عن الصحراء في السينما العربية وما تختزنه من رموزٍ ودلالات تتقاطع فيها العزلة بالجمال، والواقع بالحلم، جاءت الجلسة النقاشية التي أقيمت ضمن فعاليات اليوم الثالث من «مؤتمر النقد السينمائي الدولي» في نسخته الثالثة المقامة بالرياض، لتفتح حواراً حول علاقة الإنسان بالمكان والذاكرة، وكيف تحولت الرمال من خلفية طبيعية إلى بطلٍ رمزي وروحي في عدد من التجارب السينمائية العربية والعالمية.
وشهدت الجلسة التي حملت عنوان «الصحراء في السينما العربية» تبادلاً للرؤى بين المشاركين حول رمزية الصحراء بوصفها فضاءً للحرية والمقاومة، ومرآةً للذات العربية في تحوّلاتها الوجودية، متناولين تجارب سينمائية متباينة في تمثيلها لهذا الفضاء المفتوح بين التأمل والتمرد.
وأدار الجلسة الناقد الجزائري فيصل شيباني، وشارك فيها كل من المخرج السعودي محمد السلمان، والناقد المصري رامي عبد الرازق، والناقد العُماني عبد الله حبيب، الذين قدّموا قراءات تقاطعت فيها الجغرافيا بالتاريخ، والذاكرة بالهوية.

استهل فيصل شيباني النقاش بالتأكيد على أن الصحراء لم تكن يوماً ديكوراً بصرياً أو خلفيةً هامشية في السينما العربية، بل «بطلة خفية» تحتضن الصمت والبوح في آنٍ واحد، وتعكس علاقة العربي بالمكان بوصفها علاقة وجودية لا جمالية فحسب.
واستعرض في مداخلته تجارب عربية متنوّعة تعاملت مع الصحراء باعتبارها فضاءً روحياً، مثل ثلاثية المخرج التونسي ناصر خمير «الهائمون»، و«طوق الحمامة المفقود»، و«بابا عزيز»، التي جسّدت الصحراء كامتداد للحلم والزمن، إلى جانب أفلام المخرج الجزائري محمد لخضر حمينة كـ«وقائع سنين الجمر» و«ريح الأوراس» التي قدّمتها كأرضٍ للمقاومة والذاكرة، في حين ظهرت في السينما المغربية كمرآةٍ للتحولات الاجتماعية والسياسية من خلال أفلام هشام العسري ومحمد عبد الرحمن التازي.
وأشار إلى أن السينما الخليجية والأردنية أيضاً قدّمت قراءات مختلفة للصحراء، كما في فيلم «الثلث الخالي» لحميد الزعبي، و«ذيب» لناجي أبو نوّار، لتغدو الصحراء بمرور الوقت مكوّناً بصرياً موحّداً للخيال العربي وذاكرته الجمعية.

في حين لفت الناقد العُماني عبد الله حبيب إلى أن صورة الصحراء في السينما الغربية جاءت محمّلة بمعانٍ استعمارية؛ إذ استخدمها الغرب بوصفها خلفية لتكريس صورة «الآخر» العربي.
وتوقف حبيب عند فيلم «لورانس العرب» الذي عكس ـ في رأيه ـ رؤية مهيمنة جعلت البطولة غربية والمكان عربياً، مقابل فيلم «المخدوعون» الذي قدّم الصحراء كرمزٍ للموت والتيه، بخلاف الرواية الأصلية التي اقتُبس عنها.
واستعاد الناقد المصري رامي عبد الرازق البدايات التاريخية لحضور الصحراء في السينما المصرية، مشيراً إلى أن أول فيلم روائي مصري طويل «قبلة في الصحراء» (1927)، جعل من الصحراء بطلةً أولى للأحداث؛ ما يعكس إدراك المخرجين الأوائل لجماليات المكان في السرد البصري.
وأوضح أن السينما المصرية ظلت وفيةً لروح الصحراء في أفلام لاحقة مثل «ليلى البدوية» الذي كتبته وأخرجته بهيجة حافظ في نهاية الثلاثينات، وشارك في «مهرجان برلين» قبل أن يتأجل عرضه بسبب أزمة سياسية بين مصر وإيران، مشيراً إلى أن الصحراء استمرت حاضرة في ثيمات الحب والعزلة والتمرد التي استلهمتها السينما من قصص «قيس وليلى» و«عنتر وعبلة»، لتصبح رمزاً دائماً في الوجدان العربي.

وقدّم المخرج السعودي محمد السلمان رؤيةً معاصرة لخصوصية الصحراء في الوعي السعودي، مبيناً أنها ليست موقعاً تصويرياً أو مكوّناً بصرياً فحسب، بل جزء من تكوين الإنسان النفسي والروحي في المملكة؛ إذ تمثل له مرادفاً للسماء والصفاء الداخلي.
وأشار إلى أن المفارقة تكمن في أن السينما السعودية الحديثة لم تبدأ من الصحراء، بل من المدينة، حيث انشغلت في بداياتها بالحياة الحضرية قبل أن تعود لاحقاً لاكتشاف الصحراء من جديد، كما في فيلمه «هوبال» الذي قدّم معالجة فنية مختلفة للمكان، متجاوزاً الصورة النمطية التي اختزلت الصحراء في الغموض أو القسوة.
ودعا عبد الرازق إلى «إعادة اكتشاف الصحراء على المستويين الفني والفكري، وتقديم معالجة أكثر عمقاً تكشف علاقتها بالتحولات الاجتماعية والوجودية للإنسان العربي، في ظل احتفاظ هذا الفضاء بطاقة سردية وبصرية هائلة لم تُستثمر بعد؛ إذ يمكن أن تصبح مساحة للتأمل في القيم المعاصرة للحرية والعزلة والانتماء».


