لا يتعامل الفنان التشكيلي المصري محمد أبو النجا مع الورق باعتباره وسيطاً فنياً فحسب، بل يقدّمه على أنه مركز تاريخي يمكن عبره إعادة النظر إلى رحلة الإنسان نفسه، وكيفية عبوره إلى ذاته، وتفاعله مع محيطه، وسعيه لترك بصمة تصبح هي التاريخ ذاته، ويقدم خلال معرضه «رحلة الورق»، الذي يستضيفه «غاليري بيبليوتيك» بالقاهرة حتى مطلع الشهر المقبل، هذه الرحلة البصرية عبر أعمال تستكشف المواد الأولى للحياة، وتسعى لسبر أغوار الذاكرة البشرية.
ويضيء أبو النجا عبر أعماله على تقنيات مبتكرة في صناعة الورق، وفنون الطباعة، مركزاً على التفاعل بين الذاكرة الثقافية، والطبيعة، والفن، حيث تبدأ الرحلة لديه من الشجرة، ولا سيما شجرة الزيتون، بما تحمله من رمزية ثقافية وأنثروبولوجية عميقة، فالأشجار، كما تقول رندا فهمي، القيّمة الفنية للمعرض: «تحتفظ بتاريخها في حلقات جذوعها التي تتراكم عاماً بعد عام، مسجلةً سنوات وجودها، كأنها أرشيف طبيعي للزمن»، وفق حديثها لـ«الشرق الأوسط».

ويستخدم الفنان أنواعاً مختلفة من الورق في لوحات معرضه، مثل الورق الهندي، والياباني، وكل منها يحمل خصوصية ثقافية، ولمحة من التاريخ الذي يريد أبو النجا الإشارة إليه، فالورق هنا علامة ثقافية، وتاريخية تُقرأ عبرها تطورات الكتابة، وأشكال التعبير الإنساني.
وحسب الفنان المصري محمد أبو النجا فإن المعرض «له خصوصية ترتبط بالتجريب في التعامل مع العجينة الورقية التي صنعتها من قش الأرز، والكتان، والبردي، والرسم على الورق بألوان طبيعية مستخلصة من نباتات»، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «هذا جزء من مغامرة فنية طويلة، تجمع بين الوحدة والتنوع عبر الزمن على مدار عشر سنوات، وهو شغف اكتشاف عوالم لم أكتشفها من قبل».

ولعل من أبرز مجموعات المعرض هي التي تحمل عنوان «كتاب الفنان»، وفيها يكرّس أبو النجا فكرة الكتابة عبر التاريخ من خلال إبراز جمالياتها، وتراكم وسائطها الفنية من خيوط، وطوابع بريد، وخط عربي مكتوب باليد، تتماهى على سطح مجسمات تشبه الكتب المفتوحة ذات الملمس القديم، واللون الداكن.
وترى رندا أن «هذه الأعمال تستحضر طريقة الفنان في تسجيل الذكريات، والاحتفاء بها، وتتراكم في طبقات متتابعة تبرز الخصائص اللمسية للخشب، ولبّ الورق، ما يعمّق الإحساس بالزمن، ويضفي على الأعمال طابعاً ضارباً في القدم، والرسوخ».

هذا الشغف قاد أبو النجا عام 1995 للحصول على منحة من مؤسسة اليابان في القاهرة، ليصبح أول فنان في الشرق الأوسط يدرس في اليابان طبيعة ورق «الواشي» التقليدي المصنوع من ألياف مثل الكوزو، والجامبي، ثم عاد ليطوّر مزيجاً بين الورقين الياباني، والمصري، خصوصاً البردي، في أعمال لاقت صدى محلياً، ودولياً.
ويضم المعرض أيضاً أعمالاً نحتية توازي الأعمال الورقية، أبرزها تمثال أسد مستوحى من «أسدي قصر النيل» الشهيرين بالقاهرة، وإلى جواره يدوّن الفنان عبارة لافتة: «اكتشفت أن للغة العربية ما يقارب أربعمائة اسم للأسد، وكل اسم يحمل ظلاً لمعنى مختلف، ومنذ ذلك الوقت أصبح الأسد بالنسبة لي أكثر من تمثال؛ صار رمزاً لزمن، وحالة إنسانية تتكرر».

ويتسرب البعد الذاتي إلى أعمال أبو النجا من خلال اشتقاقه ألواناً من مواد ترتبط بالطبيعة بصفتها منبع الورق، والفن، وتوضح رندا فهمي: «في لوحاته التي تجسد الكائنات الأسطورية، يستخدم الفنان أحبار طباعة يدوية من اليابان، والفحم، وفرش أسلاك خشنة، وورقاً قطنياً مصنعاً يدوياً، وبهذه التقنية ينفذ أبو النجا إلى حس يستكشف طبقات الذاكرة المخبوءة، والأساطير القديمة، منتجاً تجربة بصرية كثيفة تعكس التفاعل بين الذاكرة والزمن».

