المصمم المخضرم جيورجيو أرماني لخَّص مفهوم الـ«هوت كوتور» عندما قال بعد عرضه الأخير في باريس: «الهوت كوتور هو عالم ترتقي فيه الموضة لتصبح فناً».
كان على حق، ويبدو أن الأغلبية يوافقونه الرأي. في معظم العروض تحوَّلت العارضات إما إلى منحوتات وإما إلى أشكال معمارية متحركة. أما في حالة دار «فالنتينو» فإن الفن المسرحي كان وسيلة المصمم أليساندرو ميكيلي لإثبات قدراته. كان هذا أول عرض من هذا الخط يُقدمه للدار. استعمل فيه تيار الوعي أداةَ سردٍ فلسفية وبصرية، فأصاب حيناً وخاب حيناً.
سيتفان رولان

ستيفان رولان كان واحداً ممن عانقوا الجانب الفني بحرارة. فهذه عادته. صمم كل قطعة كأنها منحوتة أغدق عليها بالريش وتفنن في طياتها المتعددة، ليزيدها إبهاراً مطعَّماً ببعض الشقاوة. مع كل إطلالة تتعالى نظرات الإعجاب والعجب. يبقى الإعجاب ويتبدد العجب عندما يشرح أنه استلهم هذه التشكيلة من جوزيفين بايكر ومن كونستانتان برانكوزي.
الأولى راقصة ومغنية وممثلة وناشطة في مجال الحقوق المدنية الأمريكية، وكانت أول أمريكية من أصل أفريقي تحقق شهرة عالمية في السينما والمسارح العالمية. أقل ما يقال عنها إنها كانت جريئة وسابقة لأوانها. والثاني فنان تشكيلي ومصور روماني استقر في باريس وكان أول مَن بادر بتحديث فن النحت، بحيث تعد أعماله نقطة تحول فاصلة بين النحت الكلاسيكي والمعاصر.

وبما أن القاسم المشترك بين بايكر وبرانكوزي كان التحديث والخروج عن المألوف، فإن ستيفان رولان التقط هذا الخيط وقدمه بأسلوبه الخاص من دون أن يخرج عن النص الذي كتبه لنفسه. من مرونة جوزفين استلهم أشكالاً ملتوية بانحناءات وطيّات يسهل على المرأة أن تتحرك فيها، ومن الفنان برانكوزي أشكالاً هندسية هي الأخرى تعانق الجسم. رغم بنائها القوي تتمتع بليونة وطواعية لا تُخطئها العين.

هذا المزج جعل العرض يبدو كأنه استعراض لسلسلة من اللوحات الفنية مرسومة بالحرير والأورغانزا مع تطريزات اعتمد فيها على أحجار الكريستال والعاج وثنيات فنية، تلتوي وتتحرك مع كل خطوة لتُذكِّر بجوزفين بايكر وهي تؤدي رقصاتها الجريئة. حتى الريش الذي كانت تتزين به وأصبح لصيقاً بها ظهر وكان لافتاً في الفستان الأبيض الذي اختتمت به العارضة الكندية كوكو روشا العرض.
أليساندرو ميكيلي لـ«فالنتينو»

كان الكل يترقب عرض أليساندرو ميكيلي لدار «فالنتينو». فعدا أنه أول عرض سيقدمه للدار من هذا الخط، فإن المصمم معروف بجنوحه إلى المبالغة في التطريز ومزج المتناقضات وشغفه بجمع الفينتاج بالحداثي. من هذا المنظور فإن موسم الـ«هوت كوتور» فُرصته ليصول ويجول كما يريد. وهذا ما فعله من خلال تشكيلة «Vertigineux» ومعناها «دوار». عنوان أراده أن يعكس دورة الحياة وكيف أن الماضي جزء من الحاضر ترسخه الذكريات والكتب والصور والفهارس والمتاحف والأفلام السينمائية. وإذا انتابك أي التباس حول فكرته هذه، شرح أن «الموضة، أو على الأصح كل قطعة هنا، ترتقي إلى مستوى الشِّعر لتصبح أداة بصرية وجمالية وسردية».

ويتابع أن أي فستان يتعدى دوره المادي ليصبح مع الزمن «بمنزلة قاموس يحفظ الذكريات أو أرشيف سردي، يتضمن تركيبات مستوحاة من ثقافات بعيدة وأجواء مختلفة وحكايات من الماضي لا تزال تتردد أصداؤها في الحاضر».
ولأن دوران الزمن كان محوراً أساسياً في تشكيلة المصمم الإيطالي، فقد استعان بعارضات فوق الخمسين والستين من العمر، في إشارةٍ إلى أن الزمن جزء من دورة الحياة «لا يؤثر بل يزيد قوة وجمالاً».

ثمانية وأربعون فستاناً، كل واحد منها يمثّل شخصية وحقبة زمنية وحكاية، لكن المشكلة أن انتقاله من حقب زمنية تاريخية مختلفة، ورغبته في احتضان الكل، سواء كان مهرجاً في سيرك أو إمبراطورة من حقبة ماري أنطوانيت، يصيبان الناظر بالدوران ودوامة من الحيرة. نعم كان غنياً بالأفكار الفلسفية والألوان الغنية والتصاميم المعقدة، إلا أنه بالنسبة لامرأة ترغب في قطعة فنية تتباهى بها وتتحرك فيها بسهولة، يحتاج إلى وقفة تفكير تتعدى الفلسفي والسردي. ولا بأس من جلسة مع المصمم نفسه لإجراء تغييرات طفيفة. فهذا أولاً وأخيراً الموسم الذي يوفر لزبونة الـ«هوت كوتور» قطعة فريدة من نوعها، لا يُفترض فيها أن تُغير أساسها أو المساس برؤية مصممها، لكن لا بأس أن تناسب مقاسها وذوقها.
«أرماني بريفيه»

أمر يعرفه المخضرم جيورجيو أرماني، الذي يحتفل بمرور 20 عاماً على إطلاق خطه الخاص بالـ«هوت كوتور»، ولم يُغير فيها المصمم جلده أو قناعته بأهمية الحرفية وأن الأساس هو التفصيل الذي لا يُعلى عليه. وصفته أيضاً تطويع الأقمشة لتشكيل تصاميم مبتكرة تحتفي دائماً بأنوثة المرأة برقيّ.
أطلق على هذه المجموعة اسم «Lumières»، أي «أضواء»، وسلَّط فيها الأضواء على مسيرة عمرها 20 عاماً، من خلال نحو 93 إطلالة تستكشف أسرارها. تأخذنا في رحلة ممتعة تُذكِّرنا بأن منابع استلهامه كثيرة، منها: الصين والطبيعة البولينزية، والهند بأبَّهتها وفخامتها، واليابان بحداثة خطوطها، وشمال أفريقيا بدفئها ونخيلها.

إلى جانب التطريزات وتطويع الأقمشة لتتماهى مع الجسم، أتقن المصمم لعبة الألوان. في مجموعة ربيع-صيف 2020، مثلاً شكلت ألوان الأخضر اللامع والأزرق النيلي والفوشيا والأحمر، أنماطاً خيالية من نقشات الـ«إيكات»، ولربيع-صيف 2023، استلهم من فينسيا تشكيلة تراقصت فيها الأضواء لتشكل خطوطاً وألواناً متلألئة تتماوج مع كل حركة.

أما في مجموعة ربيع-صيف 2024، فأخذنا في رحلة من الغرب إلى الشرق: فساتين مستوحاة من الكيمونو، وجاكيتات طويلة، وسراويل ضيقة عند الكاحل، وفساتين فضفاضة خفيفة الوزن، الكثير منها مطرز باللؤلؤ.
لكن في كل هذه المجموعات ظل أسلوبه واحداً لم يتغير. لسان حاله يقول إن ما بُني على جينات «أصيلة» لا يحتاج إلى تغيير.