قال المخرج العراقي عباس فاضل إن فيلمه الوثائقي «حكايات الأرض الجريحة» لم يخطط له مسبقاً، بل جاء نتيجة ظرف مفاجئ فرضته الحرب على لبنان، مشيراً إلى أن الكاميرا كانت وسيلته لمواجهة الخوف، والبقاء واقفاً وسط الانفجارات والفوضى، وتحويل الرعب إلى سرد بصري يحفظ ذاكرة من قلب الخراب، لتكون كل لقطة بمنزلة محاولة لإنقاذ شظايا حياة قبل أن تتلاشى، وتقديم شهادة حية على ما حدث.
الفيلم، الذي عرض في النسخة الماضية من مهرجان «لوكارنو السينمائي» وحصد عنه المخرج العراقي المقيم في لبنان جائزة أفضل مخرج، يقدم رؤية صادمة وملهمة للحياة في القرى الحدودية اللبنانية خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على الجنوب، ويركز عباس فاضل على المشاهد اليومية للمدنيين بين الأنقاض، موثقاً المباني المهدمة، وآثار الدمار، عبر تتبع رحلة عائلته التي تضم زوجته وابنته الصغيرة من هجرة القرية الحدودية، والعودة إليها مجدداً.

وأوضح فاضل لـ«الشرق الأوسط» أن «الفيلم لم يركز على الحرب وحدها، بل سعى لإظهار الأمل المستمر في حياة الناس رغم المعاناة، مع حرصه على التقاط لحظات النور على أنه ضوء مضاد للظلام، بينما بني الفيلم سردياً على إيقاع يمزج بين الصدمات والأنفاس، ليقابل كل مشهد ألماً بلحظة حياة»، مؤكداً أن «مشاركة زوجته وابنته أضفت للفيلم صدقاً وحميمية، إذ أصبح وجودهما شاهداً على الحب والصمود في قلب المأساة».
يؤكد أن ذلك كان خياراً صعباً: «حين تصوّر أقرب الناس إليك، فأنت تصوّر هشاشتك الخاصة، لكن لم يكن ممكناً أن أمسح وجودهما من القصة، فهما عاشتا الحرب بكل تفاصيلها، وجودهما منح الفيلم صدقاً وحميمية، فالكاميرا كانت شاهدة على حبٍّ مهدَّد لكنه صامد».

واعتبر فاضل دور زوجته ومنتجة الفيلم، نور بالوك، أساسياً، إذ حملت المشروع من التصوير حتى المونتاج، وكان دعمها العمود الفقري لإنجاز العمل.
يرصد الفيلم رحلة أهالي جنوب لبنان منذ اللحظات الأولى للضربات، مروراً بالنزوح، وصولاً إلى العودة، وإعادة بناء ما تهدم. يعكس العمل التوازن الدائم بين الألم والقدرة على الصمود، ويصور شخصية لبنانية متشبثة بالبقاء رغم كل الصعاب.
يشير عباس فاضل إلى أن استخدام كاميرا بسيطة وهاتف جوال منحه حرية غير مسبوقة في التصوير، وساهم في إعطاء الفيلم لغة خشنة وصادقة تعكس واقع اللحظة، بعيداً عن الزينة، أو التجميل الفني، لافتاً إلى صعوبة اختيار المشاهد في المونتاج، حيث كان عليه الموازنة بين ثقل الصور وإتاحة المجال للمشاهد لالتقاط أنفاسه، فكان المونتاج بمثابة تمرين على الفقدان والتضحية باللحظات الثمينة مقابل الحفاظ على الإيقاع السردي للفيلم.
وأكد المخرج العراقي أن الاستسلام للخوف لم يكن خياراً، لافتاً إلى أنه واجه مواقف صعبة كثيرة، لكنه قبل المخاطرة، لأن الصور يجب أن تبقى حية.
ويبرز الفيلم بشكل توثيقي التدمير والاستهداف المتعمد من إسرائيل للمنشآت المدنية في جنوب لبنان بما فيها ملاهي الأطفال، بخلاف السردية الإسرائيلية المتداولة إعلامياً، وهو ما يمكن اعتباره بمثابة رد على السردية الإسرائيلية، لكن فاضل يقول: «لا أدّعي أنني قادر على مواجهة ماكينة دعاية بهذه القوة، لكن يمكنني أن أضع صوري أدلة، كل لقطة تقول: (هذا ما حدث شاهدوه) إنه قليل، لكنه جوهري».

بالنسبة له كان الفوز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان «لوكارنو فرصة لإعطاء صوت للجنوب اللبناني، أكثر من كونه انتصاراً شخصياً»، مشيراً إلى «أن تفاعل الجمهور السويسري مع الفيلم أظهر فضولاً صادقاً لفهم كيفية التوثيق في ظروف الحرب، مما أكسب الفيلم بعداً عالمياً يتجاوز حدود بلده، لأن الفيلم ليس موجهاً لنخبة سينمائية، بل لكل من يؤمن بقوة الصورة في حمل الحقيقة، والدفاع عن الإنسان».
وحول موقفه من عدم تفكيره بالبحث عن تمويل لفيلمه، أكد المخرج العراقي أنه يفضل الإنتاج الذاتي والتمويل المستقل، رغم فقدان وسائل الراحة، لأن الحرية الفنية لا تُقدَّر بثمن، وأن الاستقلالية أصبحت فلسفة حياة، وضرورة وجودية بالنسبة له، مشيراً إلى أن تجربة الفيلم، التي جمعته بين الكتابة والإخراج والتصوير، شكلت عبئاً، لكنه منحه وحدة في الرؤية، وانسجاماً كاملاً.

وأشار إلى أن العبارات التي كتبت خلال عرض الشريط السينمائي الذي يستمر لنحو 120 دقيقة جاءت من قصائد كتبها أثناء الحرب، لافتاً إلى أنه فكر بالاستعانة بها على أنها علامات تضيء السرد، وتمنحه عمقاً.
وختم عباس فاضل حديثه بالقول إن الأعمال الوثائقية أصبحت طريقتَه في التنفس، والتعبير عن الواقع، موضحاً أنه لا يضع حدوداً بين الروائي والوثائقي، إلا أن الواقع الحالي يفرض نفسه بقوة لا يمكن تجاهلها، معتبراً أن فيلم «حكايات الأرض الجريحة» يحمل رسالة إنسانية عميقة، ويؤكد على حق الحياة».







