داعش {دولة} في بريطانيا... صارت نكتة {دعدوش} في مصر

هكذا نعالج قضايانا المصيرية على الشاشة

من فيلم «دعدوش» - من مسلسل «الدولة» البريطاني (القناة الرابعة البريطانية)
من فيلم «دعدوش» - من مسلسل «الدولة» البريطاني (القناة الرابعة البريطانية)
TT

داعش {دولة} في بريطانيا... صارت نكتة {دعدوش} في مصر

من فيلم «دعدوش» - من مسلسل «الدولة» البريطاني (القناة الرابعة البريطانية)
من فيلم «دعدوش» - من مسلسل «الدولة» البريطاني (القناة الرابعة البريطانية)

في العالم كله، لا يمكن إغفال أنّ «داعش» صارت أكثر الكلمات استخداماً في كل نشرات الأخبار، فهو «البعبع» الرابض خلف عشرات الأبواب، والذي يتحين الفرصة لكي ينقض علينا في أي لحظة من دون إنذار، في جُنح الظلام أو تحت نور الشمس، لم تعد مع الأسف تفرق كثيراً، هؤلاء القتلة يحصدون عشرات الأرواح بقلب بارد وضمير مستريح.
الداعشيون يعتقدون أنّهم ينفذون بتلك الدموية ما يعتقدونه خطأ أنه «شرع وشريعة الله»، وهكذا تبدو أهمية مواجهة هذا الفكر الظلامي الذي يتدثر عنوة بالدين. فما الذي فعلناه على الشاشات لنواجهه؟ كثيرا ما نتحدث عن ضرورة استخدام القوى والأسلحة الناعمة، في تحطيم تلك الأفكار، ولكننا غالباً نكتفي بالأمنيات وأحاديث الندوات والبرامج التلفزيونية، ثم حين البأس لا نُقدّم شيئاً حقيقياً، ولكن مجرد أعمال فنية أشبه ما تكون بنكتة طال زمنها أكثر مما ينبغي، فصارت سخيفة.
بالمناسبة، كل القضايا مهما بلغت حساسيتها من الممكن معالجتها بروح السخرية، على شرط ألا يتصور البعض أنّ الكوميديا هي الوجه الآخر للتهريج والاستخفاف، وهو مع الأسف كثيراً ما يحدث على الشاشات.
هاجس «داعش» صار كابوسا يهدد العالم في أكثر من بلد، ومع اختلاف الدرجة، فلم يعد يفاجئنا من كثرة ترديده خبر دهس أو قتل في بلد أوروبي، هذا التنظيم استطاع أن يصنع كوادره في كثير من دول العالم، نعم على أرض الواقع، تجري محاصرة البؤر في عدد من دول بلادنا العربية، مثل سوريا والعراق وليبيا، وتجري بنجاح أيضاً عمليات المطاردة وتضييق الخناق على هذه التجمعات الدموية، ولكن لا يزال العالم ينزف دماً بين حين وآخر، بسبب متطرف ينتمي لهذا التنظيم يعتقد أن الطريق للجنة يبدأ في تلك اللحظة التي يُفجر فيها نفسه ليقتل العشرات من البشر، أو يدهس بعربة أطفالاً يتسوقون في الشارع.
مواجهة الأفكار يجب أن تتوازى مع المواجهة بالسلاح، هذا هو بالضبط مفتاح المعركة، فهي مزيج بين السلاح والفكر، كثير من الأعمال الأجنبية تُقدم من خلال رصد لهذا التنظيم، وهي فعلا تضع أمامها هدفاً محورياً لا تحيد عنه، إنّها تواجه أساساً أفكاراً تغلغلت في العقول.
عُرض أخيراً، المسلسل البريطاني «الدولة» للمخرج بيتر كوسمينسكي، وتكتشف أنّه حصيلة أكثر من عام ونصف عام قضاها المخرج في البحث والتمحيص. ومراجعة الأفكار الجدية الشديدة مطلوبة جدا في مثل هذه القضايا، راجع المخرج وفريق العمل كثيراً من الوقائع والوثائق والحكايات التي يتم تناقلها، فهو لم يقدم لنا مجرد خيال منزوع عن الوثائق، فهو يدرك أنّ هؤلاء، بزاوية ما، قتلة ومجرمون، ولكنّهم على الجانب الآخر قد غُسلت أدمغتهم ليصبحوا منفذين ومن دون أدنى تفكير لما يأتي إليهم من أوامر. أرواحهم هي أقل شيء يقدموه لتحقيق تلك الأهداف المجنونة، يتساوى في ذلك النساء مع الرجال، هناك طبعاً نساء اختطفن فأصبحن سبايا، وهناك من ذهبن بمحض إرادتهن.
من المهم أن ندرس تلك التفاصيل وبدقة، لقد حاول المسلسل العربي «غرابيب سود» الذي أنتجته شبكة «إم بي سي» التلفزيونية وعُرض في رمضان الماضي، أن يصل إلى معالجة درامية لتلك النقطة الشائكة، ولكن لم تكتمل الرؤية، على الرغم من حرص المسلسل على إظهار أنّ هذا ليس هو الإسلام كدين يؤمن بأنّه لا إكراه في الدين، ويقر بالاختلاف بين البشر، ولكن البعض كان يخشى أن يختلط الأمر على المتلقي.
بينما المسلسل البريطاني «الدولة»، كان حريصا وبدقة على التفرقة بين الإسلام وسماحته وبين تنظيم داعش الإرهابي، الذي يرفع أفراده راية الإسلام عنوة، ولكن الإسلام منهم براء. من المهم بالطبع أن نفرق بين هؤلاء وبين الإسلام دين السماح الذي يحافظ على أرواح الإنسان، فلا يوجد داخل الإسلام ما يبرر أبداً رفع السلاح مع المختلف دينياً أو عرقياً. الإسلام مؤمن بأن الاختلاف بين البشر هو سنة الحياة، وهكذا فلا ينبغي أن يهاجم أحد الإسلام وهو يتناول هذه الأفكار، ولكن وكما يحدث في كل الأديان، هناك من يسيء التفسير أحياناً عن جهل، وليس بالضرورة عن تعمد. المسلسل البريطاني تعامل بجدية مع هذا التنظيم، يكشفه ويفضحه في «الميديا» لكي تصل الرسالة.
العالم يترقب درامياً هذا التنظيم بجدية، ولكن مع الأسف افتقدنا نحن في معالجتنا لهذه الأمور الجدية المطلوبة، بين حين وآخر نجد أمامنا فيلماً يحاول أن يصل إلى الناس بتلك الحيلة، أنّه يقدم مسلسلاً أو فيلماً عن «داعش»، ليس مهماً ما الذي يحمله من أفكار، ولكنه يُقدم «داعش» وكأنه يُسمعك «آخر نكتة»!!.
إنّها محاولة اللعب على مشاعر الناس بنظرة أراها انتهازية، فهو يأخذ الاسم «داعش» بكل ظلاله، وبحجة أنّه يقدم عملاً كوميدياً يُفسد الأفكار. في العام الماضي شاهدنا فيلم «القرموطي على خط النار»، بطولة الممثل الكوميدي أحمد آدم، وإخراج أحمد البدري، وهذه الأيام تابعنا «دعدوش» للمخرج عبد العزيز حشاد، وبطولة الكوميديان هشام إسماعيل. اشتهر آدم بتقديم شخصية الفهلوي «القرموطي» التي انطلقت في البداية من خلال الشاشة الصغيرة وحققت بعض النجاح، فهو الذي يفعل كل شيء، ويحاول إقناع الناس بعبقريته المزعومة، يجد نفسه قد وصل إلى الحدود الليبية، ثم يكتشف أنّه في معقل «داعش»، ولا يعنيه سوى أن يكرّر نفس الأسلوب في البحث عن ضحكات. الفيلم تكاليفه محدودة جداً، ومردوده المادي، على الرغم من ضعفه، حقق بالقياس للتكلفة الرقم المنتظر.
على الرغم من ذلك، فإن تكلفة الفيلم المتواضعة ساهمت مجدداً في تكرار التجربة هذا العام، ومن خلال أيضاً فيلم محدود الميزانية، وهو ما يطلق عليه حالياً في مصر تعبير «مقاولات»، ولا يعنيه سوى أن يتاجر بنكتة أو بموقف أو بأغنية أو برقصة، من أجل جذب الجمهور. أطلقوا على الفيلم اسم «دعدوش»، تصغير «داعش»، وهو الاسم الحركي لبطل الفيلم هشام إسماعيل. كانت هناك محاولات قبل نحو عامين لكي يُصبح هشام نجماً للشباك، ولكن باءت المحاولات بالفشل، وتكررت مرة أخرى في «دعدوش»، وشاركه عدد من الممثلين، مثل مدحت (تيخة)، وهو طبعا اسم شهرة ارتبط به بسبب وزنه الزائد، وكريم أبو زيد، وميريهان حسين، وأمير صلاح الدين. الكل يتحين الفرصة لكي يقفز إلى قطار النجاح وبأي وسيلة، من دون جدوى. هؤلاء الممثلون في العادة هم الأرخص سعراً، ولهذا يتم الاستعانة بهم.
لا أحد أجهد نفسه بالبحث أو بمراجعة أي شيء، كل ما فعلوه أنّهم اعتقدوا أنّ المطلوب هو ترديد بعض القفشات الكوميدية، وكل فنان يقدم ما تيسر له، وتكتشف أنّهم جميعاً بالصدفة انضموا للتنظيم، تحت تأثير أزمة نفسية أو عاطفية أو اقتصادية عارضة، وهكذا ركبوا «أوتوبيساً» على الطريق الصحراوي، متجهاً للصحراء للتدريب على فنون القتال، ولا تدري كيف يحدث ببساطة كل ذلك، وأين هي الدولة التي تسمح بتدريبات مسلحة على أراضيها؟!
وعلى طريقة «إسماعيل ياسين في الجيش» يقدمون تدريبات «داعش» العسكرية، بنفس الأسلوب، عبارة عن مفارقات ضاحكة، أو بالأحرى تسعى لكي تُصبح كذلك، أثناء ممارسة التدريب العسكري، تذكرنا بإسماعيل ياسين، والشخصية المقابلة له في تلك الأعمال السينمائية «الشاويش عطية» التي أداها رياض القصبجي. وفي اللقاء الأول كل منهما يختار زوجة بالصدفة، ولا نجد مثلاً سوى أن هناك صحافية تؤدي دورها ميريهان حسين، كانت تقوم بتحقيق صحافي عن «داعش» فأخذوها معهم. هل من الممكن تصور أن هناك تنظيماً إرهابياً يسمح للصحافة بأن تجري مع أفراده حوارات للنشر، وعلى هذا النحو الذي قدمه الفيلم؟
تستمر أحداث الفيلم في محاولة يائسة لخلق ضحكات، وفي النهاية تطاردهم القوات المسلحة والشرطة وتقضي عليهم، ولا ينسى في منتصف الفيلم أن يقدم نهمهم للنساء والأكل، من خلال أمير الجماعة الذي يطمع حتى في زوجات من هم تحت قيادته، ويقدم مباراة كرة قدم نرى فيها عدداً من القتلى، كل ذلك من أجل تحقيق هدف الضحك، الذي ومن واقع مشاهدتي للفيلم مع الجمهور لم يتحقق، وينتهي الأمر بالحرق، فهل انتهى خطر «داعش»؟
الفيلم يستخف بالقضية، وهكذا شاهدنا «دعدوش» وقبلها «القرموطي»، ولا أستبعد أن يتم السير في هذا الاتجاه، من خلال أفلام ومسلسلات أخرى؛ طالما أنّ هناك من يعتقد أنّ هذه هي الطريقة المثالية لضرب «داعش» والإجهاز نهائياً عليه.
تلك الأفلام وغيرها تؤكد، مع الأسف، أنّ كثيراً من قضايانا، عندما ننظر إليها سينمائياً أو درامياً، نحيلها إلى مشروع تجاري، وفي العادة لا تحقق حتى هذا الهدف المباشر. أغلب ما نعيشه من أحداث يستحق منا أن نقدمه بإبداع وألق، حتى تصل الرسالة للجمهور، بدلاً من أن نحيل كل شيء إلى نوع من السخافة لتحقيق أي مكاسب سريعة، لتصبح وكما يقولون باللهجة المصرية، مجرد «سبوبة»!!.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)