عارف الساعدي
لا أظن أن جيلاً شعرياً احتدم فيه الصراع الشكلي على الجنس الإبداعي المكتوب، مثل جيل التسعينات.
يبدو أنَّ للرقم «أربعون» حالة خاصة، وقف عندها الشعراء طويلاً، إذ نجد في هذا العمر تحولاً هائلاً يحدث للإنسان، تحولاً بيولوجياً وعقلياً، لذلك نجد الشكوى والبكاء على أيام الشباب، والخوف من القادم، حيث تبدأ تلك الهواجس ببداية الأربعين، لهذا نجد موروثاً هائلاً لدى الشعراء الذين وقفوا بحزنٍ أمام لحظة الأربعين. وعلى ما يبدو، فإنَّ لهذا الرقم سحراً خاصاً يختلف عن كل الأرقام، حيث تحول هذا الرقم «الأربعون» من رقمٍ اعتيادي إلى رقمٍ له دلالات ومعانٍ مختلفة حوَّلته إلى ما يُشبه الأسطورة.
نشر الإعلامي الدبلوماسي السعودي تركي الدخيل، يوم الثلاثاء (28 - 5)، مقالاً في «الشرق الأوسط» بعنوان «ربع شاعر». وهذا العنوان مثيرٌ لأننا نحن معشر الشعراء نعتقد أن هذا العنوان ينطوي على شتيمة هائلة للشعراء ذوي المواهب البسيطة، أو معدومي الموهبة الشعرية، ولكنهم يُصرَّون على أنَّهم شعراء، ويواصلون مسيرتهم بهذا التخثر الشعري الذي لا تنفعه كل عمليات القسطرة النقدية، ولا فتح صدر القصيدة، أو تبديل شرايينها بشرايين من قصيدة النثر، أو الشعر المترجم.
أتذكّر الآن، وأنا أشاهد جمع الأدباء العراقيين وهم يخوضون انتخاباتهم لاختيار قيادة جديدة لإدارة اتحاد الأدباء، وذلك يوم الجمعة المصادف 26/ 4/ 2019، تلك اللحظة التي دخلتُ فيها إلى اتحاد الأدباء، عام 1996، حيث لم يتجاوز عمري وقتذاك العشرين عاماً، وقد كانت لحظةً تداخلت فيها الرهبة والرغبة؛ الرهبة من المكان، ومن السطوة القاسية على كل شيء، والرغبة الجامحة لشاعر شاب يحلم بأن يقف على منصة الجواهري، الذي كان محرَّماً ذكرُه في ذلك الوقت.
دائماً أرددُ أبيات الشاعرة «لميعة عباس عمارة» عن الشعر، حيث تقول: لعنة اللاعن يا شعر عليك ما الذي أوقعني بين يديك كل أسرار الورى مستورة وخفي الهمس مفضوح لديك أنت لو كنت ملاكاً صالحاً ما توسلـــنا بشيطانٍ إليـك وهنا تلخص لميعة عباس عمارة تجربتها وعلاقتها الشائكة مع الشعر، وهي علاقة ملتبسة تخشى من خلالها ما يمكن أنْ يقترب من الفضيحة لأي حركة، أو كلمة يقولها الشاعر، فالشعر يمنح المرء ضوءاً مختلفاً عن الجميع، لذلك يُقرن دائماً بالوحي، وإنَّ الشعراء بإمكانهم أنْ يستفزّوا كل شيء حولهم، وأنْ يحركوا الراكد من مياه التاريخ، لذلك فالشعراء الحقيقيون هم دائماً مواطن خصبة للأسئلة المقلقة، وزيتٌ لا ينتهي
لا أظن أن العرب أتقنوا صناعة حقيقية، وصدَروها كصناعتهم للشعر، فهو ــ لديهم ــ جنسٌ أصيل، وجزءٌ أساس من وجودهم، حتى وصل في مرحلة من المراحل أنْ يكون الشعر تعويضاً عن الخسارات والنكبات التي تمر به الأمة، فالعرب حين يلجأون إلى البيت الشعري، كأنهم يلجأون إلى البيوت التي ينهبها المعتدون أو المحتلون، فيشعرون بالطمأنينة حين يسكنون البيت الشعري، فيما بيوتهم نهب الريح. لقد بقي الشعر «ماركة» عربية أصيلة، يصعد سوقها في «بورصة الجمال» مراراً، ولكنَها تنزل أيضاً مراراً، حسب أمزجة الناس، وزحف القوى الناعمة الأخرى على الشعر، ولكن بقيت مؤتمرات الشعر ومهرجاناته الأكثر تأثيراً، وجذباً للنظر، والمراجعة، والتساؤل
كلما امتد العمر بالشعراء اختلفت نظرتهم للحياة وللموت معا، فالزمن هو العامل الأكثر أثراً على الشعراء، والأشد وطأة على نصوصهم، إذ كلما اختُطف عامٌ من أعوامهم بدوا برثائه، وكلما انهدرت لحظاتٌ من بين أصابعهم بكوها بكاءً حاراً، فالشعراء هم الكائنات الأكثر تحسساً من الزمن، والأشد خوفاً من التوغل في العمر، فكلما توغلت سنوات الشاعر نحو الشيخوخة توغلت رؤيته نحو زمن يراوح ما بين الموت والحياة.
رحل يوم الثلاثاء الماضي في العاصمة العراقية الشاعر الفلسطيني خالد علي مصطفى، الذي ولد في قرية عين غزال القريبة من حيفا عام 1939. وحينما وقعت نكبة 1948 التجأت أسرته إلى العراق. أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية في البصرة، ثم التحق بكلية الآداب في جامعة بغداد، قسم اللغة العربية ليتخرج عام 1962.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة
