ابتسامات «أطفال السرطان» تخرق جدار الحرب في لبنان

«الشرق الأوسط» زارت مركز العلاج حيث النداء واحد: «السرطان لا ينتظر الحرب» (فيديو)

TT

ابتسامات «أطفال السرطان» تخرق جدار الحرب في لبنان

منذ أكثر من 20 عاماً يعالج المركز مجاناً الأطفال المصابين بالسرطان (مركز سرطان الأطفال في لبنان)
منذ أكثر من 20 عاماً يعالج المركز مجاناً الأطفال المصابين بالسرطان (مركز سرطان الأطفال في لبنان)

كواحة حبّ تنبت وسط المدينة الجريحة، يشرّع «مركز سرطان الأطفال في لبنان» أبوابه لأجسادٍ هشّة، جاءت تستقي جرعة علاج وجرعاتِ قوّة وأمان.

فوق هذا الصرح الذي يعالج مجاناً الأطفال المصابين بالسرطان منذ 22 عاماً، عبرت أشباحٌ كثيرة ليس المرض والموت أفظعها. فما يرعب القيمين على المركز اليوم، وفي ظلّ الحرب التي تشنّها إسرائيل على لبنان، أن تفرغ الخوابي من القروش البيضاء، فينقطع حبل القدرة على استقبال مزيدٍ من الحالات وتقديم العلاج اللازم لها.

منذ أكثر من 20 عاماً يعالج المركز مجاناً الأطفال المصابين بالسرطان (مركز سرطان الأطفال في لبنان)

المحنة الأصعب

يوم دخلت هَنا الشعّار شعيب إلى البهو الملوّن عام 2004، لم تتوقّع أن تدوم الرحلة أكثر من شهر. لكن ها هي مديرة المركز تختم عامها العشرين فيه. تكفي حكايات الرجاء والصمود التي شهدت عليها، ذخيرة للبقاء. لكن المسؤولة قلقة اليوم أكثر من أي وقت؛ «هذه المحنة التي نمر فيها هي الأصعب على الإطلاق»، تقول الشعّار لـ«الشرق الأوسط». فالحرب آتية بعد 5 سنوات توالت خلالها الدواهي على لبنان، على رأسها الانهيار الاقتصادي.

لكلِ طفلٍ يحتضنه المركز علاجٌ مجّاني تتراوح تكلفته ما بين 40 و200 ألف دولار سنوياً، حسب الحالة السرطانية ومدّتها الزمنيّة. وتبلغ الحاجة السنوية 15 مليون دولار. أما المبالغ فتُجمع حصراً عبر التبرّعات التي يقدّمها أفرادٌ ومؤسسات من لبنان والعالم. «مع كل أزمة تحلّ بالبلد، تتحوّل المساعدات إلى أماكن أخرى ونحن نحترم ذلك»، تشرح الشعّار. «لكن المشكلة هي أن علاج الأطفال لا يمكن أن يتوقف لأن السرطان لا ينتظر».

تتراوح تكلفة علاج الطفل الواحد ما بين 40 و200 ألف دولار سنوياً (مركز سرطان الأطفال في لبنان)

ليست تلك العبارة مجرّد شعارٍ يرفعه المركز على منصات التواصل الاجتماعي، فالسرطان فعلاً لا ينتظر أن يصمت هدير الطائرات المعادية، ولا أن تتوقّف الصواريخ عن الانهمار، ولا أن يعود النازحون إلى بيوتهم سالمين. هو في سباقٍ مع الأجساد الصغيرة التي ينهشها، وقد انعكسَ هذا القلق على الأطفال الخائفين من انقطاع العلاج. وهذا خوفٌ يُضاف إلى ما يعانيه بعض مرضى المركز من نزوحٍ وصدماتٍ نفسية جرّاء الحرب.

دُرج الذكريات في البيت «المكسور»

كما مصطفى، كانت لمحمد (8 سنوات) حصته من الرعب يوم اشتدّ القصف على الضاحية الجنوبيّة لبيروت. بنُضج شخصٍ بالغ يتحدّث إلى «الشرق الأوسط». يخبر الطفل الذي يعاني من سرطان الدم، كيف هرب وعائلته من بيته «المكسور» إلى إحدى بلدات الجبل. أكثر ما يحزن عليه، دُرجٌ قرب السرير مكتنزٌ بالذكريات لم يستطع أن يجلب منه شيئاً. «وضعتُ فيه أغراضاً حافظت عليها منذ كان عمري 5 سنوات. ذاك الدرج يعني لي الكثير؛ لأنّ فيه هدايا من جدّي رحمهما الله... سلسلة وسوار ونظّارات شمسيّة».

تتوالى الحكايات على ألسنة الأطفال، فهُنا علي يحكي كيف اختبأ في السيارة تحت الشجرة ريثما يهدأ القصف على طريق العبور من الجنوب إلى بيروت، وهناك زهراء تُحصي الصواريخ التي سقطت قرب بيتها في بعلبك. أما فاطمة الآتية من عكّار، فمتعبة من الطريق الطويل، ومتأثّرة بمشاهد النازحين الذين قصدوا بلدتها الشمالية البعيدة. تقول إنها، وكلّما شعرت بالقليل من الارتياح من آلام سرطان الغدّة، تبحث في البيت عمّا باستطاعتها تقديمه لهم.

خريطة الألم والأمل

في المركز المُزدان بقلوب الحب وألوان التسامح وبرسومٍ بريئة تتخيّل السلام، تتضاءل المسافات بين الأقضية والمدن والقرى اللبنانية. هنا، وحدَهما الألم والأمل يرسمان الخريطة التي يقيم عليها «أطفال السرطان» وأهاليهم.

في هذا المكان تعلّم الأطفال أن يتقبّلوا الآخر، على اختلافاته. وليس مستغرباً بالتالي أن يقلق محمد النازح من بيته المشظّى في الضاحية، على عائلاتٍ افترشت رمال البحر «نايمين بخيَم وما لاقيين حتى ياكلوا». أما كارول (9 سنوات) الآتية من حاصبيّا لتلقّي العلاج من سرطان الدم، فتشغل بالها قصصُ أصدقائها في المركز: « قالولي رفقاتي إنو تركوا بيوتهم وراحوا على بيت جديد من ورا الحرب، لأنو الحرب كتير قريبة منهم».

يحاول المركز أن يشكّل واحة أمان للأطفال المرضى بعيداً عن هدير الحرب (مركز سرطان الأطفال في لبنان)

ثغرة في جدار الحرب

يتولّى «مركز سرطان الأطفال» حالياً علاج 400 طفل، متسلّحاً بنسبة شفاء تتخطّى الـ80 في المائة، وبشهادات نحو 5000 طفل خرجوا من المركز أصحّاء على مدى العقدَين المنصرمين.

تشير الشعّار إلى أنّ «مجموعة من الفعاليات والمناسبات التي كانت مقررة بهدف جمع التبرّعات باتت بحُكم الملغاة بسبب الحرب، ما يهدّد بالوقوع في العجز، لا بل أكثر من ذلك. إذ من المتوقّع أن يتضخّم هذا العجز لأن احتياجات الأولاد الصحية إلى تزايد».

اضطرّ المركز لإلغاء أنشطة جمع التبرعات نظراً للظروف المستجدة (مركز سرطان الأطفال في لبنان)

رغم المخاطر الأمنية والمادية التي تتهدّد مصير المركز، فإنّ «العمل يجب أن يستمر»، على ما تؤكد المديرة. فالموظفون الذين خسروا بيوتهم في القصف أو اضطرّوا للنزوح عنها، ما زالوا يحضرون يومياً إلى عملهم، «انطلاقاً من إيمانهم بمهمة المركز الإنسانية النبيلة، ولأن بثّ الحياة في الأطفال هو مسؤوليتنا الأساسية ولا يمكن أبداً أن نلقيها عن عاتقنا، خصوصاً في هذه اللحظة الحرجة»، وفق تعبير الشعّار.

من الأطفال العابرين فوق جراح النزوح وحطام المنازل، الحاملين وجع المرض وبريقاً لا ينطفئ في العيون، يستمدّ فريق عمل «مركز سرطان الأطفال» طاقته للاستمرار. بابتساماتهم ونضالهم من أجل الشفاء، يشقّون ثغرة في جدار الحرب.


مقالات ذات صلة

إيلون ماسك ينتقد مقترح أستراليا بحظر منصات التواصل الاجتماعي على الأطفال

العالم إيلون ماسك خلال مؤتمر في فندق بيفرلي هيلتون في بيفرلي هيلز - كاليفورنيا بالولايات المتحدة 6 مايو 2024 (رويترز)

إيلون ماسك ينتقد مقترح أستراليا بحظر منصات التواصل الاجتماعي على الأطفال

انتقد الملياردير الأميركي إيلون ماسك، مالك منصة «إكس»، قانوناً مُقترَحاً في أستراليا لحجب وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال دون 16 عاماً.

«الشرق الأوسط» (سيدني)
صحتك الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

الحياة الخاملة ترفع ضغط الدم لدى الأطفال

كشفت أحدث دراسة تناولت العوامل المؤثرة على ضغط الدم، عن الخطورة الكبيرة للحياة الخاملة الخالية من النشاط على الصحة بشكل عام، وعلى الضغط بشكل خاص.

د. هاني رمزي عوض (القاهرة)
صحتك أطفال سوريون في مخيم ببلدة سعد نايل في منطقة البقاع (أ.ف.ب)

الحرب تؤثر على جينات الأطفال وتبطئ نموهم

لا يعاني الأطفال الذين يعيشون في بلدان مزقتها الحرب من نتائج صحية نفسية سيئة فحسب، بل قد تتسبب الحرب في حدوث تغييرات بيولوجية ضارة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
المشرق العربي أرشيفية لجندي إسرائيلي يتخذ من طفل فلسطيني درعا بشرية في غزة

نحو 700 طفل فلسطيني يحاكَمون في محاكم عسكرية إسرائيلية

قالت هيئات فلسطينية، اليوم (الأربعاء)، إن نحو 700 طفل فلسطيني يحاكمون في محاكم عسكرية إسرائيلية.

«الشرق الأوسط» (رام الله)
آسيا نيلا إبراهيمي ناشطة في مجال حقوق الفتيات الأفغانيات تفوز بجائزة السلام الدولية للأطفال (أ.ف.ب)

فرت وعائلتها هرباً من «طالبان»... أفغانية تفوز بجائزة السلام الدولية للأطفال

فازت فتاة مراهقة فرت مع عائلتها من أفغانستان بعد عودة «طالبان» إلى السلطة قبل ثلاث سنوات، بجائزة «كيدز رايتس» المرموقة لنضالها من أجل حقوق المرأة.

«الشرق الأوسط» (كابل - أمستردام)

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
TT

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)
أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

عاد إلى ذاكرة مُؤسِّسة غاليري «آرت أون 56»، نهى وادي محرم، مشهد 4 أغسطس (آب) 2020 المرير. حلَّ العَصْف بذروته المخيفة عصر ذلك اليوم المشؤوم في التاريخ اللبناني، فأصاب الغاليري بأضرار فرضت إغلاقه، وصاحبته بآلام حفرت ندوباً لا تُمحى. توقظ هذه الحرب ما لا يُرمَّم لاشتداد احتمال نكئه كل حين. ولمّا قست وكثَّفت الصوتَ الرهيب، راحت تصحو مشاعر يُكتَب لها طول العُمر في الأوطان المُعذَّبة.

رغم عمق الجرح تشاء نهى وادي محرم عدم الرضوخ (حسابها الشخصي)

تستعيد المشهدية للقول إنها تشاء عدم الرضوخ رغم عمق الجرح. تقصد لأشكال العطب الوطني، آخرها الحرب؛ فأبت أن تُرغمها على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية. تُخبر «الشرق الأوسط» عن إصرارها على فتحه ليبقى شارع الجمّيزة البيروتي فسحة للثقافة والإنسان.

تُقلِّص ساعات هذا الفَتْح، فتعمل بدوام جزئي. تقول إنه نتيجة قرارها عدم الإذعان لما يُفرَض من هول وخراب، فتفضِّل التصدّي وتسجيل الموقف: «مرَّت على لبنان الأزمة تلو الأخرى، ومع ذلك امتهنَ النهوض. أصبح يجيد نفض ركامه. رفضي إغلاق الغاليري رغم خلوّ الشارع أحياناً من المارّة، محاكاة لثقافة التغلُّب على الظرف».

من الناحية العملية، ثمة ضرورة لعدم تعرُّض الأعمال الورقية في الغاليري لتسلُّل الرطوبة. السماح بعبور الهواء، وأن تُلقي الشمس شعاعها نحو المكان، يُبعدان الضرر ويضبطان حجم الخسائر.

الفنانون والزوار يريدون للغاليري الإبقاء على فتح بابه (آرت أون 56)

لكنّ الأهم هو الأثر. أنْ يُشرّع «آرت أون 56» بابه للآتي من أجل الفنّ، يُسطِّر رسالة ضدّ الموت. الأثر يتمثّل بإرادة التصدّي لِما يعاند الحياة. ولِما يحوّلها وعورةً. ويصوّرها مشهداً من جهنّم. هذا ما تراه نهى وادي محرم دورها في الأزمة؛ أنْ تفتح الأبواب وتسمح للهواء بالعبور، وللشمس بالتسلُّل، وللزائر بأن يتأمّل ما عُلِّق على الجدران وشدَّ البصيرة والبصر.

حضَّرت لوحات التشكيلية اللبنانية المقيمة في أميركا، غادة جمال، وانتظرتا معاً اقتراب موعد العرض. أتى ما هشَّم المُنتَظر. الحرب لا تُبقى المواعيد قائمة والمشروعات في سياقاتها. تُحيل كل شيء على توقيتها وإيقاعاتها. اشتدَّت الوحشية، فرأت الفنانة في العودة إلى الديار الأميركية خطوة حكيمة. الاشتعال بارعٌ في تأجيج رغبة المرء بالانسلاخ عما يحول دون نجاته. غادرت وبقيت اللوحات؛ ونهى وادي محرم تنتظر وقف النيران لتعيدها إلى الجدران.

تفضِّل نهى وادي محرم التصدّي وتسجيل الموقف (آرت أون 56)

مِن الخطط، رغبتُها في تنظيم معارض نسائية تبلغ 4 أو 5. تقول: «حلمتُ بأن ينتهي العام وقد أقمتُ معارض بالمناصفة بين التشكيليين والتشكيليات. منذ افتتحتُ الغاليري، يراودني هَمّ إنصاف النساء في العرض. أردتُ منحهنّ فرصاً بالتساوي مع العروض الأخرى، فإذا الحرب تغدر بالنوايا، والخيبة تجرّ الخيبة».

الغاليري لخَلْق مساحة يجد بها الفنان نفسه، وربما حيّزه في هذا العالم. تُسمّيه مُتنفّساً، وتتعمّق الحاجة إليه في الشِّدة: «الفنانون والزوار يريدون للغاليري الإبقاء على فتح بابه. نرى الحزن يعمّ والخوف يُمعن قبضته. تُخبر وجوه المارّين بالشارع الأثري، الفريد بعمارته، عما يستتر في الدواخل. أراقبُها، وألمحُ في العيون تعلّقاً أسطورياً بالأمل. لذا أفتح بابي وأعلنُ الاستمرار. أتعامل مع الظرف على طريقتي. وأواجه الخوف والألم. لا تهمّ النتيجة. الرسالة والمحاولة تكفيان».

الغاليري لخَلْق مساحة يجد بها الفنان نفسه وربما حيّزه في العالم (آرت أون 56)

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها: الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع، الإسعاف والصراخ... لـ9 أشهر تقريباً، أُرغمت على الإغلاق للترميم وإعادة الإعمار بعد فاجعة المدينة، واليوم يتكرّر مشهد الفواجع. خراب من كل صوب، وانفجارات. اشتدّ أحدها، فركضت بلا وُجهة. نسيت حقيبتها في الغاليري وهي تظنّ أنه 4 أغسطس آخر.