وقفت كارول سماحة على خشبة «بيروت هول» مثل مَن يُواجه المرآة للمرّة الأولى بعد العاصفة. بدت وقفتها غير عادية، وخارجة عن مجرّد إحياء حفل غنائي مُدرَج سلفاً على روزنامة مهرجانات الصيف. بدت كأنها اللقاء الأول بين الجرح والنور، بين الأُم والفنانة، بين مَن فقدت شريك دربها، وبين تلك التي لا تزال تؤمن بأنّ الفنّ خلاص مؤقّت من ثقل الواقع؛ إن لم يكن خلاصاً دائماً.

قبل أسابيع فقط، وقفت كارول بجرأة على مسرح «كازينو لبنان» تؤدّي الميوزيكال «كلّو مسموح». بدا المشهد حينها استثنائياً بجميع المقاييس. لم يكُن الجمهور يُصفّق لأدائها وحده. علا التصفيق لقوتها الداخلية التي سمحت لها بالنهوض في عزّ الارتماء. صفّقوا لها لأنها جسَّدت بلحظات ما يعجز كثيرون عن ترجمته: أن نُكمل، ولو مشينا على الزجاج! أن نُغني، ولو امتلأت الحنجرة بالملح. أن نرقُص، ولو جرّنا الحزن من ضفافنا إلى الغرق.
في حفلها الأخير، بدا كلّ شيء كأنّه يُعيد تشكيلها من جديد. دخلت المكان بفستان ذهبيّ اللون وابتسامة بنكهة الغصّة، تماماً كمَن يعرف أنه على وشك مواجهة نفسه أمام جمهورٍ يُشبه الحضن الجماعي. الحضور مُكتمل، والمقاعد ممتلئة، والتنظيم دقيق، والصوت الذي لطالما أحبَّه الناس عاد ليرتفع، معلناً قدرة الحياة على الاستمرار.
لم تُخفِ كارول سماحة التأثُّر ولم تتستَّر تماماً على الحزن. أطلَّ أحياناً من نبرة صوتها، من ارتجافة في يدها، ومن تحيّة الانحناء بين أغنية وأخرى. ولكنها عرفت، مثل عادتها، كيف تمنح الألم شكلاً راقصاً، قابلاً لأن يُعاش علناً بلا خجل. هي لم تأتِ لتبكي. أتت لتُقيم احتفالاً بالحياة بعدما اختبرتها على مستوى الخسارة. أرادت القول إنّ الفَقْد لا يُلغينا، والحبّ لا يموت، فهو يعبُر فينا من رحلة إلى أخرى، أحياناً على هيئة أغنية.

في منتصف الحفل، هتف الجمهور لابنتها تالا، كأنه يرسل قبلة صغيرة لطفلة فقدت والدها قبل أن تفهم تماماً معنى الغياب. لا شكّ أنّ كارول سماحة رأت في الهتاف عزاء آخر، عميقاً ومُبكياً، لكنه يعيد ترتيب شيء في الروح. وهكذا، كانت تتنقّل على الخشبة بخليط من كلّ الأحاسيس، تُغنّي بشغف، تُلوّح بيديها، تملأ المكان بالصوت والحركة. كانت كلَّها، ربما كما لم تكُن من قبل. كأنها أرادت مَنْح تلك الليلة كلّ ما تختزنه من حبّ، وكلّ ما حاولت الأيام أن تُطفئه فيها، فاستعادت عبر الغناء ما يُشبه المعنى.

غنَّت القديم والجديد، باحتراف لا يتراجع أمام المِحنة. لم تستسهل. لم تتنازل عن الأداء المُتقَن. والأهم، لم تستدرَّ عطف الجمهور، فقابلته بكبرياء المرأة التي تعرف تماماً ماذا يعني أن تقف وحدها بعد أن كانت نصفاً مكتملاً. تلك الليلة أكّدت أنّ كارول سماحة فنانة من وزن يُحتَسب، وزوجة تحوّلت إلى أرملة ومع ذلك لم تُهزَم، وأمٌّ تحتضن طفلتها وحدها، وإنْ كانت محاطة بالآلاف، لكنهما معاً تستمدّان قوة مواصلة الطريق.

حين نادت الجالسين في الخلف للقدوم إلى الصفوف الأمامية، لم يكن ذلك مجرّد تنظيم عفوي. كان دعوة إلى الوحدة، إلى التلاحُم، وإلى أن يكون الجميع جسداً واحداً يحتفل بالصمود عوض الأسى، وبالاستمرار رغم الانكسار. وحين تماهى صوتها بأصواتهم، واشتدَّ التصفيق، هدأ شيء في داخلها. يعلم الجميع أنّ الشفاء لا يحلّ فجأة؛ فذلك درب طويل، وقد لا يُكتَب له اكتمال. لكنّ شيئاً من القسوة يلين، وشيئاً من الوحشة يتراجع خطوة إلى الوراء.
الحبّ وحده يفعل ذلك. حبُّ الفنّ، وحبُّ الناس، وحبُّ الحياة رغم كلّ شيء. كأنّ الجمهور أراد أن يقول لها بصوت واحد: «يا كارول، نشعُر بكِ ونُغني معكِ، فلستِ وحيدةً على الإطلاق».





