تشتهر المخرجة اللبنانية كارمن لبكي بوثائقيات تحاكي تاريخ مجتمعات مختلفة. فقد وقَّعت كثيراً منها، من بينها «الأرمن في لبنان»، و«اسمي آرام»، و«القبارصة الموارنة»... ومؤخراً، نفّذت برنامج «العالم في لبنان»، عن تاريخ الجاليات الأجنبية فيه، وهو يُعرض مرة أسبوعياً (مساء الثلاثاء) عبر محطة «إل بي سي آي» المحلية. بحثها وتعمّقها في الموضوع، سببهما أنه يؤلّف جزءاً لا يتجزأ من تاريخ لبنان التنوّعي. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «ليست مصادفة ولادة لبنان التعدّدي منذ سنوات طويلة. جاليات أجنبية عدّة طبعت وجوده، وعندما مرَّت بأرضه، جذبها وقرّرت الإقامة فيه».
هذا التاريخ الذي تتحدّث عنه لبكي زوّد لبنان بطابع اجتماعي قلّما نجده في بلدان أخرى. فالأجانب من فرنسيين وألمان وفنلنديين وإيطاليين وغيرهم، تركوا أرضهم واستقروا في بلاد الأرز أباً عن جد. أصبح بالنسبة إليهم الوطن الذي بحثوا عنه. وجدوا فيه، بجانب المناخ المعتدل، شعباً مضيافاً ودافئاً. غالبية تلك الجاليات التي تضيء لبكي عليها، تعدّه أرضها الحقيقية. حتى إن أولاد البعض لا يجيدون التحدّث بلغتهم الأم. فالحب الذي أورثتهم إياه عائلاتهم، يسري بدمائهم، فيطبعهم قلباً وقالباً.
حتى الآن، عُرضت حلقتان من البرنامج؛ الأولى تناولت الوجود الإيطالي، والثانية تحدّثت عن البلجيكيين المقيمين في لبنان. في الحلقتين، تفاجأ المُشاهد اللبناني بالعلاقة الوطيدة التي تربط الأجانب ببلادهم. كما تعرّفوا إلى كيفية ذوبانهم في مجتمعه، فباتوا لبنانيين أسوة بأهله، ولا يبدّلونه «بكنوز الدنيا»، كما تؤكد غالبيتهم.
تقول لبكي إنّ بعض هذه الجاليات أعدادها ضئيلة؛ ورغم ذلك، طبعت الأرض التي تسكنها بهويتها الأصلية: «قلة من اللبنانيين تعلم أنّ الإيطاليين بنوا مدرستين منذ القرن الماضي، ما لبثتا أن هُدِمتا وتحوّلتا موقفَ سيارات. اليونانيون أيضاً أنجزوا مشاريع في لبنان، فهم هربوا إليه منذ الحرب العالمية الأولى. وقد لا يعرف كثيرون أنّ في لبنان أيضاً جالية فنلندية وأخرى نمساوية، إضافة إلى جاليات أكبر، مثل الفرنسيين والألمان والبلجيكيين. هؤلاء تربطهم علاقة وثيقة ببلادنا امتدت عبر التاريخ».
تتعاون كارمن لبكي مع سفارات أجنبية للوقوف على أعداد تلك الجاليات: «ثمة سفراء اختاروا لبنان ليمارسوا مهمَّتهم على أرضه، عشقاً له، من بينهم السفيرة الفنلندية والسفير البلجيكي». نحاول الاستفهام عن سبب هذا الحب، فتردّ: «يقولون إنّ ثمة ما يشبه المغناطيس يشدّهم إليه. هم لا يدركون تفسير هذا التعلّق، لكن بعضهم يستمتع بطعم الفوضى فيه. يرونها جزءاً من جمالية لبنان ومساحة خاصة من الحرية».
بعد إيطاليا وبلجيكا، تطلّ كارمن لبكي في برنامجها على النمسا واليونان. ومع فنلندا، تسدل الستار على الحلقة الأخيرة من الموسم الأول. وفي هذه الأثناء، تصوّر حلقات جديدة تمرّ فيها على جاليات أخرى، من المغرب وإسبانيا وتشيكيا والدنمارك. تُعدّد أسباب استقرار تلك الجاليات في لبنان: «بعضهم جاء هرباً من الحرب، وآخرون بسبب عرض عمل موسمي. لكنهم مدّدوا إقامتهم، فتجاوزت 40 عاماً. كما أنّ ثمة لبنانيين كثراً درسوا في جامعات أجنبية خارج البلاد، فتزوّجوا بفرنسيات وألمانيات وغيرهن. العكس صحيح، فبعض الرجال الأجانب وقعوا في حب لبنانيات، وبقوا هنا بعد الزواج. تطول الأسباب لتشمل إرساليات دينية ومهمَّات دبلوماسية وغيرهما».
تضيف أنها في أفلامها الوثائقية تحاول العودة دائماً إلى عِلمَي المجتمع والأنثروبولوجيا. وهي تكاد تكون الوحيدة بين المخرجين اللبنانيين الذين يعملون في هذا المجال: «معظم أعمالي وثائقية عن موضوعات اجتماعية وتاريخية. كان لا بدّ من الإضاءة على تاريخ الجاليات الأجنبية في لبنان، وهذا الأمر لا ندرسه في كتاب التاريخ ضمن منهجنا التربوي. لكل بلد تاريخه فيه، فيصبّ ضمن تاريخنا».
تعدد أمثلة في هذا الشأن: «العَلم اللبناني استُوحي من العلم النمساوي. والنمساويون تبنّوا الطائفة الكاثوليكية في لبنان، بينما إنجلترا اهتمت بالدروز، وفرنسا بالموارنة».
بعد عرض الموسم الأول، ستتوافر هذه الأفلام عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تختم لبكي: «ستعرض عبر (يوتيوب)، ويمكن مشاركتها عبر المنصات والصفحات الإلكترونية. من الضروري أن تُعرض أيضاً في المدارس والجامعات. على اللبنانيين من جميع الأعمار التعرُّف إلى هذا الجانب من تاريخ بلدهم. فهو إرث ثقافي واجتماعي، ولا يجوز إهماله».