تُفضّل الفنانة الصوتية والموسيقية الفلسطينية المعروفة باسم «بنت مبارح» اعتمادَ اسمها المسرحي، والابتعاد عن ذِكْر اسمها الحقيقي. وُلِد هذا الاسم من غياب المُعلّم؛ ذاك الغياب الذي شكَّل ملامح تجربتها، ليُصبح الاسم ذاته اعتراضاً صامتاً، وتوثيقاً حيّاً لواقع فنّي نشأ خارج أسوار المعهد، حيث يغيب المرشد الموسيقي، لتتقدَّم مساحاتٌ فارغة تُملأ بالتجريب. هو اعترافٌ شفّاف يحمل في جوهره تمرّداً: «أنا غير موسيقية»، تقولها لـ«الشرق الأوسط»، وكأنها تُعلن التزامها بنسق آخر من المعرفة، يُعاش ولا يُدرَّس.
ممارسات «بنت مبارح» تنتمي إلى حقل الصوت والفعل، مُتجذِّرةً في البحوث، والتقاطُع مع التراث الشعبي الفلسطيني، حيث تُعاد قراءة الدلالات عوض استنساخها. التقيناها في فترة الاستراحة بين الجلسات الحوارية ضمن برنامج «مفكرة أبريل» التابع لبينالي الشارقة، وهناك شدَّدت على ابتعادها عن التقنية الأكاديمية. فنُّها وليد التجربة، يستغني عن المنهج؛ ووليد احتكاك دائم مع الذاكرة، والواقع. تقول: «نحاول إيجاد ديمومة للتراث الفلسطيني عبر التجريب، لا عبر التقليد. نقرأ التراث، ونحاوره، عوض أن نُعيد تمثيله فقط».
في عرضها، «طوفان الطقوس»، تُقدّم مقطوعات صوتية وموسيقية مُستَلهمة من الفولكلور الفلسطيني المُرتبط بالماء. عرضٌ يقف في وجه الإبادة، سواء كانت جينية، بيئية، أو معرفية. تُسائل من خلاله العلاقة الحميمة بين الصوت والماء؛ تلك الأغنيات التي رافقت مواسم المطر والاستسقاء، والتي كانت تُغنَّى تبجيلاً، وتوسّلاً، ومقاومة. عبر أغنيات البحر، وأغنيات المطر، والشهادات الحيّة، والمقاطع الأرشيفية، تتأمّل الفنانة في البُعد السياسي والشعري لهذه التقاليد، وترى في الأغنية وسيلة تعليمية مشبَّعة بالحكمة البيئية، وفي المسطحات المائية، شاهدةً حيَّة على ذاكرة جمعية.
نسألها عن ارتباطها بأغنيات الماء، فتعود إلى سردية شحّ المياه في فلسطين؛ تلك التي روَّج لها الاحتلال في إطار السردية الاستعمارية، حتى أصبحت كأنها واقعٌ غير قابل للجدل: «من خلال أغنيات الاستسقاء، نفهم أنّ الاحتلال الإسرائيلي ليس مَن يُخبرنا ماذا يحدث في أرضنا؟ ولا هو مَن يسأل، أو يُحصي نسبة المتساقطات كلّ عام. لسنا بحاجة إلى منطقه كي نعرف أرضنا. الماء هو مفتاح موسيقاي».
تفتح «بنت مبارح» أبواب الأسئلة: «هل نحن حقاً في أزمة شحّ مياه؟ أم أنّ ذلك ما يريد لنا الاحتلال أن نُصدّقه؟ كيف يكون هناك شحّ والمستوطن يسيطر على برك المياه؟ كيف يُحدِّث الناس عن الجفاف، وهو مَن ينعم بمزارع المانجو مثلاً؟».
تؤمن بأنَّ في الغناء تكمُن أشكال حوكمة فلسطينية أصلانية، تتحدَّى هذه السرديات من جذورها. وتسترجع صلاة الاستسقاء في قريتها القريبة من نابلس، الهادفة إلى إعادة التوازن في توزيع المطر، فتُشير إلى أنّ هذه الممارسات موثَّقة في الأغنيات الشعبية، وهي تحفظ ذاكرةَ الشكّ بواقع مفروض، يُقال إنه «شحّ»، لكنها تراه بنظرة أخرى. تروي: «حين زرتُ بلدات في فلسطين، وسألتُ نساءً عن أغنيات الاستسقاء، وجدتُ أنّ هذه الأغنيات ترتبط بمواقع جغرافية محدّدة جداً. يعنيني المطر، ويُشكل محور ذكرياتي، كما ظلَّ شاغلي منذ الطفولة. كبرتُ وسردية الاحتلال لا تفارقني: ممنوع تجميع الأمطار في مناطق (باء) و(جيم)، بينما في مناطق (ألف)، المحدودة فقط في الضفة الغربية، يُسمح بذلك. لقد سُرِقت استقلاليتنا، حتى في زراعة حديقة المنزل».
ترعرعت في فلسطين، وتقيم اليوم في لندن، لكنها تَحفُر دائماً نحو تلك المعلومات الدفينة التي لا تظهر في الوثائق الرسمية. فما تصنعه «بنت مبارح» هو «خريطة مؤدّاة»، لا تُقرأ في الكتب، ولا تُرسم على الورق، وإنما تنبض في الذاكرة، ونَفَس العيش. تقول: «هذه الخريطة كانت مفاجأتي الكبرى خلال بحثي، فقد تعلّمتُ منها كيف نُحاكي المطر، وكيف نحكم ونُطالب بالعدل في توزيع المياه. إنها خريطة نرسمها بغنائنا، بصوتنا، بجغرافيتنا التي لا تنفصل عن أجسادنا».
في فنّها، يتجسّد الموقف عبر الارتجال. ترفض التسجيلات الثابتة، وتصرُّ على الغناء المباشر، كونه نوعاً من التوثيق الحيّ، إلى درجة أن يصبح الصوت ذاته فعلاً سياسياً: «أحاولُ القول من خلال الغناء إنّ هناك إنساناً حيّاً يتقن الأداء، ويوثِّق عبر النَّفَس، لا عبر الميكروفون فقط. ما أبحث عنه هو توثيق حيّ يتجاوز الخيال التراثي. على المسرح، نُعلن وجودنا».
بصوتها، وارتجالاتها، وبإيمانها بأنّ الموسيقى يمكن أن تكون طريقة للعيش لا مجرَّد تقنية، تُعيد «بنت مبارح» تعريف المُعاصَرة الفلسطينية، حيث يتحوّل المطر إلى نغمة، والأغنية إلى مقاومة، والصوت إلى خريطة بديلة للوطن.