كرسي عبد العزيز المانع... إضافات ثريَّة إلى اللغة العربية

نال جائزة الملك فيصل وكرَّمته جامعة الملك سعود

عبد العزيز المانع
عبد العزيز المانع
TT
20

كرسي عبد العزيز المانع... إضافات ثريَّة إلى اللغة العربية

عبد العزيز المانع
عبد العزيز المانع

وأنا أكتب عن كرسي الدكتور عبد العزيز المانع في جامعة الملك سعود، وما أضافه هذا الكرسيُّ من إنجازات لهذه الجامعة العريقة، وبالتالي إلى لغتِنا العربية، يجدر التعرَّض إلى كتابه القيّم الذي استقصَى فيه رحلةَ الفرارِ الكبرى للمتنبي ونجاحه في التَّخفي حتى بلغَ مأمنَه.

إنَّه سِفرٌ ثمين يجعل القلبَ يزدادُ نبضاً مع كلّ موضعٍ يحطّ فيه ركبُ الدكتور المانع لتتبّع خطَى هذا الشاعرِ العملاق والفريدِ وأثره.

أقول: لو لم يكن للدكتور المانع إلا سفرُه «على خطى المتنبي» لكفاه فضلاً وشرفاً، لأنَّنا لأول مرةٍ نعرف فيها بالدقة خطة هروبِ المتنبي الكبير والأمكنة التي سار فيها، ونجاح المتنبي في التخفّي عن عيونِ كافور المتربصين به.

هذا الكتاب القيّم، وهذا التَّتبع البديعُ يأخذانك وكأنَّك كنت تسير مع المتنبي في ركبِه وتشعر بشعوره، وتبدو لك مراحلُ الرحلة وكأنَّها دفعاتٌ من الخوف والمتعةِ معاً، لكأنَّك تشاهد فيلماً كاملَ الأركان عن هروبِ هذا الشَّاعرِ العظيم.

أعادَ هذا الكتابُ القيّم ضبطَ الأسماءِ والأماكنِ وتبيان الأخطاء التي وقع فيها القدامى، وحدَّد المواقعَ والطرقات التي سارَ فيها الشاعر.

لقد صبرَ الدكتور المانع صبراً جميلاً لتحقيق هذه الغاية، وهذا بالتأكيد ينمُّ عن شيئين: الأول حبّ البحثِ والاستقصاء. والثَّاني إعجاب الباحثِ بالشاعر.

وبالنَّظر إلى كلّ هذا نرى أنَّ الدكتور عبد العزيز كانَ أهلاً لكل ذلك، والمتتبع لمسيرته سيعلم أنَّه كان يشارك في ندوات قسم اللغة العربية في الجامعة منذ 30 عاماً رغم المناصب الكثيرة التي تولَّاها، وهذا دليلٌ قاطع على أنَّ روح العطاء والاستزادة والحرص على اللغة العربية كانت هاجسَه. وما منْحُه جائزة الملك فيصل في اللغة العربية والأدب لعام 2009، في «تحقيق المؤلفات الأدبية الشعرية والنثرية المصنّفة»، إلا دليلٌ آخرُ على ذلك.

وكان أنْ خُصّص له كرسي في جامعة الملك سعود العريقة.

ونالَ الكرسيُّ جائزةَ الكتاب العربي لعام 2025، التي شارك فيها عددٌ كبير بلغ 1261 مشاركاً تقدَّموا من 35 دولة، وهذا لعمري إنجازٌ كبيرٌ لا يتسنَّى لأحد نيلُه إلا بالمواظبة والتخطيطِ والقدرة العلمية وتنظيم الوقت.

في هذا السياق، كان لنا لقاء مع الدكتور عبد العزيز المانع ليلقي مزيداً من الضوء على هذه السنين التي واكب فيها الكرسي وساهم في إنجازاته.

> مرّت أعوامٌ على إنشاء كرسي المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها؛ أين تضعون الكرسي في قائمة المراكز العلمية ذات المجال نفسه؟

- نعم، مرّ الآن ما يزيد على 15 عاماً على تشريفي بالإشراف على كرسي دراسات اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود، ولا بد لي أن أوضح أن من يجتاز جائزة مثل جائزة الملك فيصل بمكانتها ومقامها يحتاج إلى أن يستمر في العطاء، إن لم يكن في حجمها فليكن قريباً منها. لقد هيّأ الله لي مجالاً واسعاً للاستمرار في النهج العلمي نفسه حين تفضل رئيس الجامعة آنذاك الدكتور عبد الله العثمان بإنشاء هذا الكرسي، فكان لصاحبه ما تمنّى، إذ قرَّر الكرسي بهيئته الموقّرة أن يتوسّع في مجال أنشطته لتشمل المحاضرات والندواتِ والنشـرَ العلمي، وفي مجال النشر العلمي رأى أن يفتح البابَ لكل عمل علمي جاد في العالم العربي، فكان أن نشر الكرسي لباحثين من المغرب وتونس والجزائر ومصر وسوريا والأردن وفلسطين والعراق والبوسنة، إضافة إلى باحثين من المملكة العربية السعودية، وقد تجاوزت عناوين الكتب التي نُشـرت ما يزيد على 60 كتاباً، ما بين تأليف وتحقيق وترجمة، ويعدّ هذا إنتاجاً علميّاً مرضياً لكرسيٍّ محدود الإمكانات، ودون ريب فإنَّ النفسَ تطمح إلى المزيد.

> من المعلوم أن من بين الكتب التي نشـرها الكرسي كتاب «على خطى المتنبي»، وهو كتاب له طعم خاص، إذ يهتم برحلة هروب شاعر العربية أبي الطيب المتنبي، فهل فكرتم في تحويل هذا الكتاب المميز إلى فيلم سينمائي؟

- الكرسي، وربما الجامعة، ليس لديهما التوجّه إلى القيام بعمل ضخم كهذا، وهناك جهة من خارج الجامعة بدأت التفكير الجاد بتحويل الكتاب إلى فيلم عربيّ، والدراسات قائمة الآن، ونسأل الله التوفيق.

وبالمناسبة، هذا الكتاب يُترجَم الآن إلى اللغة الصينية من قبل مكتبة الملك عبد العزيز العامة.

> كيف يجرى اختيار الكتب التي نشرها الكرسي؟ هل ثمة لجنة تطّلع على العناوين وترشّح ما يستحق النشر أم أن الاختيار يكون بشكل فردي من المشرف؟

- نظام النشر في الكرسي يعتمد نظام المجلس العلمي في الجامعة، وهو نظام المجامع والمراكز العلمية المعروفة:

1. يتقدم من لديه كتاب علمي أو تحقيق بكتابه إلى الكرسي طالباً نشره.

2. تُعرض العناوين المقدّمة على هيئة الكرسي المكوّنة من المشرف وعضوية مستشار الكرسي ورئيس قسم اللغة العربية وعضو من أساتذة القسم، على أن يكون بدرجة أستاذ.

3. يستبعد من بين المتقدمين من لا يدخل كتابه في التخصص، أو الكتب التي لا ترقى إلى المستوى العلمي المطلوب.

4. تختار الهيئة العناوين المناسبة للنشـر، وترشّح محكمين اثنين لكل كتاب يكونان من أهل التخصص ولهم مؤلفات أو أبحاث في نفس مجال الكتاب.

5. ترسل الكتب إلى المحكمين للحكم على صلاحيتها للنشر وإعداد تقرير بذلك خلال مدّة لا تتجاوز شهراً من تاريخ التسلّم.

6. بعد وصول تقارير المحكمين، تُرسل التقارير لأصحاب الكتب التي أوصى المحكمون بنشرها ليطلعوا عليها ويعدّلوا ما يلزم، ثم يوقّع معهم عقد لنشر الكتاب.

> كيف ترون دور الكرسي في هذا الوقت بعد النقلة النوعية في مستقبل التأليف، وبعد تصدّر برامج الذكاء الاصطناعي؟

- هذا البرنامج الجديد حسب تقدير العلماء له سلبياته وإيجابياته، وليست العربية هي المتخوّف الوحيد من هذا القادم الجديد فحسب، بل الثقافة العالمية لها الموقف المتخوف نفسه، لكن العربيّة محميّة بكتاب الله - عزّ وجلّ - الذي تعهّد بحفظه، ونحن تحت لوائه محفوظون، بحول الله وقوّته.

نالَ الكرسيُّ جائزةَ الكتاب العربي لعام 2025 التي شارك فيها عددٌ كبير بلغ 1261 مشاركاً تقدَّموا من 35 دولة

> هل أنتم مع فكرة تفرّغ الأساتذة الجامعيين للبحث والتأليف بعد قضائهم مدة طويلة في التدريس؟

ـ ليس هناك ما يمنع أستاذ الجامعة من الجمع بين البحث والتأليف ومهنة التدريس، بل هو مطالب - نظاماً - بذلك لكي يرقى درجات سلم الترقيات العلمية فترة بقائه في الجامعة.

> هل هناك تنافس بين الأساتذة الأكاديميين؟ وهل شعرتم شخصيّاً بذلك؟

ـ مجال البحث العلمي فسيح، ويسع جميع الباحثين، كلٌّ في مجاله وتخصصه، فمن هذا المنظور طبيعيٌّ ألّا يكون هناك تنافس، إذ المكان يتّسع للجميع، بل إنَّ مجال البحث العلمي والتأليف مفتوح على مصراعيه لكل باحث، ونظام الجامعة البحثي إيجابي ومرن وداعم للجميع، ونظام الكراسي خير دليل.

> هل من نصيحة تراها للأكاديميين الجدد؟

- عندما أنهيت برنامج الدكتوراه في بريطانيا، طلب مني الممتحن الخارجي، الدكتور جونستون رئيس قسم الدراسات العربية بجامعة لندن، أن ألقاه في مكتبه عندما أمرّ بلندن في طريقي إلى الرياض، وقد تم ذلك ورافقته إلى منزله وعرّفني على أسرته وأطلعني على مكتبته، وبعد تناول الشاي قال لي ما يلي:

«عندما تصل الرياض وتستقرّ أسريّاً، توجّه إلى مكتبة الجامعة وابدأ بكتابة بحث في الموضوع الذي تراه، وانشره بكل ثقة ودون تخوّف من كماله العلمي. إذا فعلت ذلك تكون قد وطّنت نفسك ووضعت قدمك على بداية موفّقة في طريق البحث العلمي والاستمرار فيه، وإن تأخرت فسوف يموت عندك الاهتمام بالبحث العلمي تدريجيّاً».

هذه كانت نصيحة ذهبية أخذت بها، أقدمها لكل عضو هيئة تدريس في أول مشواره العلمي.

> السؤال الأخير: ما آخر إصداراتكم العلمية؟

ـ آخر الإصدارات هو كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء»، وهو كتاب مشترك بيني وبين الدكتور خوسيه ميغيل، أستاذ الدراسات العربية بجامعة غرناطة. ويهتم الكتاب بتحقيق الشعر المنقوش على جدران قصور الحمراء ونوافذها وقاعاتها ونوافيرها، وقد صدر هذا الكتاب العام الماضي خارج برنامج الكرسي، بدعم كلي من أمانة جائزة الملك فيصل، ولعلها مناسبة طيّبة أن أتقدّم لأمانة الجائزة، ولرئيسها الدكتور عبد العزيز السبيل، بالشكر الجزيل على جهوده في سبيل خروج هذا الكتاب ونشره.


مقالات ذات صلة

الكتب مهّدت لانتصار الغرب الحاسم في الحرب الباردة

كتب تشارلي إنجلش

الكتب مهّدت لانتصار الغرب الحاسم في الحرب الباردة

يبدو اسم كتاب صحافي «الغارديان» البريطانية تشارلي إنجلش الأحدث «نادي الكتاب في وكالة المخابرات المركزية» أقرب لعنوان رواية جاسوسيّة منه لكتاب تاريخ

ندى حطيط
ثقافة وفنون العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

إذا كانت نقاط التقاطع بين صخب الحياة العباسية المدينية، وبين بوادي الحجاز التي كانت مأهولة بالحرمان وشظف العيش في العصر الأموي، هي من الندرة بمكان

شوقي بزيع
ثقافة وفنون مبخرة من موقع مليحة الأثري في إمارة الشارقة

مجمرة من موقع مليحة في الشارقة

أدّت عمليات المسح والتنقيب المتواصلة خلال العقود الأخيرة في دولة الإمارات المتحدة إلى الكشف عن سلسلة من المواقع الأثرية، أبرزها موقع مليحة

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون المدينة الفاضلة

المدينة الفاضلة

كان الصينيون القدامى يتركون عظام جنودهم الذين سقطوا في الحرب، عند أسس بوابات المدينة ومبانيها الرئيسية.

حيدر المحسن
ثقافة وفنون الذاكرة مرتع للكتابة

الذاكرة مرتع للكتابة

فاز كتاب «يغتسل النثر في نهره» بجائزة «أبو القاسم الشابي» في تونس في دورتها الثلاثين 2024، الديوان الشعري الصادر عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع (الأردن).

رشيد أزروال

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي
TT
20

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

العباس بن الأحنف صرخة عذرية في عصر إباحي

إذا كانت نقاط التقاطع بين صخب الحياة العباسية المدينية، وبين بوادي الحجاز التي كانت مأهولة بالحرمان وشظف العيش في العصر الأموي، هي من الندرة بمكان، بحيث يصعب أن نعثر في العصر العباسي الأول على نسخ عذرية مماثلة لمجنون ليلى، وجميل بثينة، وكثيّر عزة. إلا أن ما تقدم لا يعني بالضرورة الغياب التام لحالات التتيم العاطفي وتجارب العشق الصادقة في ذلك العصر. ذلك أن الإشباع الجسدي لا يوقف وجيب القلوب، والحصول على المتعة لا يروي عطش الروح، ولا يوفر للشخص المعني ما يحتاج إليه من الحب والعاطفة الصادقة. وهي الفرضية التي تجد ضالتها المثلى في حالة العباس بن الأحنف، الذي لم تحل حياته المترفة ووسامته الظاهرة، وظرفه المحبب، دون وقوعه في حب «فوز»، المرأة التي شغلته عن كل ما عداها من النساء.

ومع أن الرواة قد اختلفوا حول نشأة العباس ونسبه، حيث ذكر الأصفهاني أنه نشأ في بغداد وينتمي إلى بني حنيفة العرب، وقال الأخفش إنه كان من عرب خراسان، ورأى آخرون أنه نشأ في البصرة ثم وفد إلى بغداد، فقد أجمع المبرّد والصولي والأصمعي على تقريض شعره، ورأى الجاحظ أنه كان شاعراً غزِلاً شريفاً مطبوعاً، وله مذهب حسن ولديباجة شعره رونق وعذوبة، وأنه لم يتجاوز الغزل إلى مديح أو هجاء. لكن اللافت أن الأصفهاني لم يولِ العباس وأخباره الكثير من الاهتمام، ولم يركز إلا على أشعاره الصالحة للغناء، دون أن يأتي على ذكر فوز، أو أيٍّ من معشوقاته الأخريات.

ورغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، مثل ظلوم وذلفاء ونرجس ونسرين وسحر وضياء، ومعظمهن من الجواري، فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي. ومع ذلك، فقد ظلت هويتها الحقيقية في دائرة الغموض واللبس. وحيث ذهب البعض إلى أنها والجارية ظلوم تسميتان لامرأة واحدة، إلا أن قصائد الشاعر تؤكد أن فوز لم تكن جارية، بل امرأة من الأشراف ذات نسب عريق. وفي مواضع عدة يشير العباس إلى أنه أخفى اسم حبيبته الحقيقي خشية على نفسه وعليها، كما في قوله:

كتمتُ اسمها كتمان من صار عرضةً وحاذر أن يفشو قبيح التسمُّعِ

فسمّيتها فوزاً ولو بحتُ باسمها

لسُمِّيتُ باسمٍ هائل الذكْر أشنعِ

وفي بحثها النقدي الاستقصائي عن العباس بن الأحنف، ترى الكاتبة العراقية عاتكة الخزرجي أن حبيبة الشاعر لم تكن «كائناً متخيلاً، بل امرأة من لحم ودم، وأن ديوانه الشعري كان سيرته وقصة قلبه». إلا أن الخزرجي تذهب إلى أبعد من ذلك، فترجح أن تكون فوز هي الاسم المعدل لعليّة بنت المهدي، أخت هارون الرشيد، وأن العباس أخفى هويتها الحقيقية خوفاً من بطش الخليفة، الذي كان الشاعر أحد جلسائه.

وقد كان يمكن لاجتهاد الخزرجي حول هوية فوز، أن يكون أكثر مطابقة للحقيقة، لو لم يشر الشاعر في غير موضع إلى أن حبيبته قد انتقلت للعيش في الحجاز، في حين أن عليّة، ظلت ملازمة لبغداد ولقصر أخيها الرشيد بالذات. وأياً تكن هوية حبيبة العباس الحقيقية، فقد بدت المسافة الشاسعة التي تفصله عنها، بمثابة النقمة والنعمة في آن واحد. فهي إذ تسببت له بالكثير من الجروح العاطفية والروحية، إلا أنها منحته الفرصة الملائمة لإحالتها إلى خانة الشعر، ولتحويلها نداءً شجياً في صحراء الغربة الموحشة، كقوله فيها:

أزيْنَ نساءِ العالمين أجيبي

دعاء مشوُقٍ بالعراق غريبِ

أيا فوز لو أبصرتِني ما عرفْتني

لطول نحولي دونكم وشحوبي

أقول وداري بالعراق، ودارها

حجازيةٌ في َحرّةٍ وسهوبِ

أزوّار بيت الله مُرّوا بيثربٍ

لحاجة متبولِ الفؤاد كئيبِ

ولو تركنا هذه الأبيات غفلاً من الاسم، لذهب الظن إلى أن ناظمها الفعلي هو جميل بثينة أو مجنون ليلى. وليس من قبيل الصدفة أن ينسب الرواة إلى العباس، ما نُسب قبله إلى المجنون، ومن بينها مقطوعة «أسرْب القطا هل من يعير جناحه؟» المثبتة في ديوانَي الشاعرين. وإذا كان لذلك من دلالة، فهي أن هاجس العباس الأهم، كان يتمثل في إعادة الاعتبار للشعر العذري بوصفه الحلقة المفقودة في الحب العباسي، إضافة إلى أنه أراد في ظل القامات الشاهقة لأبي نواس وأبي تمام وغيرهما، أن يحقق عبر الحب العذري، ما يمنحه هويته الخاصة ويمهد له الطريق إلى الخلود. وهو ما يظهر في قوله إن التجربة التي اختبرها سوف تكون «سنناً للناس»، أو قوله: «وصرنا حديثاً لمن بعدنا، تحدّث عنا القرونُ القرونا».

وإذ يقارب المستشرق الفرنسي جان كلود فاديه في كتابه «الغزل عند العرب»، تجربة العباس من زاوية كونها خروجاً على التجارب الحسية البحتة لمعاصريه، يتوقف ملياً عند حبه لفوز، متسائلاً عما إذا كانت الأخيرة قد وُجدت حقاً، أم أن الشاعر قد ألفها من عنديات توقه للمرأة الكاملة. وإذا كان فاديه قد رأى في فوز المعادل الشرقي لبياتريس، حبيبة دانتي في «الكوميديا الإلهية»، فإن النموذج الغزلي الذي راح العباس ينسج على منواله، هو نموذج عربي بامتياز. وحيث كانت البيئة الحاضنة لشعره خالية من البوادي المقفرة والفقر المدقع، فقد استعاض الشاعر عن الصحراء المحسوسة، بصحراء الحب المستحيل الذي يلمع كالسراب في أقاصي العالم، موفراً له ما يلزمه من بروق المخيلة ومناجم الإلهام.

ومع أن العباس كان يسير عبر قصائده الغزلية والعاطفية، في اتجاه معاكس لنظرائه ومجايليه من الشعراء، فإن من يقرأ ديوانه لا بد أن ينتابه شعور ما، بأنه ليس إزاء شاعر واحد متجانس التجربة والمعجم والأسلوب، بل إزاء نسختين أو أكثر من الشخص إياه. فهناك القصائد الطويلة المترعة بالحسرة والوجد، التي تحتل فوز مكان الصدارة فيها، وهناك بالمقابل النصوص القصيرة ذات المعاني والمفردات المستهلكة، التي يدور معظمها حول مغامرات الشاعر العابرة مع القيان والجواري. إلا أن ما يدعو إلى الاستغراب هو أن يكون بين المنظومات المهداة إلى فوز ما هو متكلف ومستعاد وسطحي، كمثل قوله:

أيا سيدة الناسِ

لقد قطّعت أنفاسي

يلوموني على الحبّ

وما في الحب من باسِ

ألا قد قدُمتْ فوزٌ

فقرَّت عينُ عباسِ

رغم أن العباس يعرض في ديوانه للكثير من النساء، ومعظمهن من الجواري فإن فوز هي التي احتلت النصيب الأوفر من شعره الغزلي

ولعل الأمر يجد تفسيره في كون العباس لم يحصر اسم فوز في المرأة التي محضها قلبه، بل استعاره لغير واحدة من نسائه العابرات. إضافة إلى أن رغبته بأن تصدح بهذا الاسم حناجر المغنين والمغنيات، جعلته يتنازل عن سقف شعريته العالي، لمصلحة النصوص السهلة والصالحة للغناء، خصوصاً أن احتفاء عصره بهذا الفن، لم يكن موازياً لاحتفاء الأمويين به فحسب، بل كان متجاوزاً له بفعل التطور والرخاء واختلاط الشعوب والثقافات.

وعلينا ألا نغفل أيضاً أن النزوع النرجسي للعباس، قد دفعه إلى أن يصيب بقصائده ومقطوعاته أكثر من هدف. فرغبته في أن يحاكي التجربة الفريدة لعمر بن أبي ربيعة، والتي جعلته يكرس بعضاً من النصوص لسرد فتوحاته ومغامراته العاطفية التي يواجه فيها المخاطر ليظفر بامرأته المعشوقة، لم تحل دون رغبته الموازية في التماهي مع تجارب العذريين الكبار، وما يستتبعها من بوح صادق وشفافية مفرطة.

إلا أن المقارنة بين النموذجين الحسي والمتعفف في تجربة الشاعر، لا بد أن تصبح في مصلحة هذا الأخير، حيث يذهب العباس بعيداً في الشغف وحرقة النفس، وفي الأسئلة المتصلة بالحب واللغة والفراق والموت. وهو إذ يحول العناصر والمرئيات مرايا لروحه الظامئة إلى الحب، تتراءى له فوز في كل ما يلوح له من الأشياء وظواهر الطبيعة، حتى إذا أبصر السيل منحدراً من أعالي الهضاب، تذكر أن ثمة في مكان قريب، حبيبة له «مسيلة» للحنين والدموع وآلام الفراق، أنشد قائلاً:

جرى السيلُ فاستبكانيَ السيلُ إذ

جرى وفاضت له من مقلتيّ سروبُ

وما ذاك إلا حيث أيقنتُ أنه

يمرُّ بوادٍ أنتِ منه قريبُ

يكون أجاجاً دونكمْ فإذا انتهى

إليكمْ تلقَّى طيبكمْ فيطيبُ

أيا ساكني شرقيّ دجلةَ كلُّكمْ

إلى النفس من أجل الحبيب حبيبُ