أنغام «فاس للموسيقى الروحية» تسحر حضوراً استمالته تجربة استثنائية

زرياب وسامي يوسف وعالميون يُجمّلون ليالي المدينة التاريخية

 طوال 8 أيام وليالٍ عاشت المدينة التاريخية لحظات فريدة (الشرق الأوسط)
طوال 8 أيام وليالٍ عاشت المدينة التاريخية لحظات فريدة (الشرق الأوسط)
TT

أنغام «فاس للموسيقى الروحية» تسحر حضوراً استمالته تجربة استثنائية

 طوال 8 أيام وليالٍ عاشت المدينة التاريخية لحظات فريدة (الشرق الأوسط)
طوال 8 أيام وليالٍ عاشت المدينة التاريخية لحظات فريدة (الشرق الأوسط)

انطفأت منتصف ليل السبت - الأحد أنوار باب الماكينة التاريخي الرائع في مدينة فاس العريقة بالمغرب، مع انتهاء النسخة الـ27 لـ«مهرجان فاس للموسيقى الروحية»، المُنطلِق مساء الجمعة 24 مايو (أيار). طوال 8 أيام وليالٍ، عاشت المدينة التاريخية لحظات فريدة، شكّلت باكورتها ليلة الافتتاح التي التأمت هذا العام تحت اسم «بحثاً عن روح الأندلس». تكفي التسمية لتنقل الحضور إلى زمن تألّقت فيه الثقافة العربية، مُطعَّمة بالألوان المحلّية الأندلسية، من موشّحات وأغنيات وموسيقى، ما كرَّس رهافة الحسّ والتذوُّق والاستمتاع. وكان من الطبيعي أن تهيمن عليها شخصية أبو علي بن نافع الموصلي المعروف باسم زرياب، أي الطائر أسود اللون، ويُسمَّى أيضاً الشحرور.

سيرة زرياب تكفي لتكون باباً إلى الخيال. زرياب الموصلي لم يكن فقط نابغة هذَّب موسيقى عصره وأطلقها في فضاء أرحب، ومغنّياً عذب الصوت أعجب كبار ذلك الزمان ودفعهم إلى الاحتفاظ، لا بل الانفراد به؛ بل كان أيضاً شاعراً ولغوياً وفلكياً وجغرافياً ورحّالة. وكان سبّاقاً في إطلاق المدارس الفنّية، كما فعل في مدينة قرطبة الأندلسية، حيث أسَّس دار المدنيات للموسيقى والغناء التي تُعدّ الأولى من نوعها.

زرياب الشخصية الأسطورية

يطول الحديث عن زرياب الذي ترك بلاد الرافدين في عهد الخليفة هارون الرشيد، نحو بلاد الشام، وبعدها إلى شمال أفريقيا حيث أقام في بلاط بني الأغلب في القيروان، قبل أن يتوجّه إلى قبلة الثقافة آنذاك، أي الأندلس، ويحلَّ في قرطبة. هناك ذاعت شهرته سريعاً بوصفه رجلاً واسع الثقافة والأناقة، ورهيف الإحساس، لامعاً في الموسيقى والألحان والغناء. إزاء هذه الهامة، كان من الطبيعي أن يكرّس له مهرجان «فاس» ليلته الأولى بعنوان «زرياب والوتر الخامس»، فجاءت استثنائية بكل المعايير. إنها رحلة من بغداد إلى الأندلس، فقصر الأمير عبد الرحمن الثاني في قرطبة. ولأنّ زرياب كان شخصية عالمية، جاء تكريمه عالمياً؛ إذ حرصت مؤسّسة «روح فاس» المشرفة على المهرجان على دعوة موسيقيين من أوزبكستان، وإيران، وسوريا، والهند، وإسبانيا، ومصر، وإيطاليا، وأرمينيا، وفرنسا، وطبعاً من المغرب. وكان من الطبيعي أيضاً حضور إسبانيا ضيفةَ الشرف لهذا العام، وأن يستضيف الحدث عدداً من فنانيها في توليفة ثنائية عربية - إسبانية، أعادت إلى المخيّلات أجواء الأندلس المتميّزة.

اتّسمت الأمسية بباقة من العروض لفنانين مرموقين، منهم ربيع القاطي، وسناء مرحاتي، وسمادج، ولووب باروو، ورباعي خوان كارمونا، ومجموعة مادالينا. ولاستكمال الصورة، تتعيَّن الإشارة إلى القراءات الشعرية التي استلهمت كبريات الأسماء في عالم الشِّعر والتصوُّف والفلسفة، لتعطي السهرة أبعاداً فكرية أرحب. ووصل الإعجاب بما شهدته «فاس» حدَّ أنّ السفارة الأميركية أشادت بالمهرجان ووصفت ليلة الافتتاح بـ«الساحرة».

إعلان النسخة الـ27 لـ«مهرجان فاس للموسيقى الروحية» (الجهة المنظّمة)

«روح فاس»: بعيدون عن النخبوية

في حديثه مع «الشرق الأوسط»، ركّز رئيس مؤسّسة «روح فاس» المشرفة على المهرجان، عبد الرفيع زويتن، على «استدامة روحيته منذ انطلاقته التي تجسّد حوار الثقافات والأديان، وتُروّج لروح التسامح والتلاقي والانفتاح». الهدف، وفق المنظّمين، إبراز فترة التعايش السلمي بين الشعوب والديانات في الأندلس منذ القرن الـ8 إلى القرن الـ15؛ وهي مرحلة عُرفت بـ«الحقبة الذهبية» التي يريد المغرب استدامة تجسيدها.

عندما نسأله عن المفارقة بين هذه القيم الإنسانية السامية وما تشهده المنطقة من واقع مأساوي عنوانه القتل والدمار، يجيب زويتن: «رغم المآسي والأوضاع الصعبة، تتعيّن المحافظة على إمكان الحوار والتلاقي بين الثقافات»، مستشهداً بما قاله العاهل المغربي محمد السادس عندما أعلن أنّ مِن قيم المغرب أن يكون دائماً «وطن الحوار والتسامح».

انتقل الحضور إلى زمن تألّقت فيه الثقافة العربية مُطعَّمة بالألوان الأندلسية (الشرق الأوسط)

وهوية المهرجان؛ أهي شعبية أم نخبوية؟ يسارع إلى القول إنه «أبعد ما يكون على النخبوية؛ لأنه منفتح على جميع الطبقات الشعبية وعلى الشباب». يطمح رئيس المؤسّسة بأن يتمكّن الحدث الذي يُعدّ «الأول في العالم لجهة الموسيقى الروحية» من الإطلالة على العالم، فلا يبقى محصوراً بمدينة فاس على غرار ما تقوم به مثلاً المتاحف العالمية التي تخرُج أحياناً من أسوارها لتطلّ على مدن وبلدان جديدة. وما يقوله زويتن لا يجافي الحقيقة؛ إذ إنّ الفاسيين والمغاربة والضيوف الأجانب جاؤوا بكثرة إلى فاس، ما يعكس نجاح المهرجان وشعبيته، حدَّ أنّ الليلة التي أحياها الفنان العالمي سامي يوسف شهدت دفقاً من الحضور لم يستطع باب الماكينة استيعابهم جميعاً، وتوفير الكراسي لهم ليتمتّعوا بسهرة استثنائية.

سامي يوسف يلهب الحضور

يصعب عرض إبداعات المهرجان في لياليه الجميلة، بحضور الأميرة للا حسناء، ورعاية الملك محمد السادس. وإنما حفل سامي يوسف، الفنان المولود في طهران عام 1980 من أبوين آذريين، ألهب جمهور فاس بأغنياته وألحانه، وبعضها خصَّ به المهرجان. يوسف المعروف عالمياً بموسيقاه التي سمّاها «الروحانية»، تمزج عناصر من التراث الإسلامي والغربي والشرقي، وهو يغنّي بلغات عدّة، منها العربية. كانت لافتة الجوقة الموسيقية التي رافقته، وهي متعدّدة الجنسية والعِرق، وبينها أصوات مغربية، نساء ورجالاً، استثنائية. باع ملايين النسخ، وهو متعدّد المواهب لجهة العزف الموسيقي والغناء والتلحين والكتابة. وكان من الطبيعي أن يكون مجيئه إلى فاس حدثاً استثنائياً، خصوصاً أنه دار على أهم مدن الدنيا، وغنّى فيها، وحصد نجاحاً عالمياً، فأناشيده وأغنياته وكلماته تتمحور حول الروحانية الشاملة، وعبقها صوفي.

حدثٌ كرَّس رهافة الحسّ والتذوُّق والاستمتاع (الشرق الأوسط)

ما بين باب الماكينة وحديقة جنان السبيل الغنيّة بتنوُّع أشجارها وجمال تخطيطها، تنقّلت ليالي المهرجان التي اقترحت لنسختها الـ27 برمجة متنوّعة ومنفتحة على ثقافات وروحانيات من مختلف البقاع. وقد أحيت لياليها نخبة من الموسيقيين المشهورين، ضمَّت، إضافة إلى سامي يوسف، فنان الفلامينكو فيسنتي أميكو، وإبداعات موسيقية أصيلة على غرار فقرة ياترا سفرقي، التي تَعِد بسفر روحي حالم انطلاقاً من قصر راجاستان نحو أبواب الأندلس، أو حتى حفل ستابات ماطر، بقيادة المايسترو باولو أولمي. ولا يمكن تجاهل روعة الأداء للفرق الصوفية التي أبدعت إنشاداً وابتهالاً، مثل فرقة الطريقة التيجانية، أو الطريقة الحمدوشية، أو عازفة القانون التونسية خديجة العفريت، أو نيسم جلال في «طقوس الشفاء»، لتكون خاتمة المهرجان لفرقة الغوسبل الفيلارمونية مع كيم بوريل والمجموعة الأوكسترالية المعاصرة.

تجربة فذَّة تحتضنها فاس التي تفتح أبواب مدينتها وآثارها التاريخية في وجه الزوّار الذين لا يتردّدون في التعرُّف إليها وإلى أسواقها، وبعضهم يستكمل التجربة الموسيقية بتجربة تاريخية عبر زيارة مدينة مكناس المجاورة، والذهاب أبعد إلى مدينة مولاي إدريس، وقريبة منها آثار مدينة فولوبيليس الرومانية المُسمّاة بالعربية المغربية «وليلي»؛ وهي تضاهي أفضل ما تركه الرومان من آثار في بلدان المتوسّط.


مقالات ذات صلة

«القاهرة السينمائي» يوزّع جوائزه: رومانيا وروسيا والبرازيل تحصد «الأهرامات الثلاثة»

يوميات الشرق المخرج المصري بسام مرتضى يرفع بجوائز فيلمه «أبو زعبل 89» (إدارة المهرجان)

«القاهرة السينمائي» يوزّع جوائزه: رومانيا وروسيا والبرازيل تحصد «الأهرامات الثلاثة»

أثار الغياب المفاجئ لمدير المهرجان الناقد عصام زكريا عن حضور الحفل تساؤلات، لا سيما في ظلّ حضوره جميع فعاليات المهرجان.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق عمرو سعد يتحدث عن مشواره الفني (إدارة المهرجان)

عمرو سعد: أعود للشاشة بفيلم «الغربان»... وأحل ضيفاً على «الست»

قال الفنان المصري عمرو سعد إن غيابه عن السينما في السنوات الأخيرة جاء لحرصه على تقديم أعمال قوية بإمكانات مادية وفنية مناسبة.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق حفل ختام مهرجان شرم الشيخ المسرحي شهد غياب مشاهير الفن (شرم الشيخ المسرحي)

«شرم الشيخ المسرحي» يُختتم بعيداً عن «صخب المشاهير»

اختتم مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي فعاليات دورته التاسعة، مساء الأربعاء، بعيداً عن صخب المشاهير.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الفنانة السورية سُلاف فواخرجي والمخرج جود سعيد مع فريق الفيلم (القاهرة السينمائي)

«سلمى» يرصد معاناة السوريين... ويطالب بـ«الكرامة»

تدور أحداث الفيلم السوري «سلمى» الذي جاء عرضه العالمي الأول ضمن مسابقة «آفاق عربية» بمهرجان القاهرة السينمائي في دورته الـ45، وتلعب بطولته الفنانة سلاف فواخرجي.

انتصار دردير (القاهرة)

هولندي يروّج للسياحة المصرية بالتجديف في النيل لمدة أسبوع

المجدف الهولندي يبدأ رحلته من بني سويف حتى القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)
المجدف الهولندي يبدأ رحلته من بني سويف حتى القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)
TT

هولندي يروّج للسياحة المصرية بالتجديف في النيل لمدة أسبوع

المجدف الهولندي يبدأ رحلته من بني سويف حتى القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)
المجدف الهولندي يبدأ رحلته من بني سويف حتى القاهرة (وزارة السياحة والآثار المصرية)

دشن المجدف الهولندي المحترف، روب فان دير آر، مشروع «التجديف من أجل مصر 2024»، بهدف الترويج لمنتج السياحة الرياضية المصرية، حيث تستمر الرحلة لمدة أسبوع، وتبدأ من بني سويف (115 كيلومتراً جنوب القاهرة)، وحتى العاصمة القاهرة.

ويهدف المشروع إلى تسليط الضوء على جمال مصر وتراثها الطبيعي والثقافي المتميز، بالإضافة إلى الترويج لمقوماتها السياحية والأثرية المتنوعة، ورفع الوعى بأهمية الحفاظ على نهر النيل.

المُجدّف الهولندي المحترف روب فان دير آر (وزارة السياحة والآثار المصرية)

ووفق عمرو القاضي، الرئيس التنفيذي للهيئة المصرية العامة للتنشيط السياحي، فإن مشاركة الهيئة في هذا الحدث تأتي في إطار حرص الدولة المصرية على التعاون مع سفارات الدول الأجنبية بمصر، ولا سيما في الفعاليات والأحداث التي تلقي الضوء على المقصد السياحي المصري والترويج لمقوماته ومنتجاته السياحية المتنوعة والمختلفة.

ولفت القاضي إلى أن «هذه النوعية من الأحداث تخاطب شريحة من المهتمين بمنتج السياحة الرياضية بصفة عامة ومنتج سياحة المغامرات بصفة خاصة، كما أنها تتماشى مع الاستراتيجية الترويجية للهيئة التي تهدف إلى الترويج لمقومات مصر السياحية، علاوة على الدور المجتمعي الذي تقوم به الهيئة في التعاون مع المؤسسات الخيرية».

جدير بالذكر أن هذا المشروع يتم تنفيذه بالتعاون والتنسيق بين سفارة دولة هولندا في القاهرة، ومؤسسة مجدي يعقوب للقلب، وشركة Aspire، وتحت رعاية عدد من الوزارات.

مشروع «التجديف من أجل مصر 2024» يهدف إلى الترويج للسياحة الرياضية (وزارة السياحة والآثار المصرية)

ويتوقع وزير السياحة والآثار المصري، شريف فتحي، الوصول إلى هدف «30 مليون سائح سنوياً» بحلول عام 2031 إذا لم تحدث متغيرات جيوسياسية جديدة بالمنطقة»، وفق تعبيره.

وقال إن «الاستراتيجية التي أعلنتها الحكومة المصرية خلال الفترة الماضية -30 مليون سائح بحلول عام 2028- كانت طَموحة للغاية، ولم تضع في حسبانها الأزمات السياسية والعسكرية التي أثّرت تداعياتها على دول المنطقة والعالم».

ورغم ذلك توقع الوزير أن يشهد العام الحالي زيادة في أعداد السائحين القادمين إلى مصر، ليكون 15.2 مليون سائح في 2024، مقارنةً بـ14.906 مليون سائح عام 2023.