في مسلسل «فرانكلين»، الذي تعرضه منصة «نتفليكس»، من بطولة دانييلا رحمة ومحمد الأحمد بعد اجتماعهما السابق في «للموت»، تتكاثف الأضواء الداكنة فتتداخل مع مناخه السوداوي، حيث لا نور في آخر النفق؛ فقط قاعٌ بلا قعر. العمل يقف على تخوم الثناء والانتقاد، كأنه يرفض الاصطفاف لإقامته في منطقة رمادية تُعاند الحسم.
تدور الفكرة المركزية حول تزوير العملة؛ وهو موضوع لم يجفّ بعد؛ إذ طرحه مسلسل «تحت سابع أرض» على 30 حلقة رمضانية. هذه المقاربة «المُستهلكة» أثّرت على تلقّي العمل، وبدت كأنها تنزع منه بعضاً من عنصر المفاجأة، وتُظهر الطريق سالكة نحو الخراب واللاعودة، و«مألوفة» تقريباً. هكذا، يُستَهلّ «فرانكلين» بخسارة ورقة مهمّة، ومع ذلك يحتفظ ببعض الأوراق القادرة على الإمساك بالاهتمام.
نصُّ كاتبته شيرين خوري يُعيد ترتيب عناصر مطروحة في دراما المال والنفوذ: الكبير يفترس الصغير، والضحايا يُعَدّون بالجُملة. غير أنَّ النكهة لا تأتي من الحَبْكة البوليسية، وإنما من التصدّعات الداخلية، ومن تلك الرعشات العالقة في العيون، ومن أصداء حبّ قديم لا يعود في نهاية المطاف، لكنه لا يزول. الحبّ هنا ليس بحدّ ذاته؛ إنه بما يتركه من شروخ وندوب تتردَّد مثل صدى عميق في نفس موجوعة.
التشويق، بدوره، مرسوم على إيقاع مألوف: مطاردات، وإطلاق نار، وتصفيات متسلسلة. لكنه تشويق لا يخلو من الفاعلية، وإن افتقر إلى الابتكار. المخرج حسين المنباوي يُحسِن تشكيل الصورة: الكاميرا تُتقن دورها في نقل التوتّر، والموسيقى تتصاعد بالتدريج نحو ذروة القلق، فيما الألوان القاتمة تضيف كثافة إلى المشهد، وتعزّز الإحساس بالخطر المُحدق.
هنا يتبدّى الجانب الأول من العمل، بمفرداته البوليسية والتشويقية. أما الجانب الآخر، فهو أكثر غنى وتوتراً: صراعات نفسية تنبثق من خيبات وخيانات وندوب القدر. العلاقة بين «يوليا» (دانييلا رحمة) و«آدم» (محمد الأحمد) تبدو في ظاهرها محصورة ضمن دائرة التزوير، لكنها في جوهرها جرحٌ عميقٌ مفتوح، يتربَّص بفرصة ليعيد النبض إلى حبهما القديم مهما بلغت المسافة بينهما، واستُبعِد احتمال البداية الجديدة.
يربط العمل التزوير بالمرض، فيُقدَّم «آدم» مثل مَن يخطو نحو الخطيئة بدافع إنساني لإنقاذ أبٍ يُحتَضر، وابنة مريضة بالقلب. مقابل هذا «التبرير»، يتجسَّد الوضوح بتصوير الشرطة اللبنانية بهيئة مهزوزة: سذاجة، وضعف، وانقياد لسلطة «المافيا». ثم تأتي النكهة «المسلسلاتية» عبر انكشاف رابط الأخوّة بين البطل والضابط «زين» (طوني عيسى). مفاجأة تُقدَّم من دون تمهيد، كأنها دُسَّت على عجل في اللحظة الأخيرة. النهاية بدت مُسطَّحة، خاوية من الأثر، كأنها وُلدت مسلوقة لا تشبه ما سبقها من توتّر. هنا يتعثّر النصّ مجدّداً، ليس لكونه ضعيفاً؛ وإنما لأنه عالق في منطقة متوسّطة؛ لا يرقى إلى التفرُّد، ولا يهبط إلى الرداءة.
الكتابة ليست سيئة، لكنها لا تملك اللمعان. لا تُفاجِئ بجرأتها أو بانحرافها عن التوقّعات. حرقُ جثة حيّة، أو رصاصة تختم حياة زعيم «مافيا»، ليست أحداثاً صادمة. هي حلول جاهزة ومألوفة ومتوقَّعة. اللحظات القوية حقاً هي تلك التي تُسلّط الضوء على عوالم الشخصيات الداخلية، على هشاشتها وتناقضاتها، لكنها، يا للأسف، لم تكن في صلب أولويات السرد! ظلَّت هامشاً يُستَدعى حين يفرَغ النصّ من أدوات الإثارة التقليدية.
أمّا التطرّق إلى موضوع وهْب الأعضاء، فكان سطحياً، أقرب إلى الملاحظة العارضة منه إلى المسار المُتكامل. والماضي، كما في كثير من المسلسلات، ظلَّ مُعتَّماً وغير مُفعَّل درامياً. العلاقات العائلية أيضاً، مثل العلاقة الشائكة بين البطلة ووالدها، لم تُعالَج بعمق. بدت مَشاهدهما أشبه بعَرْض حقائق جاهزة من دون بناء تدريجي. وحدها علاقة القانون بالشخصيات نالت لحظات مُضيئة: عندما يتخلَّى الضابط عن صرامته حيال المطلوب بدافع أخوي طارئ، أو حين يُثبت هشاشة القانون وقابليته للاختراق، يُشير العمل إلى واحدة من أهم ثيماته وأكثرها صدقاً.
في الأداء، تلمع دانييلا رحمة بثقة. حضورها يُمسك بالعمل ويمنحه جاذبيته. تؤدّي دورها بتمكُّن حتى حين يُسنَد إلى حبكة تقليدية. أما محمد الأحمد، فيُبقي المشاعر طيَّ الصمت، يتركها تتسرَّب من نظراته أكثر مما تفعل من أقواله. أداء ناضج، لا يُسرف في التعبير، ولا يفرِّط في الاقتصاد. فايز قزق، على غير عادته في الدراما السورية، مرَّ مروراً عادياً. قدَّم المطلوب وغاب. من الأسماء الأخرى، بيار داغر وجورج شلهوب وخالد السيد وسمارا نهرا، قدّموا حضوراً متوازناً يليق بالحبكة من دون أن ينتزعوا الأضواء.
«فرانكلين» ليس مسلسلاً فريداً، لكنه عمل يلتقط اللحظات المؤلمة في النفس البشرية. تشوبه هنَاتٌ في النصّ والتوليف، لكنه لا يخلو من مسارات تستحق التقدير.