في قلب جدة التاريخية، حيث تقف الأحياء القديمة شامخة بواجهاتها المزخرفة ورواشينها الخشبية المطلّة على أزقّة ضيقة تعبق برائحة الزمن، انطلقت أنغام لم تكن عابرة. أنغام خرجت من بين أنامل صغيرة، لكنها حملت في نغمتها صدى أجيال، لتملأ فضاء المكان الذي أدرجته «اليونسكو» ضمن قائمة التراث العالمي، لتعيد إلى الواجهة ملامح من عصرٍ كان فيه الطرب جزءاً من الهوية اليومية.
داخل أحد مباني هذه المنطقة، وتحديداً في متحف طارق عبد الحكيم، بدا كأن الزمان التفّ على نفسه ليصافح ماضيه. لم يكن المتحف مجرد موقع لاستضافة برنامج موسيقي، بل كان بيتاً للذاكرة السعودية، يحمل اسماً أول من دون النغمة المحلية ووضع لها مقاماً في خريطة الموسيقى العربية الحديثة. هنا، حيث وثّق طارق عبد الحكيم الموسيقى من مشافهة المجالس الشعبية إلى التدوين الأكاديمي، اجتمع أطفال اليوم ليبدأوا أول دروسهم في فهم الإيقاع، وتمرين السمع، والعزف على آلاتٍ ارتبطت بمسيرة الفن من هذا المكان.

فعالية «أنغام الصيف» التي نظمتها هيئة المتاحف بالتعاون مع المركز السعودي للموسيقى، لم تكن ورشة تعليمية تقليدية تستمر لـ8 أيام (من 4 إلى 13 أغسطس «آب»)، لكنها برنامج يجمع ما بين ورش إيقاع وعزف، وجولات تعريفية، وجلسات تفاعلية مع موسيقيين محترفين. ويستهدف فئتين عمريتين (7 - 10) سنوات ومن (11 - 14 سنة)، كما يحرص على تقديم الموسيقى ليس بوصفها معلومة مجردة، بل بصفتها لغةً تُكتسب بالسمع والبصر والإحساس.
عند مدخل المتحف، استقبل الزوار صوت الكمان الشرقي ممزوجاً بإيقاعات نايٍ خافت، فيما كانت نغمات البيانو والعود تتوزع بين غرف الورش. وبينما انشغل البعض في ورشة «صندوق الموسيقى»، كان آخرون يرسمون خطوطاً تُترجم ما يسمعونه بصرياً في ورشة «ألوان الألحان»، بينما تحوّلت أصوات المشاعر إلى تعبيرات نغمية في ورشة «المشاعر والصوت».

تقول رفال جوخدار، إحدى منسّقات برنامج أنغام الصيف، إن اختيار الآلات لم يكن عشوائياً، بل جاء وفق فلسفة تجمع بين التراث والتنوع وسهولة التعلم. وأردفت: «ضممنا آلات من التراث السعودي والعربي مثل العود، والقانون، والكمان الشرقي، إلى جانب آلات عالمية مثل البيانو والجيتار، كما اخترنا أدوات يسهل التعامل معها للأطفال مثل الناي واليوكيليلي». وتؤكد أن الفعالية في نسختها الأولى كشفت عن شغف لافت لدى الجيل الصغير، مما يشجع على إعادة تنظيمها في مواسم مختلفة ومدن أخرى.

وفي يوم الختام، سيقف المشاركون على منصة الأداء ليقدموا كورالاً جماعياً عزفاً وغناءً، أمام جمهور يضم عائلاتهم ومعلميهم.
وعن الشراكة المؤسسية بين المتحف والمركز، أوضحت جوخدار أن «المتحف يركّز على الموسيقى التراثية السعودية، فيما يحتضن المركز السعودي للموسيقى جميع الأنماط العربية والعالمية، مما يجعل من هذا التعاون تجسيداً لصورة شاملة للثقافة الموسيقية في المملكة». وأضافت أن الفريق التدريبي ضم موسيقيين معتمدين من هيئة الموسيقى، ومدربين تربويين متخصصين في تعليم الأطفال.
البرنامج لم يكتفِ بالتدريب الآنيّ، بل ترك أثراً ممتداً، عبر توثيق التجربة بكتيبات وفيديوهات، وإتاحة منح تدريبية مستقبلية للمتميزين، في خطوة تهدف إلى بناء مسارات طويلة الأمد للمواهب الناشئة، في سياق ثقافي جديد يولي الموسيقى مكانة تعليمية واجتماعية معتبرة.
وفي جدة، المدينة التي عرفت الصوت قبل الميكروفون، واللحن قبل المنهج، برز هذا البرنامج بمثابة إعادة وصل بين الجيل الجديد وموروث لم يعد محفوظاً في الذاكرة فقط، بل أصبح يُدرَّس ويُعاش. وبين جدران المتحف، لم يتعلم الأطفال العزف فقط، بل تعلموا كيف يُصغون إلى لحن الوطن... ويعيدون عزفه على طريقتهم.


