كرسي عبد العزيز المانع... إضافات ثريَّة إلى اللغة العربية

نال جائزة الملك فيصل وكرَّمته جامعة الملك سعود

عبد العزيز المانع
عبد العزيز المانع
TT

كرسي عبد العزيز المانع... إضافات ثريَّة إلى اللغة العربية

عبد العزيز المانع
عبد العزيز المانع

وأنا أكتب عن كرسي الدكتور عبد العزيز المانع في جامعة الملك سعود، وما أضافه هذا الكرسيُّ من إنجازات لهذه الجامعة العريقة، وبالتالي إلى لغتِنا العربية، يجدر التعرَّض إلى كتابه القيّم الذي استقصَى فيه رحلةَ الفرارِ الكبرى للمتنبي ونجاحه في التَّخفي حتى بلغَ مأمنَه.

إنَّه سِفرٌ ثمين يجعل القلبَ يزدادُ نبضاً مع كلّ موضعٍ يحطّ فيه ركبُ الدكتور المانع لتتبّع خطَى هذا الشاعرِ العملاق والفريدِ وأثره.

أقول: لو لم يكن للدكتور المانع إلا سفرُه «على خطى المتنبي» لكفاه فضلاً وشرفاً، لأنَّنا لأول مرةٍ نعرف فيها بالدقة خطة هروبِ المتنبي الكبير والأمكنة التي سار فيها، ونجاح المتنبي في التخفّي عن عيونِ كافور المتربصين به.

هذا الكتاب القيّم، وهذا التَّتبع البديعُ يأخذانك وكأنَّك كنت تسير مع المتنبي في ركبِه وتشعر بشعوره، وتبدو لك مراحلُ الرحلة وكأنَّها دفعاتٌ من الخوف والمتعةِ معاً، لكأنَّك تشاهد فيلماً كاملَ الأركان عن هروبِ هذا الشَّاعرِ العظيم.

أعادَ هذا الكتابُ القيّم ضبطَ الأسماءِ والأماكنِ وتبيان الأخطاء التي وقع فيها القدامى، وحدَّد المواقعَ والطرقات التي سارَ فيها الشاعر.

لقد صبرَ الدكتور المانع صبراً جميلاً لتحقيق هذه الغاية، وهذا بالتأكيد ينمُّ عن شيئين: الأول حبّ البحثِ والاستقصاء. والثَّاني إعجاب الباحثِ بالشاعر.

وبالنَّظر إلى كلّ هذا نرى أنَّ الدكتور عبد العزيز كانَ أهلاً لكل ذلك، والمتتبع لمسيرته سيعلم أنَّه كان يشارك في ندوات قسم اللغة العربية في الجامعة منذ 30 عاماً رغم المناصب الكثيرة التي تولَّاها، وهذا دليلٌ قاطع على أنَّ روح العطاء والاستزادة والحرص على اللغة العربية كانت هاجسَه. وما منْحُه جائزة الملك فيصل في اللغة العربية والأدب لعام 2009، في «تحقيق المؤلفات الأدبية الشعرية والنثرية المصنّفة»، إلا دليلٌ آخرُ على ذلك.

وكان أنْ خُصّص له كرسي في جامعة الملك سعود العريقة.

ونالَ الكرسيُّ جائزةَ الكتاب العربي لعام 2025، التي شارك فيها عددٌ كبير بلغ 1261 مشاركاً تقدَّموا من 35 دولة، وهذا لعمري إنجازٌ كبيرٌ لا يتسنَّى لأحد نيلُه إلا بالمواظبة والتخطيطِ والقدرة العلمية وتنظيم الوقت.

في هذا السياق، كان لنا لقاء مع الدكتور عبد العزيز المانع ليلقي مزيداً من الضوء على هذه السنين التي واكب فيها الكرسي وساهم في إنجازاته.

> مرّت أعوامٌ على إنشاء كرسي المانع لدراسات اللغة العربية وآدابها؛ أين تضعون الكرسي في قائمة المراكز العلمية ذات المجال نفسه؟

- نعم، مرّ الآن ما يزيد على 15 عاماً على تشريفي بالإشراف على كرسي دراسات اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود، ولا بد لي أن أوضح أن من يجتاز جائزة مثل جائزة الملك فيصل بمكانتها ومقامها يحتاج إلى أن يستمر في العطاء، إن لم يكن في حجمها فليكن قريباً منها. لقد هيّأ الله لي مجالاً واسعاً للاستمرار في النهج العلمي نفسه حين تفضل رئيس الجامعة آنذاك الدكتور عبد الله العثمان بإنشاء هذا الكرسي، فكان لصاحبه ما تمنّى، إذ قرَّر الكرسي بهيئته الموقّرة أن يتوسّع في مجال أنشطته لتشمل المحاضرات والندواتِ والنشـرَ العلمي، وفي مجال النشر العلمي رأى أن يفتح البابَ لكل عمل علمي جاد في العالم العربي، فكان أن نشر الكرسي لباحثين من المغرب وتونس والجزائر ومصر وسوريا والأردن وفلسطين والعراق والبوسنة، إضافة إلى باحثين من المملكة العربية السعودية، وقد تجاوزت عناوين الكتب التي نُشـرت ما يزيد على 60 كتاباً، ما بين تأليف وتحقيق وترجمة، ويعدّ هذا إنتاجاً علميّاً مرضياً لكرسيٍّ محدود الإمكانات، ودون ريب فإنَّ النفسَ تطمح إلى المزيد.

> من المعلوم أن من بين الكتب التي نشـرها الكرسي كتاب «على خطى المتنبي»، وهو كتاب له طعم خاص، إذ يهتم برحلة هروب شاعر العربية أبي الطيب المتنبي، فهل فكرتم في تحويل هذا الكتاب المميز إلى فيلم سينمائي؟

- الكرسي، وربما الجامعة، ليس لديهما التوجّه إلى القيام بعمل ضخم كهذا، وهناك جهة من خارج الجامعة بدأت التفكير الجاد بتحويل الكتاب إلى فيلم عربيّ، والدراسات قائمة الآن، ونسأل الله التوفيق.

وبالمناسبة، هذا الكتاب يُترجَم الآن إلى اللغة الصينية من قبل مكتبة الملك عبد العزيز العامة.

> كيف يجرى اختيار الكتب التي نشرها الكرسي؟ هل ثمة لجنة تطّلع على العناوين وترشّح ما يستحق النشر أم أن الاختيار يكون بشكل فردي من المشرف؟

- نظام النشر في الكرسي يعتمد نظام المجلس العلمي في الجامعة، وهو نظام المجامع والمراكز العلمية المعروفة:

1. يتقدم من لديه كتاب علمي أو تحقيق بكتابه إلى الكرسي طالباً نشره.

2. تُعرض العناوين المقدّمة على هيئة الكرسي المكوّنة من المشرف وعضوية مستشار الكرسي ورئيس قسم اللغة العربية وعضو من أساتذة القسم، على أن يكون بدرجة أستاذ.

3. يستبعد من بين المتقدمين من لا يدخل كتابه في التخصص، أو الكتب التي لا ترقى إلى المستوى العلمي المطلوب.

4. تختار الهيئة العناوين المناسبة للنشـر، وترشّح محكمين اثنين لكل كتاب يكونان من أهل التخصص ولهم مؤلفات أو أبحاث في نفس مجال الكتاب.

5. ترسل الكتب إلى المحكمين للحكم على صلاحيتها للنشر وإعداد تقرير بذلك خلال مدّة لا تتجاوز شهراً من تاريخ التسلّم.

6. بعد وصول تقارير المحكمين، تُرسل التقارير لأصحاب الكتب التي أوصى المحكمون بنشرها ليطلعوا عليها ويعدّلوا ما يلزم، ثم يوقّع معهم عقد لنشر الكتاب.

> كيف ترون دور الكرسي في هذا الوقت بعد النقلة النوعية في مستقبل التأليف، وبعد تصدّر برامج الذكاء الاصطناعي؟

- هذا البرنامج الجديد حسب تقدير العلماء له سلبياته وإيجابياته، وليست العربية هي المتخوّف الوحيد من هذا القادم الجديد فحسب، بل الثقافة العالمية لها الموقف المتخوف نفسه، لكن العربيّة محميّة بكتاب الله - عزّ وجلّ - الذي تعهّد بحفظه، ونحن تحت لوائه محفوظون، بحول الله وقوّته.

نالَ الكرسيُّ جائزةَ الكتاب العربي لعام 2025 التي شارك فيها عددٌ كبير بلغ 1261 مشاركاً تقدَّموا من 35 دولة

> هل أنتم مع فكرة تفرّغ الأساتذة الجامعيين للبحث والتأليف بعد قضائهم مدة طويلة في التدريس؟

ـ ليس هناك ما يمنع أستاذ الجامعة من الجمع بين البحث والتأليف ومهنة التدريس، بل هو مطالب - نظاماً - بذلك لكي يرقى درجات سلم الترقيات العلمية فترة بقائه في الجامعة.

> هل هناك تنافس بين الأساتذة الأكاديميين؟ وهل شعرتم شخصيّاً بذلك؟

ـ مجال البحث العلمي فسيح، ويسع جميع الباحثين، كلٌّ في مجاله وتخصصه، فمن هذا المنظور طبيعيٌّ ألّا يكون هناك تنافس، إذ المكان يتّسع للجميع، بل إنَّ مجال البحث العلمي والتأليف مفتوح على مصراعيه لكل باحث، ونظام الجامعة البحثي إيجابي ومرن وداعم للجميع، ونظام الكراسي خير دليل.

> هل من نصيحة تراها للأكاديميين الجدد؟

- عندما أنهيت برنامج الدكتوراه في بريطانيا، طلب مني الممتحن الخارجي، الدكتور جونستون رئيس قسم الدراسات العربية بجامعة لندن، أن ألقاه في مكتبه عندما أمرّ بلندن في طريقي إلى الرياض، وقد تم ذلك ورافقته إلى منزله وعرّفني على أسرته وأطلعني على مكتبته، وبعد تناول الشاي قال لي ما يلي:

«عندما تصل الرياض وتستقرّ أسريّاً، توجّه إلى مكتبة الجامعة وابدأ بكتابة بحث في الموضوع الذي تراه، وانشره بكل ثقة ودون تخوّف من كماله العلمي. إذا فعلت ذلك تكون قد وطّنت نفسك ووضعت قدمك على بداية موفّقة في طريق البحث العلمي والاستمرار فيه، وإن تأخرت فسوف يموت عندك الاهتمام بالبحث العلمي تدريجيّاً».

هذه كانت نصيحة ذهبية أخذت بها، أقدمها لكل عضو هيئة تدريس في أول مشواره العلمي.

> السؤال الأخير: ما آخر إصداراتكم العلمية؟

ـ آخر الإصدارات هو كتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء»، وهو كتاب مشترك بيني وبين الدكتور خوسيه ميغيل، أستاذ الدراسات العربية بجامعة غرناطة. ويهتم الكتاب بتحقيق الشعر المنقوش على جدران قصور الحمراء ونوافذها وقاعاتها ونوافيرها، وقد صدر هذا الكتاب العام الماضي خارج برنامج الكرسي، بدعم كلي من أمانة جائزة الملك فيصل، ولعلها مناسبة طيّبة أن أتقدّم لأمانة الجائزة، ولرئيسها الدكتور عبد العزيز السبيل، بالشكر الجزيل على جهوده في سبيل خروج هذا الكتاب ونشره.


مقالات ذات صلة

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

ثقافة وفنون بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة

هاشم صالح
ثقافة وفنون التحليل النفسي للنار

التحليل النفسي للنار

عاد الشتاء وعاد التحديق الموسمي في النار. النار ليست مادة، بل لغز. تاريخياً، لم يكن طهي الطعام والدفء هما الغرضان الوحيدان،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون «سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

عن مركز أبو ظبي للغة العربية صدرت رواية «سنوات المغر» للكاتبة والشاعرة الإماراتية مريم الزرعوني، وذلك ضمن مشروع «قلم»، الذي «يدعم رعاية الأصوات السردية الإمارات

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق طفل يبحث عما يشبهه من كتب تحاكي ذاته (الشرق الأوسط)

650 ألف زائر يرسخ مكانة معرض جدة للكتاب كمنصة ثقافية إقليمية

مع رحيل آخر أيام معرض جدة للكتاب، يطرح المشهد الثقافي جملةً من الأسئلة حول المعرض وترسيخ مكانته كأحد أبرز الفعاليات الثقافية في المملكة.

سعيد الأبيض (جدة)
يوميات الشرق الكاتبة خيرية المغربي مع إصداراتها الأدبية (الشرق الأوسط)

«فلمّا أفَلَت»... حين تدخل الرواية السعودية إلى فضاء السؤال الفكري

في مشهد ثقافي سعودي يتسع للأسئلة بقدر ما يحتفي بالحكايات، تبرز أعمال روائية لم تعد تكتفي برصد التحولات الاجتماعية، بل تمضي أبعد من ذلك، نحو مساءلة الفكر.

أسماء الغابري (جدة)

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان
TT

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

بعض ذكريات مع أحمد أبو دهمان

تشكل «الحزام» مفخرة ليس فقط لأحمد أبو دهمان وإنما للأدب السعودي الحديث كله بل وللآداب العربية بأسرها لقد أتاح لي الحظ أن أتعرف على أحمد أبو دهمان لأول مرة في ذلك الدرس الأسبوعي الكبير للبروفسور محمد أركون في السوربون. كان دائماً برفقة شخص آخر هو معجب الزهراني. وكنا نرى فيهما الوجه المشرق والمتألق للمملكة العربية السعودية. وما كنا نعرف آنذاك أن معجب سيصبح لاحقاً أحد أشهر المثقفين العرب. وسوف يتبوأ أعلى المناصب في العاصمة الفرنسية: مديراً عاماً لمعهد العالم العربي. كان طالباً عادياً مثلنا لا أكثر ولا أقل. وقد شعرنا بالفخر آنذاك لأن أحد أبناء جيلنا وصل إلى هذا المنصب الرفيع. هذا ناهيك بكونه ناقداً أدبياً وأستاذاً جامعياً لامعاً. وأعتقد أن أحمد أبو دهمان كان فخوراً به إلى أقصى الحدود. كنا مجموعة من الطلاب العرب نحضر تلك الدروس الشهيرة في ثمانينات القرن الماضي وربما تسعيناته. وهي الدروس التي جددت الفكر العربي الإسلامي بشكل غير مسبوق. إنها دروس دخلت التاريخ من أوسع أبوابه بل ودشنت التاريخ العربي ما بعد الأصولي. وقد أصبح بعض طلابه من المشاهير لاحقاً. فبالإضافة إلى الدكتور معجب الزهراني يخطر على بالي الآن شخص آخر نال شهرة واسعة هو الدكتور التونسي محمد الحداد. وهناك حتماً آخرون في مشرق العالم العربي ومغربه ممن خرجهم ذلك الدرس الأكاديمي العبقري الخالد.

فيما بعد توطدت علاقتي بأحمد أبو دهمان عندما تفضل علي واستكتبني في جريدة «الرياض» الغراء. ولم أكن معروفاً آنذاك كثيراً. ولكنها ساهمت في التعريف بي عندما نشرت مقالاتي على صفحاتها الثقافية تحت إشراف الشاعر سعد الحميدين. وكنت أشعر بمتعة كبيرة في تدبيج تلك المقالات وتسليمها له باليد كل أسبوع لكي يرسلها إلى الجريدة. كان يعطيني عادة موعداً في مقاهي باريس القريبة من منزله في الدائرة الخامسة عشرة. وهي منطقة اليونيسكو وبرج إيفل في الواقع: أي من أرقى المناطق الباريسية وأحلاها. وكنا نتحادث كثيراً في المقهى ويجر الحديث الحديث. وما أمتع الحديث مع أحمد أبو دهمان. ما أمتع تلك الأحاديث الباريسية أيام زمان. كم أصبحت الآن بعيداً عنها وعني. وفي عهده الميمون بصفته مسؤولاً عن جريدة الرياض في باريس لم يكتف بنشر مقالاتي المتفرقة على صفحات الجريدة السعودية الكبيرة وإنما كلفني أيضاً بنشر كتابين لا كتاب واحد في سلسلة «كتاب الرياض». وهي سلسلة مشهورة ولها وزنها. وقد كان الكتاب الأول بعنوان: «قراءة في الفكر الأوروبي الحديث»، والثاني بعنوان: «العلم والإيمان في الغرب الحديث». وهما أول كتابين أنشرهما في حياتي. ومن ثمّ فجريدة الرياض لها فضل كبير علي.

ثم ابتدأت في السنوات اللاحقة أنشر أكثر فأكثر على صفحات «الشرق الأوسط» وانقطعت علاقتي مع الرياض تدريجياً. وقد تزامن ذلك مع عودتي إلى المغرب وعودته هو إلى السعودية.

كنا نعرف أحمد أبو دهمان كاتباً حساساً وصحافياً لامعاً لاذع الأسلوب أحياناً. ولكن ما كنا نعرف أنه روائي يستطيع السيطرة على فن القصة من أولها إلى آخرها. وهنا تكمن المفاجأة الأولى لكل من يعرفونه من كثب. يحصل ذلك كما لو أنه خبأ سره أو لعبته زمناً طويلاً حتى انفجرت في آخر لحظة كالقنبلة الموقوتة. ولكن هل كان هو ذاته يعرف أنه قادر على فن السرد الروائي إلى مثل هذا الحد. ألم يكن يحسب نفسه شاعراً، وشاعراً فقط. وقد كان شاعراً بالفعل. وروايته تضج بالشعر. هذا لا يمنع ذاك. في الواقع أن الكاتب (أي كاتب) لا يعرف من هو بالضبط قبل أن يجرب نفسه. من المعلوم أن نجيب محفوظ كان يعتقد في البداية أنه سيصبح مفكراً أو فيلسوفاً على طريقة طه حسين. ولذلك راح يدبج المقالات الفكرية أو الاجتماعية قبل أن يكتشف في حناياه موهبته الضخمة بوصفه روائياً عبقرياً.

أما المفاجأة الثانية في حالة أحمد أبو دهمان فهي أنه يكتب روايته الأولى بالفرنسية وينجح نجاحاً باهراً. ولعله المشرقي الوحيد الذي حقق هذا الاختراق في الساحة الفرنسية إذا ما استثنينا أمين معلوف بالطبع. ولكن أمين معلوف لبناني تعلم الفرنسية منذ نعومة أظفاره وليس على كبر كما هي حالة أبو دهمان وحالتنا جميعاً. وأما المفاجأة الثالثة فهي أن الرواية (رواية الحزام) حظيت بالطبع في أشهر دور النشر الباريسية: غاليمار. ومعلوم كم هو من الصعب الوصول إلى هذه الدار التي لا تنشر عادة إلا لكبار الكتاب المكرسين سابقاً. ثلاث مفاجآت دفعة واحدة كانت كافية لكي تجعل من هذه الرواية السعودية حدثاً ثقافياً على كلا المستويين العربي والفرنسي. ولكن عن أي شيء نتحدث بالضبط؟ ما مضمون هذه الرواية؟

لنقل باختصار شديد إنها سيرة ذاتية مقنعة. بالطبع فإن الكاتب يستطيع أن يختبئ خلف الروائي بطل القصة ويقول: لا تصدقوا ما أقول. هذا كله خيال في خيال. لا تأخذوا الكلام على حرفيته فهناك دائماً مسافة بين الكتابة الروائية والواقع الحقيقي. وهذا صحيح. ولكن لا أحد يستطيع أن يمنعنا من الاعتقاد بأن الكاتب استوحى أحداث الرواية من حياته الشخصية خاصةً. فهناك توازٍ (إن لم يكن تطابقاً) بين حياة البطل وحياة أحمد أبو دهمان ذاته. ويتجلى هذا التطابق عندما يقول الراوي إنه سيصبح صحافياً لاحقاً، أو عندما يتحدث باستمرار باسم ضمير الشخص الأول، أو عندما يصف مساره من القرية إلى مدينة «أبها» عاصمة الإقليم، إلخ. وهو مسار كلاسيكي معهود لجميع أبناء الريف الفقراء الذين يريدون أن يتعلموا ويخرجوا من هامشيتهم ويصعدوا في المراتب الاجتماعية ويصلوا... وفي هذا الصعود إلى القمة تتجلى لنا ضخامة الصعوبات والعراقيل التي تعترض طريقهم. ينبغي أن يخترقوا عدة حواجز قبل أن يصلوا. ولا يصل في نهاية المطاف إلا النجباء منهم والذين عانوا الأمرّين وصبروا حتى النهاية. وهكذا تنطبق عليهم كلمة نيتشه الشهيرة: «وحدها الشخصيات الاستثنائية تخترق الظروف».

هناك إذن ثلاث بيئات في الرواية: بيئة القرية الأولى، وبيئة مدينة أبها عاصمة الإقليم، وبيئة العاصمة المركزية الكبرى: الرياض. وقد توقف الكاتب طويلاً عند تصوير البيئة الأولى بكل حجرها وشجرها وبشرها وطبيعتها. وقدم لنا لوحات أخاذة لا تقل جاذبية عن أجمل اللوحات الفنية ورسوم المدرسة الانطباعية الفرنسية. ويبدو أن الكاتب كان يجد متعة كبيرة في استعادتها واستذكارها وهو بعيد عنها في باريس. فهل الرواية عبارة عن تصفية حسابات مع الذات والطفولة بالمعنى الإيجابي للكلمة وليس السلبي؟ دون شك. لنقل إنها مراجعة للذات واستكشاف لهوية الذات وأعماقها على كبر. إنها بحث عن الجذور وحنين جارف إلى الأصول لشخص أراد تخليد قريته وطفولته في عمل أدبي رفيع. وربما لهذا السبب نشرتها غاليمار في سلسلة «الطفولة الأولى». بعد أن كتب هذه الرواية يستطيع أحمد أبو دهمان أن يتنفس الصعداء ويقول: لقد أديت واجبي وسددت ديوني. لقد تصالحت مع نفسي.

هناك مشاهد سينمائية أو شبه سينمائية في الرواية حتى لكأنك تحسها وتراها بأم عينيك. ومنها مشهد ذهاب أمه في منتصف الليل لجمع الحطب مع نساء القرية كما كانت تفعل أمي أنا أيضاً. إنه مشهد يصعب عليك أن تمر عليه مرور الكرام دون أن ترتجف. بالمختصر المفيد ما يلي: كل النساء العائدات وأكوام الحطب على رؤوسهن يمضغن بعض الخبز لتخفيف العناء والتعب والجوع ما عدا أمه التي تعض على الحبل بنواجذها موهمة بأنها تأكل شيئاً مثلهن. لقد قتلني هذا المقطع قتلاً، دمرني تدميراً. ولكنه أحياني وأنعشني في الوقت نفسه لأنه أعادني إلى طفولتي العميقة، طفولتي السحيقة. شكراً أحمد أبو دهمان. ألف شكر. إنه الفقر المدقع، الفقر الأسود، ولكنه الممزوج بالشرف وعزة النفس.

هذه قراءة سريعة وناقصة جداً لرواية أحمد أبو دهمان، التي دخلت التاريخ الآن. وهي تشكل مفخرة ليس فقط له، وإنما للأدب السعودي الحديث كله، بل وللآداب العربية بأسرها. تحية لك يا أحمد. تحية لك كاتباً مبدعاً وفارساً عربياً ترجل. كنا نتمنى لو بقيت معنا فترة أطول.


التحليل النفسي للنار

التحليل النفسي للنار
TT

التحليل النفسي للنار

التحليل النفسي للنار

عاد الشتاء وعاد التحديق الموسمي في النار. النار ليست مادة، بل لغز. تاريخياً، لم يكن طهي الطعام والدفء هما الغرضان الوحيدان، بل كان الإنسان يصف صلي عظامه وجروحه بالنار علاجاً لكل أوجاعه التي يعرفها والتي لا يعرفها، كقوة تطهير. من الصداع وأوجاع الظهر إلى عضّات الحيوانات ولسع العقارب والحيّات، كان يعالج كل ذلك بالاصطلاء والكي.

لكن التحديق في النار وفي حركتها الأفعوانية التي لا تستقر على شكل ثابت ولا تعيد نفسها مرتين، يشعر بأن هذا المشهد ليس مجرد رؤية عابرة، بل انجذاب صامت يعلق بالفكر. ثمة شيء في النار يدعو إلى السكون أمام شيء ذي قداسة وهيبة. كأنها تخاطب طبقة أقدم من العقل، طبقة لا تستجيب بسهولة للتفسير. في لحظة التحديق يأبى الذهن بغريزته الأولى، كل محاولة لاختزالها إلى شيء محدد. النار لا تحضر أمامي كجسم، بل كفعل وحركة خالصة. إنها صيرورة تُرى ولا تُمسك. ولهذا يبدو أي تعريف مادي لها ناقصاً منذ البداية، مهما بدا مطمئناً أو دقيقاً.

تقول الفيزياء والكيمياء الحديثة إن اللهب ليس مادة صلبة ولا سائلة، بل مزيج من غازات متوهجة وبلازما ضعيفة ناتجة عن الاحتراق. هذا توصيف دقيق من حيث القياس والتحليل، لكنه لا يلامس جوهر تجربتنا الحية بالنار. إنه يشرح شروط الظهور، لا معنى الحضور. العلم هنا يتعقب الظاهرة، ويفككها إلى عمليات وجسيمات وانتقالات طاقة، لكنه لا يجيب عن السؤال الذي يفرض نفسه، ماذا تكون النار في ذاتها؟ بل لعل هذا الوصف العلمي، بدل أن يحسم المسألة، يزيدها تعقيداً، لأنه يعترف ضمنياً بأن النار ليست شيئاً قائماً بذاته. ما يظهر كمادة ليس إلا وسيطاً تمر عبره النار، لا النار نفسها، ولهذا لا يمكن تثبيتها في مفهوم واحد.

من هذا التوتر بين ما يُعاش وما يُفسَّر، نعود إلى البدايات الأولى للفلسفة، إلى الفلاسفة الأيونيين الذين جرى تصويرهم طويلاً بوصفهم ماديين بدائيين. غير أن هذا التصوير يخفي أكثر مما يكشف. فطاليس حين قال إن الماء هو المبدأ الأول لم يكن يتكلم عن سائل محسوس، بل عن مبدأ حيّ قادر على التحول والتولد. وأنكسيمانس حين جعل الهواء أصلاً لم يكن يقصد هواء التنفس، بل قوة لطيفة تتكاثف وتتخلخل فتنتج الكثرة. أما أنكسيمندر، حين تحدث عن غير المتعين، فقد تجاوز أصلاً فكرة المادة المحددة، ووضع مبدأ لا يُرى ولا يُمسك. سؤالهم لم يكن مما صُنع العالم كجسم، بل كيف يصير، وكيف يتحول، وكيف يمكن للعقل أن يفهم الحركة نفسها.

في هذا السياق تُظهر نار هيراقليطس معناها الحقيقي. فهي ليست عنصر الموقد، ولا مادة فيزيائية، بل صورة فلسفية للصيرورة الدائمة. النار عنده تعبير مكثف عن عالم يقوم على التوتر والصراع والتحول المستمر. إنها تقول إن الوجود لا يُفهم من خلال الثبات، بل من خلال التغير، وإن الحقيقة ليست ما يستقر، بل ما يتبدل. ولهذا لا تكون نار هيراقليطس مبدأً مادياً بالمعنى الحرفي، كما يروج الماديّون، بل لغة فكرية تشير إلى أن العالم فعل وحركة لا جوهر، وأن العقل نفسه لا يستطيع أن يفهم الكون إلا إذا تخلى عن وهم السكون.

هذا الحدس القديم يجد امتداده المعاصر عند غاستون باشلار. ففي كتابه «التحليل النفسي للنار» لا يسعى إلى تقديم نظرية علمية جديدة، بل إلى قلب زاوية النظر رأساً على عقب. إنه يعيد النار من المختبر إلى المخيلة، ويقول إن الخطأ لم يكن في اختيار النار موضوعاً للتفكير، بل في اختزالها إلى مادة. النار، في نظره، صورة نفسية عميقة، تسكن الإنسان قبل أن يفكر فيها علمياً، وتسبق المفهوم والتجربة المعملية معاً. إنها ترتبط بالرغبة والمعرفة والعدوان والألفة في آن واحد، ولهذا تملك هذه القدرة الغريبة على لفت النظر وإيقاف الزمن، فننظر إليها في صمت وإجلال.

يرى باشلار أن التحديق في النار فعل تأملي بدائي، يكشف عن أحلام السيطرة والتحول والتطهير. في النار نحلم بالقوة، لكننا نستحضر الخطر أيضاً، وننجذب إليها بقدر ما نخشاها. إنها تجمع الأضداد النفسية، الدفء والدمار والسكينة والتهديد، ولهذا كانت حاضرة في الأساطير والطقوس وتاريخ السحر وذاكرة الشعر، لا بوصفها عنصراً طبيعياً فقط، بل بوصفها تجربة داخلية كثيفة. والعلم، بحسب باشلار، لم يتقدم إلا حين قطع مع هذه الخيالات النارية الأولى، لكنه حين فعل ذلك ربح الدقة وخسر المعنى، ربح السيطرة وخسر الدهشة.

وهنا لا يدعو باشلار إلى رفض العلم، بل إلى وضعه في موضعه. العلم يفسر الظواهر، لكنه لا يستنفد دلالتها. النار، حتى بعد كل التفكيك الفيزيائي، تظل تجربة تُعاش قبل أن تُحلل، وتظل قادرة على إرباك العقل الذي يريد تحويل كل شيء إلى موضوع يمسك به ويهيمن عليه. ولهذا يحوّل باشلار السؤال مِن: ما النار؟ إلى ماذا تفعل النار في النفس؟ سؤال لا يبحث عن جوهر ثابت، بل عن أثر وعلاقة وصدى داخلي.

عند هذه النقطة يكتمل المسار النظري. تنتقل النار من كونها ظاهرة تُوصَف مادياً إلى كونها مبدأً دلالياً للصيرورة عند الفلاسفة الأيونيين، وتبلغ ذروتها الفلسفية عند هيراقليطس بوصفها لغة للتغير الدائم لا عنصراً فيزيائياً. ثم يأتي باشلار ليعيد توجيه السؤال، فلا يجعل النار موضوعاً للعلم ولا مبدأً كونياً، بل يجعلها مفتاحاً لفهم المخيلة الإنسانية ذاتها. عند هذا الحد تتكشف حدود المادية، لا بعدها خطأ، بل بوصفها أفقاً جزئياً ابتدائياً من أفق الفهم، وتظهر إمكانية تفكير آخر لا يُلغي العلم ولا يناقضه، بل يضعه في موضعه، ويذكّر بأن بعض الظواهر لا تُستنفد حقيقتها بما تتكوّن منه، بل بما تُحدثه في الوعي والخيال.

* كاتب سعودي.


«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني
TT

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

«سنوات المَغَر» للإماراتية مريم الزرعوني

عن مركز أبو ظبي للغة العربية صدرت رواية «سنوات المغر» للكاتبة والشاعرة الإماراتية مريم الزرعوني، وذلك ضمن مشروع «قلم»، الذي «يدعم رعاية الأصوات السردية الإماراتية، لتأخذ فرصتها في منظومة السرد العربي المعاصر».

تقع الرواية في 223 صفحة من القطع المتوسط، وتتناول سيرة شخصية (غريب) المولود في الشارقة في زمن شكل مفترقاً تاريخياً حاسماً في الخليج العربي، حين كانت الهويات تتشكل والحدود ترسم ملامحها الراهنة. وتستعرض رحلة هذا البطل القلق في بحثه عن إثبات ذاته وإنسانيته، بينما تضعه الظروف في مواجهة عالم لا يعترف بالفرد إلا عبر الوثيقة، فتبدو مساراته وكأنها محاولة دائمة لانتزاع الاعتراف بوجوده.

وتنشغل بفكرة العبور بين الأمكنة والهويات، إذ يتحول الزمن إلى مادة قابلة للتأمل، بعيداً عن السيرة أو الشهادة المباشرة. تدخلنا الرواية عالم (غريب) بثقة، ولا ترفع صوتها، إنّما تهمس في وعي القارئ المحبّ، للدخول في حوارٍ إبداعي مع الرواية، بينما تتشكل الشخصية الرئيسة داخل فضاء خليجي متغير، محمّل بأسئلة الانتماء والذاكرة والحدود التي ترسمها التحولات الاجتماعية والسياسية. وتتميز بنبرة هادئة تتجنب الاستعراض، معتمدة على بناء داخلي متماسك، يسمح للشخصيات أن تنمو عبر التفاصيل الصغيرة بعيداً عن المنعطفات الصاخبة، واللغة فيها تتعدّى التوسّل بالحكي؛ لتخلق آليات تسهم في تركيب جديد للمعنى، وتتقدم بحذر، كما تسمح بظهور أشكال سردية محسوبة ومختلفة داخل الفضاء الطباعي، تزجّ بالقارئ في النصّ السيري المتخيّل، فاتحًة آفاقه أمام بناء التجربة الإنسانية من الداخل.

تسعى «سنوات المَغَر» إلى تقديم إجابة محتملة على سؤال الهويّة، ثم تترك الباب موارباً للتأمل في معنى العيش داخل تحولات كبرى. فدون ادعاء تمثيل جماعي، تنحاز الرواية إلى العمق الإنساني الغامض، وتسبر مسؤولية الفرد في تكوّن الهويّة، ومغبّات القرارات التي عليها سيتجلى المصير.

تستنطق الجمادات لتصبح شريكة في رواية الحكاية؛ فتروي شجرة وصخرة ومرآة وأطياف حلمية مقاطع من سيرة (غريب)، مانحة الرواية تعددية صوتية تعكس التوتر بين زمن الشظف وزمن الطفرة، وبين انكسارات الذات وتحولاتها داخل فضاءات الخليج الممتدة، وتنسج الكاتبة عبر هذا التمازج توازياً بين تحول المكان وتحولات الإنسان، في بناء سردي محكم يوثِّق الذاكرة ويستعيد طبقاتها المتراكمة.

تعد «سنوات المغر» العمل الروائي الأول لمريم الزرعوني الموجه للكبار، بعد أن قدمت رواية اليافعين «رسالة من هارفارد».

من أجواء الرواية نقرأ: «مّد يده وأطبقها على الغيمة وابتسم، شعر بدفء يسري من النافذة إلى جسده، أخذ يمرر سبابته على ملامحها ويرسمها حتى اكتملت، تحدّرت من عينيه دمعتان صارتا خيطين شفيفين يتصلان عند ذقنه مشكّلتين قطرة ضخمة تهوي بحرارتها على صدره، نادته المضيفة لتقديم وجبة الغداء، فلم يلتفت... كررت نداءها لكنّه لم يشعر، كان ملتصقاً بالنافذة مغموراً في حِجر سهيلة، يفتح فمه ثم يلوك النبق من يدها، غارقاً في حلاوته».