بدت مسرحية «غزة عيتا الشعب غزة» دعوة علنية إلى إعادة النظر في دور الفنّ حين تشتدّ الوحشية، ويصبح الألم اللغة الأكثر تداولاً. المبادرة جاءت من منظّمة «أطباء بلا حدود»، المعروفة بعملها الطبّي والإنساني في مناطق النزاع، لتفتح نافذة مختلفة تستخدم المسرح وسيلة لإيصال نبض الإنسان، وهو ما تعجز التقارير والبيانات عن حمله.
على خشبة «مسرح المونو» في بيروت، اتّخذت كوزيت شديد مكانها على الأرض. تفصل أوراق النعناع، أو ربما الملوخية، عن العروق، وتُغنّي. التأليف الموسيقي لكارول أوهير، وصوت كوزيت يُشبه أصابع تبحث داخل الحطام عن قلب لا يزال قادراً على الخفقان. حين تستعير أغنيات فيروز عن النزيف والغياب و«ساعات الفرح القليلة»، يُصبح الغناء نوعاً من النجاة، دفئه يُطفئ شيئاً، وصداه يفتح جرحاً آخر. العالم يسقط، والنساء غالباً أول مَن يلتقطن الشظايا.

إلى جانبها، تبوح ميرا صيداوي بآلام الفلسطينيات. كلامها حادّ، مباشر، يخرج من صميم المعاناة اليومية، ومن ذاكرة مدينة تُقصف حتى بعد الهدنة. في اللحظة التي ترفع فيها رأسها، يتبدَّى مقدار الثقل الذي تحمله. في غزة، كما تقول، «الحزن رفاهية»، ومَن يعيشون هناك فقدوا القدرة على التمهُّل أمام خساراتهم.
دارين شمس الدين، بصوتها الممزوج بالتهكُّم، تُجسّد شخصية «نهلا» الجنوبية التي تعرف الحرب جيداً. أداء لا يُقدّم الألم بصورة مأسوية، وهنا قوة المسرحية. يتركه يتسرَّب من نبرة ساخرة، ومن ضحكة تُشبه بكاءً مقنَّعاً. تروي عن الحقائب التي نملؤها قبل النزوح، وتتساءل ماذا نضع؟ الملابس؟ أوراق الهوية؟ رائحة البيت؟ الضحك؟ النوم العميق؟ أيٌّ من هذه يصلح أن يُطوَى؟ وحين يعود الحديث إلى ماضي الجنوب اللبناني، وقريتها عيتا الشعب، تمرّ روائح الزيتون والحدائق فيفتح المسرح باباً على بيوت رحلت إلى الأبد.

هذا التوازي بين صوتَي الجنوب وغزة حمل طبقة إنسانية شديدة الوضوح. الشخصيتان لا تتحرّكان، كأنّ الثبات جزء من بنيتهما. خيار المُخرجة لينا أبيض يُبقي الجمهور وجهاً لوجه مع السرد والكلمات وحدها، ومع طائرة استطلاع إسرائيلية تتقدَّم داخل تصميم الصوت، فتتحوَّل إلى عنصر من عناصر المشهد.
الحكايات التي جُمعت من الميدان، وشهادات العاملين، وأصوات النساء، والرسائل الصوتية التي تصل من غزة، وتدوينات الممرضات والطواقم الطبّية، تحوَّلت في المسرحية إلى مادة درامية منحها طارق مجذوب إضاءة مناسبة. فريق المنظّمة الذي يعمل في أصعب الظروف، حضر عبر النصّ كأنه يُشارك الجمهور خبرةً مُكتَسبة من أرض محروقة.

القيمة الأهم في العمل أنّ النصّ يتحرّك داخل الذاكرة كما لو أنه يحفرها من جديد. حين تتحدَّث «نهلا» عن الأشياء الصغيرة التي تُنقذ أيامنا في الحروب، يستيقظ ما اعتقدناه هدأ في الداخل. رائحة القهوة، أبواب لم تُغلق، وجيران لم يعودوا. كلّ ذلك صعد من تحت الجِلد بطريقة غير افتعالية.
تبلغ ميرا صيداوي ذروة المشهد، فتروي حلمها المتكرّر بأنها روح تطير فوق غزة لينفتح المعنى على اتّساعه. مشهد يُظهر بحث الإنسان الدائم عن مكان يبقى فيه صوته، حتى حين تنسحب الأرض من تحت قدميه. وعند انتقال السرد إلى فكرة «امّحاء الحدود» عبر خيال دارين شمس الدين عن «الباص» الذي يعبُر من لبنان إلى فلسطين، يصبح العنوان «غزة عيتا الشعب غزة» تفسيراً مكثَّفاً لمصير إنساني مشترك.
على المستوى الفنّي، يعتمد العمل على السرد أكثر من الإخراج، وعلى الصوت أكثر من الحركة. المركز هنا هو الإنسان وحده، بحكايته وذاكرته وارتباكه، ومهما تعدَّدت التقنيات يظلّ صدى التجربة أقوى من أي مؤثّر بصري.
وعندما غنَّت كوزيت شديد «أنا يا عصفورة الشجنِ... مثل عينيكِ بلا وطن»، وصل المعنى إلى ذروته. نحن، بكلّ اختلافاتنا، نحمل الكسور نفسها. اللبناني يضحك ليهرب من هاوية يومية، والفلسطيني لا يملك فرصة الضحك أصلاً. المسرحية تُوازن بين الهُزء والألم، والطمأنينة والزمن المهدَّد، وتُظهر قدرة النساء على تحويل العذاب إلى لغة.

قدَّم العمل ما يتبقَّى في الناس حين تُسلب كلّ الأشياء، وشكَّل دعوة إلى أن نتروَّى أمام الذكريات، ونرى في التوثيق فعلاً فنّياً يُعيد الحسبان للأصوات الناجية. فالحرب لا تنتهي حين تتوقَّف الطائرات، وإنما حين يجد الإنسان مكاناً يضع فيه قلبه من جديد.
وتحدَّثت مديرة المكتب الإعلامي الإقليمي لمنظّمة «أطباء بلا حدود»، جنان سعد، إلى الجمهور كما لو أنها تتحدَّث من الميدان. قالت إنّ العمل الإنساني لا يكتمل ما لم تُروَ الحكايات التي تُرافقه، والصور والبيانات وحدها لا تكفي لإيصال حجم الألم الذي يختبره الناس يومياً. شدَّدت على أنّ التوثيق جزءٌ أصيل من مَهمّة المنظّمة: «واجبنا أن نُنصت إلى أصوات المتضرّرين، ونمنحهم مساحة تُوازي ما يواجهونه، لأنّ الألم حين يصبح كلاماً لا يعود قابلاً للإخفاء».
تقاطعت كلمتها مع ما قاله المدير التنفيذي للمنظّمة في لبنان، سيباستيان غيه، حين ذكَّر بأنّ «أطباء بلا حدود» تعمل في أكثر مناطق العالم اضطراباً، والفِرق الطبّية التي تُنقذ الأرواح تحت القصف، تحتاج هي نفسها إلى مساحة تلتقط فيها شهاداتها. تحدَّث عن آلاف العاملين الذين يتحرّكون حيث يشتدّ الخطر، بلا حماية سوى التزامهم المهني والإنساني. صدَقَ بقوله إنّ الفنّ قادر على حَمْل ما لا تحمله التقارير الميدانية، لأنه يُقرّب الناس من جوهر التجربة. من الخوف والفقدان ومحاولة البقاء.

