكبرى التي أضنت الفلاسفة عبر التاريخ، إلى درجة يمكن القول إن الفلسفة هي الطفولة الدائمة للفكر.
يقول الفيلسوف ياسبرز: «عادة ما يكون للأطفال نوع من العبقرية التي تضيع عندما يصبحون كبارا». فحقا يولد الطفل بذات إبداعية خارقة، وبعقل شجاع، قادر على الخوض في اللانهايات، لكن تأتي إليه التنشئة الاجتماعية لتقمع جرأته، وأحيانا تغتال أفقه وتسيجه بأجوبة جاهزة موروثة. فكل طفل هو بالأساس متحرر، ويتملك خيالا واسعا منفلتا من سطوة المألوف وقيوده، لكن وجراء الإكراه الاجتماعي للراشدين يتم إرغامه على ابتلاع نماذج من الأجوبة القادمة من عمق التاريخ، سواء عن طريق الترغيب أو الترهيب، فيبدأ الاستلاب عند الطفل فيتوقف الإبداع. باختصار نقول: إن الطفل أوسع إبداعا وإمكانا مما تقدمه التنشئة الاجتماعية التي تعمل على خفضه إلى مستواها وهو ما يهدر طاقته الهائلة التي من المفروض أن تستغل في فتح آفاق أكثر رحابة. أما الحل، فيكمن في إعادة النظر في الطرق والبرامج التربوية، سواء في الأسرة أو المدرسة أو الإعلام كي تتوافق وأسئلة الطفل، أو بعبارة أخرى ينبغي العمل على عكس الآية، فعوضا عن أن تسير التنشئة نحو تعليب الأطفال في قوالب جاهزة، ينبغي تكييفها كي تتلاءم والطفل وإمكاناته الهائلة، وهذا لن يتم إلا إذا تم الإيمان بأن الأفق الاجتماعي مجرد إمكان محدود يتجاوزه عقل الطفل بشكل لافت، وكذلك يجب تجاوز منطق القمع والقهر في التربية ومنطق الحقيقة اليقينية، نحو الحوار والإمكانات اللامحدودة، والاقتناع بأن الإمكان البشري أوسع مما جاءنا من التاريخ.
بالطبع، لا يقترح الباحثون زج الطفل في دروس فلسفية منظمة كما في الجامعات، أي دراسة نصوص فلسفية وتلقي محاضرات في القضايا الفلسفية، بل الأمر لا ينبغي أن يتجاوز فتح حوار جماعي مع التلاميذ الصغار حول موضوعات يتعلم من خلالها الطفل الكثير، فأولا سيفهم أنه ليس الوحيد الذي يطرح الأسئلة الكبرى، فهو في ذلك يتشارك مع الآخرين وضعهم المتميز كإنسان، باعتباره كائنا مفكرا، ناهيك عن أن الحوار الجماعي يبرز للطفل نسبية الأجوبة وتعددها وهو ما يراه البعض ضرورة لخلق جو من الديمقراطية، الذي يؤهل الأطفال إلى العمل السياسي حينما يصبحون راشدين.

- الطفل والفلسفة
إعداد وتنسيق عبد الواحد أولاد الفقيهي.
دار النشر: أفريقيا الشرق - 2017.


مقالات ذات صلة

«الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

ثقافة وفنون «الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

«الليلة الكبيرة»... الواقع والفانتازيا يمتزجان عبر لغة ساخرة

يستدعي عنوان رواية «الليلة الكبيرة» للكاتب محمد الفولي حالة من الحنين أو «النوستالجيا» لأوبريت مسرح العرائس الأشهر الذي يحمل الاسم نفسه وتربت عليه الأجيال

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون عبد العزيز المانع

كرسي عبد العزيز المانع... إضافات ثريَّة إلى اللغة العربية

وأنا أكتب عن كرسي الدكتور عبد العزيز المانع في جامعة الملك سعود، وما أضافه هذا الكرسيُّ من إنجازات لهذه الجامعة العريقة، وبالتالي إلى لغتِنا العربية

عبد الجليل الساعدي
ثقافة وفنون «أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

تصدر قريباً عن «دار نوفل - هاشيت أنطوان» رواية «أغالب مجرى النهر» للكاتب الجزائري سعيد خطيبي. وفيها يصوّر الكاتب أناساً انتهتْ بهم الحياة أسرى أقدارهم.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب تقهقر القراءة ينبئ باقتراب «كارثة معرفية»

تقهقر القراءة ينبئ باقتراب «كارثة معرفية»

أثارت نتائج مسح دولي أجرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمهارات القراءة والكتابة والحساب وحل المشكلات

ندى حطيط
كتب سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

تشير كلمة «المشربية» إلى بروز خشبي في المنازل القاهرية القديمة، لا سيما في العصر المملوكي، يتيح لمن داخل الغرفة أن يرى من بالخارج في الطرقات دون أن يراه الآخرون

رشا أحمد (القاهرة)

سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون
TT
20

سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

تشير كلمة «المشربية» إلى بروز خشبي في المنازل القاهرية القديمة، لا سيما في العصر المملوكي، يتيح لمن داخل الغرفة أن يرى من بالخارج في الطرقات دون أن يراه الآخرون، وكانت تتميز بالمهارة والإبداع في الصنع. تشكل تلك الخلفية التاريخية مفتاحاً لفهم كتاب «إنها مشربية حياتي - وأنا العاشق والمعشوق» الصادر عن دار «الشروق» بالقاهرة للكاتب المصري من أصل أرمني توماس جورجسيان.

ينتمي الكتاب إلى «أدب السيرة الذاتية»، ويتسم بالحميمية في السرد والعفوية في استدعاء حكايات الماضي عبر لغة بسيطة وقريبة من المتلقي، وكأن المؤلف يجلس إلى مقهى شعبي ويقص على المحيطين به خبراً من طرف القاهرة في النصف الثاني من القرن العشرين. يعد الكتاب بمثابة رصد لفصل من فصول حياة الأرمن بمصر وأدوارهم البارزة والعميقة كأحد صناع التاريخ المصري الحديث في الأماكن والتجمعات التي أضاءوا شموع البهجة فيها، فضلاً عن مكانتهم الرائدة في العديد من المهن، على رأسها التصوير الفوتوغرافي وفن التمثيل.

يستعيد المؤلف ذكرياته بحي شبرا الشهير، الذي كان له طابع «كوزموبوليتاني» من حيث تعدد الأعراق والثقافات والجاليات الأجنبية، فكان يحتوي على «حضانة أرمينية»، وشهد خطواته الأولى من 1935 حتى 1963 على درب التعلم واكتشاف الذات والبشر، ثم جاءت سنوات الابتدائية والإعدادية بمدرسة «كالوسديان» في شارع «الجلاء» بجوار مصنع الثلج الشهير، وهي مدرسة بمبانيها وملاعبها مارست دورها التعليمي والتربوي لدى أجيال متعاقبة منذ عام 1907.

يستعيد المؤلف ذكرياته بحي "شبرا" الشهير بطابعه "كوزموبوليتاني" من حيث تعدد الأعراق والثقافات
يستعيد المؤلف ذكرياته بحي "شبرا" الشهير بطابعه "كوزموبوليتاني" من حيث تعدد الأعراق والثقافات

بين جدران «كالوسديان»، كانت سنوات النشاة والترعرع والانطلاق والخيال المجنح باللغة الأرمينية ولغة الضاد معاً، حيث تشكلت في فترة الستينات والسبعينات هذه الأجواء الأرمينية المصرية المحيطة به، وبدأ معها عشق اللغات وأبجديتها والإبداع الأدبي والفني، وكذلك محاولاته الأولى للخروج من صمته وتأمله ليتحرر من شخصيته الانطوائية.

اشتهر الحي باستديوهات التصوير التي امتلكها الأرمن مثل استديو «فوبيس» لالتقاط صور عائلية، غالباً سنوية، ترسلها والدته إلى الأقارب للسؤال عنهم وطمأنتهم، وكذلك محل «بطانيان» للزراير ومستلزمات الخياطة والتفصيل والتريكو ودكان جده «توماس»، والد والده، لإصلاح الأحذية وبيع الصنادل.

ويتوقف المؤلف عند والده طويلاً، فهو من مواليد 1911 وكان شاهد عيان على «المذبحة الأرمنية» ورحلة الشتات وهو لا يزال في الرابعة من عمره حيث فقد والدته وأخته، ليصبح هذا الأب ضمن من عُرفوا ووُصفوا فيما بعد في الذاكرة الأرمنية بـ«جيل الطفولة»، جيل لم يعش طفولته ولم يعرف أيامها بما فيها من أمان وعناق ولعب وخيال.

كان الوالد واحداً من هؤلاء، حتى أنه عندما كبر ظل في أغلب الأوقات صامتاً لا يتكلم، أو كان قليل الكلام، ولذلك كلما تكررت من ابنه توماس محاولات متعاقبة على مدى سنوات طويلة لمعرفة المزيد عن تلك الأيام السوداء، كان يجيب بالصمت التام، وقد تأتي أيضاً النظرة الثاقبة وغالباً الدموع التي تطل عبر العينين الحزينتين. وفي يوم لن ينساه توماس أبداً، تساءل الأب مستنكراً: «هل تريد مني أن أتذكر ما حاولت أن أنساه على مدار سنوات عمري؟ هل تريد مني أن أسترجع لحظات أنا لا أريد لها أن تأتي أو تعود لا إليّ أنا ولا إليك أنت من جديد؟». وفي يوم آخر نبهه والده لكثرة خوض ابنه في هذا الموضوع وإصراره على بوح أبيه علناً بكل ما في قلبه. قال الابن مازحاً: «أعمل إيه؟ أستعمل حقي أنا وحقك أنت في الكلام!»، فابتسم الوالد للحظة ولم ينطق بحرف.

والأرمني المصري لمن يتابع حياته وحضوره له طلته ولمسته وهمسته وغنوته ورقصته وأكلاته، وبالتأكيد سمعته، وطبعاً وميض الكاميرا الفوتوغرافية، فكم من مصور أرمني التقط صوراً لطفل بنظراته الحالمة أو لطفلة بشقاوة عيونها، إضافة إلى مصوري الرؤساء والملوك والمشاهير أمثال أرشاك وفان ليو وألبان وإنترو وجارو. وكم من أرمني علَّم الأجيال الجديدة الموسيقى أو الرسم أو النحت أو ضبط أوتار البيانو أو أصلح محرك سيارة جاره أو صاغ خاتم خطوبة أو أسورة زواج.

ويتساءل المؤلف: وماذا عن أغاني شارل أزنافور أو موسيقى آرام خاتشادوريان، أو كتابات ويليام سارويان، أو أفلام أتوم إيجويان؟ مشيراً إلى أن الأخير هو المخرج العالمي الكندي والأرمني الأصل الذي ولد بالقاهرة عام 1960، ثم هاجرت أسرته إلى كندا وحين كان طفلاً يلعب في مدرسته وصفه زملاؤه الصغار بـ«المصري» وهو الذي أخرج فيلم «أرارات» الشهير عن مذبحة الأرمن وأفلاماً أخرى تتناول تعدد الأعراق وتقبل الآخر.

يُعدُّ الكتاب بمثابة رصد لفصلٍ من فصول حياة الأرمن بمصر وأدوارهم البارزة والعميقة كأحد صناع التاريخ المصري الحديث في الأماكن والتجمعات

ويتذكر يوسف أفندي، المصري الأرمني الأصل، أحد المبعوثين إلى أوروبا من جانب محمد علي باشا حاكم مصر في بداية القرن التاسع عشر، وقد رجع يوسف أفندي ومعه الفاكهة الجديدة ليزرعها في مصر وتسمى باسمه ويطلق المصريون عليها «اليوسفي» نسبة إليه.

ويتوقف توماس جورجسيان عن والدته، فيشير إلى أن اسمها «روزيت ديكران مرزيان»، الأم وربة البيت ومعلمة أفراد الأسرة وكل شيء في حياتهم، هي الملكة في مملكتها القائمة في حي شبرا، في تلك الشقة في الطابق الثالث من عمارة رقمها 35 شارع الترعة البولاقية، التي شهدت دفء الأسرة وحنان الأم. كانت نموذجاً للمرأة العظيمة، تلك التي لم تتح لها الظروف أن تكمل تعليمها بعد الابتدائية إلا أنها أرادت واستطاعت أن تعلم نفسها بأكثر من لغة، وأن تقرأ بنهم وبرغبة في المعرفة، وأن تعمل كل ما في وسعها لكي تمكن أولادها من أن يتعلموا ويذهبوا إلى الجامعات. كان يراها دائماً تبتسم برضا وفرح شاكرة الرب الكريم لأنها استطاعت أن تحقق من خلال أولادها ما حلمت به، وتمنت أن تحققه في يوم من الأيام لنفسها. كانت «الملكة والشغالة» في خلية الأسرة، تتسوق احتياجات البيت وتدير شؤون 7 أفراد، هي والأب وثلاث بنات وولدين، ثم تطبخ الأكل وتنظف البيت وتغسل وتكوي الملابس وتستمع إلى مسلسل الراديو في الخامسة والربع مساء، وتتابع مذاكرة وواجباتهم المدرسية، وتصنع الحلويات وأنواع المربى، وتمضي الساعات منكبة على ماكينة الخياطة وأيضاً ترحب بقدوم الأقارب وتتعامل مع زياراتهم المفاجئة.