الشعر والرسم في معرض بليز سيندرار ... دم مشبع بنور النجوم

أحد أكثر العروض إثارةً في نيويورك خلال هذا الصيف

جانب من معرض «بليز سيندرار... الشعر هو كل شيء» (متحف ومكتبة ذا مورغان)
جانب من معرض «بليز سيندرار... الشعر هو كل شيء» (متحف ومكتبة ذا مورغان)
TT

الشعر والرسم في معرض بليز سيندرار ... دم مشبع بنور النجوم

جانب من معرض «بليز سيندرار... الشعر هو كل شيء» (متحف ومكتبة ذا مورغان)
جانب من معرض «بليز سيندرار... الشعر هو كل شيء» (متحف ومكتبة ذا مورغان)

تعد «التفاحة الكبيرة» (أي مدينة نيويورك الأميركية) مكاناً جيداً للابتكار، فقد كان لدى الشاعر السويسري فريديريك لويس ساوزر، سبب وجيه لإعادة بدء مسيرته المهنية من جديد هنا في ربيع عام 1912، ففي عمر 25 عاماً، وصل إلى ميناء نيويورك وهو خالي الوفاض، إذ كان حينها مفلساً تقريباً بعد تجربة حظه في روسيا والبرازيل، وكان بالكاد يستطيع إطعام نفسه.

وفي يوم الأحد 7 أبريل (نيسان) 1912، الذي كان يوافق عيد الفصح في ذلك الوقت، عندما تم منعه من دخول المكتبة العامة، ذهب الشاعر الشاب إلى الكنيسة المشيخية الأولى في قرية غرينتش، التي طرده كاهن مسؤول بها بعدما لم يتمكن ساوزر من دفع تبرع.

وفي ذلك اليوم ذهب إلى المنزل غاضباً، وتمكن من النوم بصعوبة، ولكن في ظل هذا المزيج من الغضب والإنهاك، بدأ الشاعر الشاب أخيراً في الكتابة وانتهى به الأمر بكتابة قصيدته الحداثية البارزة المعروفة باسم «عيد الفصح في نيويورك»، التي تعد عبارة عن مجموعة من الأبيات التي باتت بمثابة نشيد وطني على مستوى المدينة.

من المعروضات (متحف ومكتبة ذا مورغان)

لقد منحته مدينة نيويورك حياة جديدة، وأعطى ساوزر لنفسه اسماً جديداً هناك يشبه طائر الفينيق، فمن ذلك الوقت فصاعداً، أُطلق عليه اسم بليز سيندرار وهو اسم يعني شاعر النار والرماد.

ويعد معرض «بليز سيندرار: الشعر هو كل شيء» الذي يُقام في مكتبة ومتحف «ذا مورغان» في مانهاتن، نيويورك، أحد أكثر العروض جاذبية وإبهاراً هذا الصيف، فهو عبارة عن مجموعة مركزة من الأعمال الفنية من عصر الحداثة عبر المحيط الأطلسي، التي تظهر بألوان غنية مطبوعة.

وفي حال لم تكن قد سمعت عن سيندرار من قبل، فأنت لست وحدك، ولكن من المرجح أن تكون قد تعرفت على صديقه الحميم غيوم أبولينير في الفصل الدراسي التمهيدي للشعر الفرنسي، الذي يعد مثالاً أكثر شهرة لمدرسة الاغتراب الحديث.

بليز سيندرار (Succession Cendrars)

ولكن سيندرار كان له حضور طاغ في الفنون والآداب الفرنسية الحديثة، حيث تعاون مع الفنان فيرناند ليجير والمخرج آبيل غانس، والملحن داريوس ميلود، وتقريباً كل طليعي (مصطلح أدبي يشير إلى الأشخاص أو الأعمال التجريبية أو المجددة وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بالفن والثقافة والسياسة والفلسفة والأدب) في باريس قبل قرن من الزمان، كما كان لديه أيضاً شغف بالإعلانات والعروض التجارية التي كانت أمراً مستحدثاً في ذلك الوقت، حيث كان يراها مساوية في الأهمية للشعر.

ويستفيد معرض «ذا مورغان» من شغف سيندرار بالوسائط المتعددة، لا سيما في التحفة الفنية الموجودة في قلب هذا العرض: «The Prose of the Trans-Siberian and of Little Jeanne of France»، وهي رحلة شعرية غير مقيدة ولا تحتوي على علامات ترقيم تقريباً تعود إلى عام 1913، التي نشرها سيندرار بنفسه على كتيب مطوي مثل الأكورديون طوله 6.5 أقدام، محاط بإطارات تجريدية ملونة بشكل جزئي للفنانة الفرنسية - الأوكرانية العظيمة سونيا ديلاوناي تيرك.

غلاف أحد أهم كتب سيندرار يحمل رسومات الفنانة الفرنسية - الأوكرانية سونيا ديلاوناي تيرك (مكتبة ذا مورغان -بليز ساندرر)

ووُلد سيندرار في عام 1887 لأب سويسري وأم أسكوتلندية، لكنه بالكاد كان في سن المراهقة عندما خرج للحياة، ففي كل من «The Prose of the Trans-Siberian and of Little Jeanne of France»، وفي المقابلات التي أجراها لاحقاً، تحدث عن شبابه باعتباره مغامرة مثيرة، ويبدو أنه قد شهد الثورة الروسية عام 1905، على الرغم من أنه ليس مؤكداً ما إذا كان قد جرف الفحم بالفعل على القاطرات الصينية في ذلك الوقت، فلطالما تمت المبالغة أثناء كتابة السير الذاتية، فهذا الأمر يمثل حالة كلاسيكية لرغبة الحداثة في الدمج بين الفن والحياة.

ويبدو شعر سيندرار شبيهاً بمدرسة الشاعر الأميركي الشهير والتر ويتمان جونيور، الذي يعد من أكثر الشعراء تأثيراً في تاريخ الولايات المتحدة في اتساع نطاقه وبريقه، لكنه كان أكثر حدةً وشدةً، إذ إنه كان يتضمن تحرر كتابات الشاعر الفرنسي نيكولاس آرثر رامبو، الذي اشتهر في الحركة الرمزية وأثر بشكل ملحوظ على الشعر الحديث، وحبه للمغامرة والسفر، ثم يتجرد من كل هذه المشاعر تاركاً شيئاً غريباً وحديثاً بشكل كامل.

وبعد بضعة أشهر من تحقيقه اختراقاً في نيويورك، عاد سيندرار إلى أوروبا من جديد، لكن هذه المرة عاد باسم جديد وشعور جديد بالثقة، وقد قام بطباعة قصيدة «عيد الفصح في نيويورك» على نفقته الخاصة في باريس، ولكن لم يتم بيع أي نسخة منها، وفي بداية عام 1913، قرأ شعره في شقة صديقه الشعر الفرنسي أبولينير، وهناك التقى الفنان روبرت ديلوناي وزوجته الفنانة سونيا ديلوناي، وحينها فكرت الأخيرة في التعاون معه، وبالفعل تمكنا معاً في «The Prose of the Trans-Siberian and of Little Jeanne of France» من إنتاج واحدة من أعظم منشورات الفن المعاصر، التي تمثلت في تجربة إيقاعية سريعة الحركة من الرسم والشعر الذي شكل، على حد قولهم، «أول كتاب متزامن».

وقد حصل متحف ومكتبة «ذا مورغان» على واحدة من بضع عشرات من النسخ الباقية في عام 2021، ويتاح للجمهور خدمة رقمية رائعة على الموقع الإلكتروني للمتحف يتم فيها تكبير جميع اللوحات لرؤيتها بوضوح، كما تتوفر ترجمة كاملة للقصيدة للإنجليزية قامت بها رون بادجيت.

يشمل المعرض 22 لوحة يظهر أسفل كل منها شعر سيندرار الحر الذي يظهر في 30 خطاً مختلفاً (laise Cendrars/Succession Cendrars

ويشمل هذا العمل الفني 22 لوحة، يظهر أسفل كل منها شعر سيندرار الحر الذي يظهر في 30 خطاً مختلفاً، وفي أعلى اليمين، فوق عنوان القصيدة، هناك نسخة طبق الأصل من خريطة ميشلان للسكك الحديدية الروسية، وتتحدث القصيدة عن شاعر سيئ للغاية اسمه بليز، وهو يعبر سيبيريا وشمال الصين مع جين التي التقى بها في أحد البارات ويصفها بأنها «زهرة بريئة».

وفي جميع أنحاء «The Prose of the Trans-Siberian and of Little Jeanne of France» سيجد الجمهور إشارات إلى الحرب، إذ إنه بعد مرور عام على نشرها، انضم الشاعر السويسري إلى الفيلق الأجنبي الفرنسي (فرع خدمة عسكرية تابعة للجيش الفرنسي)، حيث فقد سيندرار ذراعه اليمنى في معركة شامبين الثانية في عام 1915، وأثناء فترة نقاهته وتعليم نفسه الكتابة بيده اليسرى، أصبح صديقاً لليجير، وهو فنان زميل له متخصص في التجزئة الحضرية، الذي كان أيضاً من المحاربين القدامى، إذ إنه كاد يموت من هجوم بغاز الخردل في خنادق غابة أرغون.

رسم يبرز تعاون بليز سيندرار مع الفنان فيرناند ليجير (Artists Rights Society (ARS), New York.)

ويتضمن المعرض المقام في «ذا مورغان» العديد من أعمال سيندرار وليجير معاً، بما في ذلك كتاب نُشر في عام 1918 باسم «J'ai tué» (لقد قتلت)، الذي تم فيه الدمج بين التروس والأسطوانات التكعيبية المتعرجة الخاصة بليجير.

كما كان هناك تعاون قوي آخر في عشرينات القرن الماضي، عندما سافر سيندرار إلى البرازيل والتقى أكبر طالب لليجير هناك وهو تارسيلا دو أمارال، إذ انضم الشاعر السويسري إلى الأخير والشاعر أوزفالد دي أندرادي في رحلة من ساو باولو إلى المناطق الداخلية البرازيلية، حيث رسم أمارال التلال وبلدات التعدين الاستعمارية التي ظهرت فيما بعد في كتاب سيندرار الذي جاء بعنوان «Feuilles de Route»، وليس من المبالغة أن نقول إن هذه كانت الرحلة التي ولد من خلالها الفن البرازيلي الحديث، إذ كتب أندرادي بعد ذلك بفترة قصيرة بياناً تاريخياً لفن وطني متحرر من التصورات الأوروبية، فيما قام تارسيلا بالدمج بين تأثيرات الأفارقة والسكان الأصليين والأوروبيين في فن برازيلي جديد بالكامل.

رسم للفنان الروسي شاغال يصاحب مقطوعة شعرية سيندرار (متحف ومكتبة ذا مورغان -بليز ساندرر)

صحيح أن معرض «الشعر هو كل شيء» يعد أصغر العروض الأربعة للأعمال الفنية التي تعود للقرنين التاسع عشر والعشرين في «ذا مورغان» هذا الصيف، لكنه الأكثر إثارة من بينهم.

وقد كتب الروائي الأميركي الشهير هنري ميلر عن شعر سيندرار وقصصه قائلاً: «كل شيء عنده مكتوب بالدم، ولكنه دم مشبع بنور النجوم».

يُقام معرض بليز سيندرار (1887-1961): «الشعر هو كل شيء» حتى يوم 24 سبتمبر (أيلول) المقبل، في متحف ومكتبة «ذا مورغان»، 225 حي ماديسون في شارع رقم 36، مانهاتن، نيويورك.

* خدمة «نيويورك تايمز»

«كل شيء عنده مكتوب بالدم، ولكنه دم مشبع بنور النجوم».

الروائي الأميركي الشهير هنري ميلر عن سيندرار


مقالات ذات صلة

مغامرات لونية من وحي الموالد يخوضها الفنان المصري سمير فؤاد

يوميات الشرق مراحل فنية متعددة قدمها الفنان في معرضه الأحدث (الشرق الأوسط)

مغامرات لونية من وحي الموالد يخوضها الفنان المصري سمير فؤاد

الدخول إلى عالم الفنان التشكيلي المصري سمير فؤاد أشبه بمغامرة محفوفة بالمخاطر، تتضمن عدداً من المنعطفات الزمنية والمغامرات اللونية التي خاضها على مدى 60 عاماً.

محمد الكفراوي (القاهرة)
الخليج الدكتور غازي بن زقر سفير السعودية لدى اليابان (واس)

بن زقر مفوضاً لجناح السعودية في «إكسبو 2025 أوساكا»

عيّنت السعودية سفيرها لدى اليابان، الدكتور غازي بن زقر، مفوضاً عاماً لجناحها المشارك بمعرض «إكسبو 2025 أوساكا»، تزامناً مع المراحل الأخيرة لأعمال بنائه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق الفنان أحمد مناويشي ولوحاته (إنستغرام «آرت ديستريكت»)

معرض «نسيج الشتاء»... تحيكه أنامل دافئة تعانق الشاعرية

يتمتع شتاء لبنان بخصوصية تميّزه عن غيره من المواسم، تنبع من مشهدية طبيعة مغطاة بالثلوج على جباله، ومن بيوت متراصة في المدينة مضاءة بجلسات عائلية دافئة.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق جانب من أعمال الفنان (الشرق الأوسط)

«حكمة المصريين» تتجلّى في معرض للفنان ناثان دوس

اختار النحات المصري ناثان دوس لمعرضه الأحدث اسماً دالاً على الحكمة والفهم في الحضارة المصرية القديمة، وإن كان «سيشميت» بدا لفظاً غريباً على الواقع المصري.

محمد الكفراوي (القاهرة)
عالم الاعمال شركة «ديڤوتيه» تعلن مشاركتها في النسخة الثامنة من مؤتمر ومعرض «سعودي ديرم»

شركة «ديڤوتيه» تعلن مشاركتها في النسخة الثامنة من مؤتمر ومعرض «سعودي ديرم»

أعلنت شركة «ديڤوتيه (Devoté)» عن مشاركتها «البارزة في النسخة الثامنة من مؤتمر ومعرض (سعودي ديرم)


التشكيلية اللبنانية زينة الخليل... الألم خطَّاطُ المسار

الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
TT

التشكيلية اللبنانية زينة الخليل... الألم خطَّاطُ المسار

الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)
الرسوم تتحوّل انعكاساً للروح كما تغذّي الروح الفنّ فيتكاملان (زينة الخليل)

كانت على الدوام فنانة، تتمدَّد كمَن يُراقب الكون، وتحلُم. ألحَّ شعورٌ بالانسلاخ عن العالم والبحث المرير عن شيء مفقود تُطارده ويهرُب. فضَّلت التشكيلية اللبنانية زينة الخليل العزلة. طَرْحُ الأسئلة الصعبة نَبَت منذ الصغر: «مَن أنا وما معنى الحياة؟». تعجَّبت لانشغال رفاق الصفّ باللعب دون سيطرة الهَمّ. «لِمَ يلهون ولا ألهو؟»، تساءلت. تأمّلت من دون أن تدري ماهية التأمُّل، وفكَّرت في الوجود من دون علمها بأنها الفلسفة.

ولمَّا رسمت؛ فوجئت: «آه، إنني أرسم! لا أدري كيف ولكنني أرسم! أستطيع نقل الأشياء إلى الورق. ذلك يُشعرني ببهجة». الرسم ضمَّد جراح العقل. وجَّه طاقتها نحو شيء آخر غير البحث المُنهك عن شرح. ومن هنا بدأت.

من التأمُّل والتفكير في الوجود رسمت للمرة الأولى (زينة الخليل)

تُخبر الفنانة زينة الخليل المقيمة في لندن «الشرق الأوسط» أنّ نشأتها في أفريقيا أتاحت الوقت الكافي للتفكير. شدَّتها الطبيعة، وراحت تشعر برابط بين الجسد الإنساني والأرض. وبالصلة بين جبّارين: الروح والتراب. تقول: «عبر النجوم والأشجار، حدث اتصالي مع الوجود. بالتأمّل والرسم، كتبتُ الفصل الأول من حياتي».

يأتي الألم بوعي مختلف لم يُعهَد من قبل ويتيح النموّ الداخلي (زينة الخليل)

عام 1994 عادت إلى لبنان. كانت مدافع الحرب الأهلية قد هدأت، مُتسبِّبةً بعطوب وبرك دم: «كنتُ في الـ18 حين شعرتُ بأنّ شيئاً يجرُّني للعودة ويقذفني نحو بلدي المُثقل. أتيتُ وحيدةً، وعائلتي في نيجيريا. اليوم أتفهّم عمق العلاقة بالأرض والطاقة. تلك التي لاحت في الطفولة ولم أستقرّ على تعريف لها. جسَّدها شعور تجاه صخرة أو شجرة أو ورقة تتساقط. الصوت الذي ناداني للعودة، سمعتُه جيداً. لم أقوَ على صدِّه. ورغم هواجس العيش على أرض هشَّمتها الحرب، اخترتُ المجيء».

طَرْحُ الأسئلة الصعبة نَبَت منذ الصغر وألهمها الرسم (زينة الخليل)

الفنّ عند زينة الخليل ليس للنفس فقط، وإنما للآخرين. وفي وقت واجهت التجارب القاسية في بلد شهد عقدين من احتدام المعارك، شعرت، بكونها امرأة، بالاعتداء المستمرّ عليها. مسلّحون يتجوّلون ومظاهر تفلُّت. ذلك يفسِّر ميل أعمالها المُبكرة إلى «النسوية المُفرطة»: «أردتُ إيجاد مكاني بوصفي امرأة والنضال للشعور بالأمان. لم أجسِّد الحركة النسوية المألوفة التي شهدتها أوروبا وأميركا آنذاك. مواجهة الميليشيا والإحساس بالخطر الفردي جعلا نسويتي تتجاوز حيّزها. راحت أعمالي تنتقد الحرب والأسلحة. وضعتُ فنّي بمواجهة هذه الإشكالية: هل حقاً يحتاج الإنسان إلى سلاح لإثبات نفسه؟».

الرسم ضمَّد جراح العقل (زينة الخليل)

ولمحت مُحرِّك العنف ومؤجِّجه: «البشر والدول يتقاتلون حول الموارد والثروات. العناوين الأخرى، منها الأديان، ذريعة. أدخلتُ مادة البلاستيك في أعمالي لإدراكي قوة العلاقة بين المُستهلك والمعركة. البلاستيك مصنوع من النفط، والنفط يُشعل الحروب. تجرَّد الإنسان من الحسِّ وأصبح العالم مُجمَّعاً تجارياً ضخماً. بتبنّي (الكيتش) في الرسم، سجّلتُ موقفي ضدّ تغليب القوة والحلول السريعة على وَضع استراتيجيات السلام. طغى اللون الزهريّ على رسومي مُجسِّداً البلاستيك والعلكة واللامعنى. شكَّل فنّي محاكاة للعبة الباربي بصورتها النمطية وما مثّلته من سطحية وانعدام العمق».

تسلُّل السخرية إلى الموضوع الجدّي محاولةٌ لجَعْل النقاش أقل غرابة (زينة الخليل)

تسلُّل السخرية إلى الموضوع الجدّي محاولةٌ لجَعْل النقاش أقل غرابة. لسنوات واصلت الفنانة تبنّي هذا الأسلوب وبه عرفت. وباندلاع حرب 2006 في لبنان، تحوَّلت إلى تدوين الأحداث، وإنما الرغبة بمواصلة الرسم تأجَّجت: «دوري ناشطةً ومدوّنةً لم يُشبع نهمي. وذات يوم، عشتُ تجربة صوفية لا أملك شرحها. كأنني عدتُ إلى زينة في أفريقيا والرابط بين الوجود والإنسان. البعض يسمّيه النداء الروحي. فجأة، لم يعُد عالم المادة مهماً، وشعرتُ بحبل في داخلي يُقطَع. غمرني الشعور بألم الأرض، فلم أجد منزلاً لي. مسقطا أمي وأبي، كلاهما تألّم بتداعيات الحروب. سمعتُ نداء الأرض: (تعالي لنُشفى معاً!). كأنني كنتُ أتعرّف إلى وجعي من أوجاعها. كان نداء عميقاً. أمضيتُ الوقت في تلمُّس التراب. شعوري بأنني لستُ في منزل؛ لا أنتمي، ولا أعرف مَن أنا، جرَّ فنّي إلى مكان آخر. رسمتُ ولم أدرك ماذا أرسم. أجريتُ مراسم لشفاء الأرض، فأشعلتُ النار من أجلها ورفعتُ الصلاة. سألتُ الطاقة أن تتبدَّل. والأشياء العالقة في الكون أن تتّخذ مجراها. مثل مَن ماتوا بلا دفن لائق، وبلا جنازة ووداعات. طاقة هؤلاء ظلَّت عالقة. لم تحدُث المصالحة بعد الحرب. بزيارتي الأماكن حيث حلَّت مجازر، وإشعالي النار، حَدَث التواصل. كأنني أقول للموتى الذين أرسم أرواحهم بأنني هنا؛ أراكم وأعترف بكم. أنتم منسيّون بجميع الطرق. الدولة لم تعترف بكم، لم تُؤبَّنوا. أنا هنا لأراكم وأكون شاهدة. بهذا بنيتُ اتصالاً فريداً مع لبنان».

طغى اللون الزهريّ مُجسِّداً البلاستيك والعلكة واللامعنى (زينة الخليل)

أرادت لفنّها التصدّي للعنف، فوظَّفت رماد النار التي أقامتها للمراسم مادةً للرسم. أنجزت مجموعات بتلك المادة السوداء ومن الحبر. وبدل الفرشاة، فضَّلت الأقمشة. بالكوفية مثلاً، لمست وحدة الشعوب، فأدخلتها في لوحاتها: «كل حفل شفاء أردتُه لنفسي وللبنان وللشرق الأوسط والكون. غمّستُها بالحبر ورسمتُ بها لنحو 10 سنوات. في الهند، درستُ الروحانيات ولمستُ اختفائي. الرسوم تتحوّل انعكاساً لروحي، كما أنّ روحي تُغذّي فنّي، فيتكاملان تماماً».

وظَّفت رماد النار التي أقامتها لمراسم الشفاء مادةً للرسم (زينة الخليل)

يأتي الألم بوعي مختلف لم يُعهَد من قبل ويتيح النموّ الداخلي. الألم أحياناً يختار المرء؛ يتعرّف إليه. ولا ينتظره. يُناديه ليخطَّ مساره. تقول: «بعد انفجار بيروت عام 2020، شاهدتُ الدخان والتصدُّع. سرتُ على شوارع يفترشها الزجاج. في تلك اللحظة، تجمَّد الزمن كأنه سينما. بحركة بطيئة، رأيتُ انهيار جانب ضخم من سقف منزل، ووجوهاً مُدمَّاة، وهلعاً. فكّرتُ أنها الحياة. كفَّ الوقت عن التحلّي بأي معنى. لمحتُ التقبّل المريع لفكرة أنّ العنف جزء من الوعي الإنساني. هنا شعرتُ بأنني فكرة تأتي وتعبُر. أو لحظة ونَفَس. جسدٌ مُعرَّض لانتهاء تاريخ الصلاحية، وجوهر واحد يُعبِّر عن نفسه بمليارات الطرق. فنّي إعلان للسلام الداخلي ولحقيقة أننا مُنتقلون. ألم الانسلاخ هو الأقسى. في موضع إحساسنا بالانفصال عن الكون، عن الهوية، وعن الفردية؛ تبدأ رحلة الشفاء».