الـ «هوت كوتير».. الرغبة في التفرد أساسها والفخامة عنوانها

الـ «هوت كوتير».. الرغبة في التفرد أساسها والفخامة عنوانها
TT
20

الـ «هوت كوتير».. الرغبة في التفرد أساسها والفخامة عنوانها

الـ «هوت كوتير».. الرغبة في التفرد أساسها والفخامة عنوانها

الترجمة الحرفية لـ«هوت كوتير» هي الخياطة الرفيعة، أما بمعناها المتعارف فهي الموضة في أحلى وأغلى حالاتها، لأنها ببساطة تختزل فن الخياطة التي لا يبخل عليها المصممون بأي شيء يمكن أن يضفي عليها التفرد والتميز حتى يبرروا أسعارها النارية.
ولد مفهوم الـ«هوت كوتير» في باريس في القرن التاسع عشر، ليس على يد فرنسي، بل على يد خياط إنجليزي هو تشارلز فريدريك وورث. في الأساس وجهها للطبقات الأرستقراطية، وسيدات البلاط الفرنسي اللواتي كن يردن فساتين تميزهن عن باقي السيدات بغض النظر عن سعرها والجهد الذي يبذل فيها. ولا يزال هذا ما يحدد هذا المجال: فساتين فريدة من نوعها بتصاميم لا تتكرر، تمنح صاحبتها شعورا بقيمتها وقيمة ما تلبسه من جهة، ولا تضعها في موقف حرج في حالة إذا ما حضرت سيدة أخرى نفس المناسبة بنفس الفستان، من جهة ثانية.
لا يزال الكثيرون يعتبرون هذا المجال بمثابة ناد نخبوي جدا، لا تدخله إلا القليلات، كما لا يتجرأ على الخوض فيه سوى مصممين بارعين ومنتقين بعناية من قبل «فيدرالية الموضة الفرنسية»، وهي المنظمة المسؤولة عن أسابيع الموضة الباريسية عموما، والـ«هوت كوتير» خصوصا. فهذه الأخيرة تلعب دور شرطة الموضة بعدم سماحها لأي كان، بأن يحصل على لقب «كوتيرييه» أو خياط بمستوى رفيع من دون أن يستوفي كل شروطها. شروط غير معقدة لكنها تضمن استمرارية المهنة ونخبويتها في الوقت ذاته، ومنها أن تكون للمصمم خبرة طويلة في التفصيل على المقاس، وأن يكون له معمل أو ورشة عمل في باريس، توظف ما لا يقل عن 20 حرفيا، كما يجب أن يقدم تشكيلتين في العام، الأولى لموسمي الربيع والصيف، والثانية لموسمي الخريف والشتاء. ونظرا للحرفية العالية التي تتطلبها كل قطعة والوقت الذي تستغرقه ويقدر بأكثر من 700 ساعة في بعض الحالات، فإنه ليس مستبعدا أن يعكف على تنفيذها نحو عشرين شخصا في الوقت نفسه لإتمام كل تفاصيلها المترفة في الموعد المحدد. وهذا ما يبرر سعرها، الذي يقدر بنحو 8000 جنيه إسترليني لقطعة بسيطة للنهار، وأكثر من 70.000 لفستان سهرة أو زفاف، حسب نوعية القماش المستعمل والترصيعات والتطريزات التي تدخل فيه. ويقال إن بعض الفساتين قد تصل إلى الملايين. وتتعامل أغلب بيوت الأزياء مع ما يعرف بالأنامل الناعمة، وهي خياطات محترفات في جانب من الجوانب، سواء الخياطة أو التطريز أو الترصيع وما شابه من تفاصيل يسهرن عليها بسعة صدر حتى تخرج بالشكل المطلوب والمنتظر. وتشير بعض الإحصائيات إلى أن عددهن يقدر بـ2.200 خياطة في فرنسا، وأهم ما يتميزن به الصبر وعين ثاقبة ويد ثابتة، عدا عن ولاء شديد للدار التي يعملن فيها. فقد تبدأ الواحدة العمل في سن الصبا وتبقى مع الدار نفسها حتى سن التقاعد.
في التسعينات تسرع البعض بنعي هذا القطاع، على أساس أن جيل العضوات المنضويات فيه بدأ يختفي وعددهن يتقلص، إما بسبب تقدمهن في العمر أو بسبب الأزمات الاقتصادية التي توالت على العالم، وعصفت بزبونات الولايات المتحدة الأميركية تحديدا. لكنه في السنوات الأخيرة شهد انتعاشا منقطع النظير، بفضل جيل جديد من الزبونات المتعطشات للتفرد من أسواق جديدة مثل روسيا، والصين، ومنطقة الشرق الأوسط. وإذا كن في الشرق الأوسط قد ورثن حب الـ«هوت كوتير» عن أمهاتهن وجداتهن، فإنهن في روسيا والصين جديدات على هذا المجال ويردن أن يثبتن إما قدراتهن الشرائية أو ذوقهن بشراء كل ما غلا ثمنه واستعصى على الآخرين الحصول عليه. بالإضافة إلى إدراك بعضهن أن بعض هذه الفساتين يمكن أن تصبح في يوم من الأيام قطعا نادرة تباع في المزادات بسعر مضاعف، تماما مثل الجواهر أو اللوحات الفنية. هذا الجيل الجديد من الزبونات، بالإضافة إلى تطورات أخرى، على رأسها تطور وسائل التنقل، ساعد أيضا على ولادة أساليب جديدة للتسويق. فبعد أن كان مفروضا على الزبونة أن تحضر إلى باريس ما لا يقل عن ثلاث مرات، لأخذ المقاسات وإجراء البروفات والرتوشات قبل حصولها على القطعة، أصبح من الممكن ألا تخرج من عقر بيتها وتحصل على ما تريد، وذلك بأن تختار ما يروق لها من على شاشة فيديو، والاتصال بالمصمم بعد العرض مباشرة، الذي يرسل لها خياطة تقوم بكل اللازم.
وقد أكدت هذه الاستراتيجية نجاحها، بدليل أنه، إلى عهد قريب، لم يكن متوقعا أو مفترضا في الـ«هوت كوتير» أن تحقق الكثير من الأرباح على أساس أنها «برستيج» يعكس صورة الدار وبريقها، وكل ما هو مطلوب منها ألا تسبب أي خسائر مادية كبيرة، إلا أنها، وحسب الكثير من بيوت الأزياء الكبيرة، أصبحت بمثابة الدجاجة التي تبيض ذهبا. سيدني توليدانو، الرئيس التنفيذي لدار «ديور» مثلا، صرح بأنها تشكيلات «ديور كوتير» الأخيرة، سواء تلك التي صممها بيل غايتون، المصمم الذي خلف جون غاليانو لفترة قصيرة، أو راف سيمونز، مصممها الحالي، تحقق الكثير من الأرباح. وأضاف أن المشكلة التي واجهها في الموسم الماضي هي ما إذا كان بالإمكان تلبية كم الطلبات التي انهالت عليها من كل صوب، فهناك حدود للقوة الإنتاجية خصوصا أن إيجاد أنامل ناعمة متخصصة ليس بالأمر الهين والمتاح.
والمثير أنه حتى عقد مضى لم تكن بيوت الأزياء تذكر زبونات من آسيا أو روسيا، لأنها لم تكن تتصور أنهن يمكن أن يتذوقن الـ«هوت كوتير» ويقدرن فنيتها. فالمال الجديد، كما هو متعارف عليه تاريخيا، يميل إلى الاستعراض والتباهي أكثر مما يميل إلى الفنية، لكن الأيام بينت كم كانوا خاطئين. فهؤلاء، وبغض النظر عن الأسباب والحوافز، يستحققن لقب منقذات لهذا القطاع. فحتى إن لم يفهمن أصولها وأبجدياتها ومعانيها الحقيقية، فإنهن استحلين طعمها، وهذا وحده يكفي لإنعاشها. ثم إن الموضة أولا وقبل كل شيء هي تغطية الجسم بشكل يمنح إطلالة خاصة وشعورا بالسعادة وليس من الضروري أن يتعامل معها الكل من منطلق فكري أو فني، وهذا ما بات المصممون يدركونه ولا يستنكرونه.
ومع ذلك، وعلى الرغم من المحاولات المستميتة التي يقوم بها بعض المصممين منذ فترة لإخراجها من عزلتها أو إنزالها من برجها العالي، فإنها كما أكدت لنا خلال أسبوع باريس لخريف 203 وشتاء 2014 الأسبوع الماضي في باريس، بكل بريقه وأناقته وترفه، أنها لا تزال إما من نصيب امرأة ذات إمكانيات عالية، أو من نصيب المجلات البراقة التي تبيع لنا الحلم على أجسام نجمات يتهادين بها في مناسبات السجاد الأحمر.. فحتى المصممون الراغبون في التجديد والتخفيف من غلوها، أثبتوا أنهم لا يستطيعون الانسلاخ عن ثقافتها تماما، خصوصا وأنه أصبح من الممكن أن تحقق الأرباح، بعد أن ظلت لعقود مجرد لوحة فنية تمتع حاسة النظر بالنسبة للأغلبية ممن لا يستطعن إليها سبيلا، ولا تستمتع بجمالياتها وملمسها سوى قلة من النساء المتذوقات والمقتدرات. أكد الأسبوع أيضا أنها لا تزال أولا وأخيرا المنبر الذي يستعرضون فيه قوتهم الحرفية وخصوبة خيالهم. فمسموح لهم هنا بأن يشطحوا بهذا الخيال بعيدا، لأنهم يعرفون مسبقا أن أغلب هذه الأفكار والتصاميم ستترجم فيما بعد في أزياء جاهزة، بعد أن يتم تخفيفها من بعض التفاصيل التي قد يستغرق تنفيذها ساعات طويلة من الزمن وجهود مضنية حتى تأتي القطعة على شكل فستان فريد من نوعه. محاولات المصممين التي تم ذكرها، تتلخص في تصاميم أقرب إلى الأناقة العملية منها إلى الدرامية أو الفانتازية حتى تناسب العصر ومتطلباته، وكل مصمم قام بهذه المهمة بطريقته الخاصة. فقد لعب كارل لاغرفيلد على رموز دار «شانيل» وجاذبيتها، في حين بدا راف سيمونز، مصمم دار «ديور» وكأنه يريد الخروج عن جلباب السيد كريستيان ديور بعض الشيء، بعد أن اكتسب الثقة وحقق النجاح في تشكيلته للموسم الماضي. فقد غابت الدرامية والأنوثة المغرقة في الرومانسية وحلت محلها دراما من نوع جديد وعملي تخاطب كل نساء العالم وتريد أن تدخلهم لعبة الموضة الراقية بسلاسة. أما المصمم الإيطالي جيورجيو أرماني، فأبدع في خطه «أرماني بريفيه» وقدم تشكيلة حالمة كل ما فيها يهمس بالأناقة الراقية والهادئة من خلال ألوان تتباين بين الوردي والبيج والأبيض وتصاميم اختفت فيها المبالغات المسرحية. شملت مجموعة من التايورات المكونة من التنورات وبنطلونات الحرير بالإضافة إلى فساتين سهرة من الدانتيل لم يظهر فيها الأسود إلا في قطع معدودات. بواقعيتها ورقتها، قد تكون هذه أجمل تشكيلة قدمها المخضرم الإيطالي في خطه الراقي حتى الآن.
الفرنسي جون بول غوتييه، قدم بدوره تشكيلة وحشية إلا أنها من أفضل ما قدمه منذ بضع سنوات، شهد فيها بعض التراجع والتذبذب. صحيح أنها تصرخ بنقوشات كائنات الغاب، إلا أن كل ما فيها يشي بحرفية عالية وخيال مبدع، بما في ذلك تسريحات الشعر المطبعة التي كادت تسرق الأضواء من الأزياء لولا تزاوجهما الناجح.
بطلة هذه التشكيلة، التي شملت 43 قطعة، كانت هي النمرة التي ظهرت في معظم الأزياء وكل الإكسسوارات والماكياج تقريبا، من الجوارب إلى المعاطف والجاكيتات والتنورات. وطبعا كان الفرو بالإضافة إلى الريش حاضرين بقوة، ولو في الياقات أو الحواشي.
في عرضي كل من إيلي صعب ودار «فالنتينو» كانت اللغة مختلفة تماما، أكثر نعومة ورقة تلعب على الرومانسية وما تريده المرأة حتى وإن لم تبح به علانية. الأول قدم عرسا إمبراطوريا غنيا بالتطريزات والأقمشة المترفة والتصاميم التي تخاطب مناسبات المساء والسهرة تحديدا. فقد تجاهل مناسبات النهار تماما، بدليل أنه لم تكن هناك قطعة واحدة يمكن أن تناسبه لا من حيث التصاميم أو الأقمشة والتطريزات، فضلا على الأوان التي كانت تستحضر درجات الجواهر المتوهجة مثل ألوان الياقوت والزمرد والماس وغيرها. ورغم تنوع التصاميم، على الأقل تفاصيلها مثل الياقات المستديرة أحيانا، والمفتوحة أحيانا أخرى، أو التفاصيل المطرزة على الظهر وما شابه، فإن الذي سرق الأضواء هو فستان العروس المطرز بالكامل بالترتر والخرز والذي احتاج إلى ثلاث وصيفات ليحملن ذيله الطويل. هذه الفخامة لم تغب أيضا في دار «فالنتينو» التي قدم فيها الثنائي ماريا غراتسيا تشيوري وبيير باولو بيكيولي فساتين ومعاطف قالا إنها تتضمن الكثير من المفاجآت بلعبهما على الرقة والقوة في الوقت ذاته. الرقة في التصاميم والألوان والتطريزات، والقوة في استعمالهما لأول مرة أقمشة رجالية نجحا في حقنها بجرعة أنثوية مثيرة.
* جون بول غوتييه يثأر لنفسه ويرد على انتقادات تيم بلانكس برسالة مفتوحة
* رغم أن معظم المتابعين لأسبوع الموضة الباريسي الأخير اتفقوا أن جون بول غوتييه استعاد عافيته بعد مواسم عادية جدا لم يقدم فيه جديدا أو مثيرا، فإن تيم بلانكس، محرر الأزياء المعروف في موقع «ستايل دوت كوم»، كان له رأي آخر؛ فقد اعتبر العرض باهتا لم يعبر عن قوة لا في الأفكار ولا في الإخراج، الأمر الذي أثار حفيظة المصمم الفرنسي واعتبره نقدا شخصيا أكثر منه مهنيا.
وفيما يشبه السيناريو الذي حصل في العام الماضي بين كاثي هورين محررة أزياء صحيفة «نيويورك تايمز»، وإيدي سليمان مصمم دار «سان لوران»، الذي لم تعجبه انتقاداتها ورد عليها برسالة مفتوحة اتهمها فيها بالتحيز لراف سيمونز مصمم دار «ديور» ووصفها بالتنمر - قام جون بول غوتييه بالمثل، وأرسل عبر «تويتر» رسالة مفتوحة للمحرر المعروف. ومع أن ردة فعل كل من المصممين غوتييه وسليمان واحدة تقريبا، وهي الاستنكار والرغبة في الدفاع عن النفس، إلا أن الطريقة التي كتب بها غوتييه رسالته جاءت مختلفة عن تلك التي كتبها مصمم دار «سان لوران» الجديد، من ناحية أنها عبرت عن برودة أعصاب مصحوبة بالحجة.
الانتقاد الذي أثار حفيظته، على ما يبدو، كان رأي تيم بلانكس بأن العهد الذي كان يتوقع فيه الناس أن يصبح غوتييه ملك الموضة الفرنسية قد ولى من دون رجعة، وبأن مشاركة نبيلة بيناتيا، وهي فتاة من أصول مغاربية فازت في برنامج واقع في فرنسا وشغلت العالم بتعليقاتها التي تنم عن سذاجة بالغة تميل إلى الجهل أحيانا، رخصت العرض.
جون بول غوتييه رد قائلا في رسالته: «عزيزي تيم، في وقت مضى كنت تحب عروضي، لكن ذلك الوقت ولى على ما يبدو، وأنا أحترم ذلك. لكن في الوقت ذاته، فإن تيم بلانكس الذي أعرفه سابقا، لم يكن ليكتب بهذه الطريقة العدوانية التي تميل إلى الشخصي أكثر منها إلى الموضوعي والمهني، فأنا دائما أستعين بفتيات من كل الطبقات الاجتماعية والمستويات، ووصفك لأي شخص بأنه من مستوى متدنٍّ، هو برأيي رخيص. في المستقبل، وعوض أن تشعر بالملل في عروضي، يمكنك استغلال وقتك في مكان آخر، مثلا أن تقرأ عن تاريخ الموضة لتوسع آفاقك وتعرف أن الفستان المكون من عدة طبقات من الموسلين (ميل فوي) مثلا، لا يستحضر (سان لوران)، بل كان مستلهما من فستان صممته نينا ريتشي في عام 1967 تكريما لجيرار بيبار الذي توفي أخيرا. أما إذا انتابك بعض الحنين للوقت الذي كنت تعتبرني فيه وريث عروض الموضة الفرنسية، فأقترح عليك أن تزور معرضي الخاص باستوكهلم، الذي سيحط قريبا في بروكلين ثم لندن. وأتمنى لك زيارة ممتعة».
تجدر الإشارة إلى أن كلا من كاثي هورين وتيم بلانكس، من أهم محرري الأزياء في الساحة حاليا، والسؤال حاليا: هل هناك حدود للنقد فعلا؟ بمعنى أن هناك خطا رفيعا بين الشخصي والمهني، أم أن مصممي الأزياء لم يعودوا يتقبلون الرأي الآخر ويشعرون أن من حقهم الدفاع عن أنفسهم، خصوصا أنهم أكثر من يعرف الجهد الذي بذلوه لتنظيم عروضهم والوقت الذي استغرقه كل فستان حتى يأتي بصورة تعبر عن رؤيتهم.



دانييل لي يُقدم لـ«بيربري» أقوى «عرض» شهدته منذ سنوات

أبدع دانييل لي مجموعة من المعاطف تنوعت تصاميمها وخاماتها بشكل مدهش (بيربري)
أبدع دانييل لي مجموعة من المعاطف تنوعت تصاميمها وخاماتها بشكل مدهش (بيربري)
TT
20

دانييل لي يُقدم لـ«بيربري» أقوى «عرض» شهدته منذ سنوات

أبدع دانييل لي مجموعة من المعاطف تنوعت تصاميمها وخاماتها بشكل مدهش (بيربري)
أبدع دانييل لي مجموعة من المعاطف تنوعت تصاميمها وخاماتها بشكل مدهش (بيربري)

سيغادر أم لا يغادر؟ هذا هو السؤال الذي كان يدور في أوساط الموضة حول مصير المصمم دانييل لي في دار «بيربري»، حتى مساء الاثنين الماضي. أي قبل أن يقدم عرضاً كان مسك ختام أسبوع لندن لخريف وشتاء 2025. بكل تفاصيله وبهاراته، بشَّر بأن «بيربري» استعادت السحر الذي افتقدته في المواسم الماضية، وأن كل ما يدور من شائعات لا يتعدى كونها كذلك. أو على الأقل هذا ما خرج الحضور وهم يتهامسون به. كان هناك إجماع بينهم على أن العرض استوفى كل مقومات الإبهار والإبداع، بدءاً من عدد النجوم الذين شاركوا في العرض على اختلاف مقاساتهم وأعمارهم، أو احتلوا المقاعد الأمامية، وصولاً إلى الأزياء والإكسسوارات التي تفتح النفس على كل ما له علاقة بالريف الإنجليزي، بما في ذلك الطقس المتقلب.

عاد المصمم في هذه التشكيلة إلى الجذور والأساسيات (بيربري)
عاد المصمم في هذه التشكيلة إلى الجذور والأساسيات (بيربري)

أقيم العرض في متحف «تيت بريتان» Tate Britain الواقع على مسافة خطوات قليلة من المقر الرئيسي الجديد لـ«بيربري». بمعماره النيوكلاسيكي شكل خلفية رائعة لعرض كان بمثابة قصيدة شعر تتغزل بالجمال الطبيعي والتاريخي لبريطانيا، فاجأ به دانييل لي الجميع بأنه يتمتع بلمسة ميداسية قادرة على تحويل التراب ذهباً. مهارة ظهرت لديه عندما كان في دار «بوتيغا فينيتا» قبل أن يلتحق بـ«بيربري». هنا أيضاً تجلت هذه المهارة والقدرات في تشكيلة حرَّكت الحواس وأيقظت إرثاً اعتقد البعض أنه فقد صلاحيته في ظل التغيرات الاقتصادية والثقافية التي يمر بها العالم عموماً وبريطانيا خصوصاً.

كونه بريطاني المولد، يعرف دانييل جيداً أن «بيربري» جزء لا يتجزأ من الثقافة البريطانية. كانت دائماً تتوجه لكل الطبقات، المتوسطة والأرستقراطية على حد سواء. وعكتها في السنوات الأخيرة تطلبت منه بذل كل الجهد لحمايتها من دوائر الزمن. وهذا ما كان. جمع نجوماً بريطانيين مثل ريتشارد إي غرانت، وليزلي مانفيل، وإليزابيث ماكغوفرن وناعومي كامبل وغيرهم لمساعدته في تلميع صورتها. هؤلاء شاركوا في العرض وأضفوا عليه بريقاً بنكهة إنجليزية طريفة، بعد أن شاركوا في شهر أكتوبر الماضي في حملة ترويجية أطلقتها الدار بعنوان «إنه دائماً طقس (بيربري)».

أبدع دانييل لي مجموعة من المعاطف تنوعت تصاميمها وخاماتها بشكل مدهش (بيربري)
أبدع دانييل لي مجموعة من المعاطف تنوعت تصاميمها وخاماتها بشكل مدهش (بيربري)

بيد أنه حتى من دون مشاركتهم، فإن الاقتراحات التي أبدعها دانييل لي كانت كافية لإعادتها إلى قواعدها سالمة غانمة وتذكيرنا بماضيها الغني. يمكن القول إن تشكيلته لخريف وشتاء 2025، كانت من بين أقوى التشكيلات التي تم تقديمها منذ رحيل المصمم البريطاني السابق كريستوفر بايلي في عام 2018 إلى الآن.

دانييل لي مثل بايلي، ابن البلد. فيه تربى ودرس وغاص في وحله واحتمى من مطره، كما يعرف جيداً مدى أهمية «بيربري» في المجتمع البريطاني وتأثيرها على ثقافته. لهذا كانت ورقته الرابحة في هذه التشكيلة العودة إلى الأساسيات التي بُنيت عليها الدار منذ أكثر من قرن من الزمن، وإحياء العلاقة الحميمة التي تربطها بالريف البريطاني وما يتخلله من فروسية ونزهات صيد وفخامة تطبع جدران وستائر ومفروشات بيوته وقصوره.

من كل هذه العناصر، استقى قطع أزياء وإكسسوارات تتعدى الفصول والمواسم. زاد عليها حبة مسك بتطريزها وضخها بتفاصيل مبتكرة عصرية ارتقت بها إلى مستوى جديد.

تكاثف البريطانيون نجوماً وعارضات لإضفاء البريق على دار متجذرة في الثقافة البريطانية (بيربري)
تكاثف البريطانيون نجوماً وعارضات لإضفاء البريق على دار متجذرة في الثقافة البريطانية (بيربري)

من بين الأقمشة المتنوعة التي استعملها، برزت الجلود الطبيعية والبروكار المخملي والصوف المنسوج بسماكة. الممثل ريتشارد إي غرانت، البالغ من العمر 67 عاماً، مثلاً ظهر على المنصة مرتدياً معطفاً من الصوف مزدوج الصدر، وكنزة بياقة عالية. حمل معه أيضاً قفازات جلدية ومظلة صفراء بنقشات «بيربري» المربعة؛ تحسباً لأي تقلبات جوية قد تداهمه.

تصاميم أخرى كثيرة اقترحها المصمم، استوحى بعضها من عالم الفروسية تشمل سترات وسراويل وغيرها، وبعضها الآخر من أجواء الريف الإنجليزي وحياة المدن بإيقاعها السريع؛ الأمر الذي يحتاج إلى قطعة تحمل صاحبها من النهار إلى المساء بسهولة، مثل معطف باللون الأرجواني ظهرت به ناعومي كامبل، البالغة من العمر 54 عاماً. جاء بتصميم مزدوج الياقة من قماش الجاكار تم تنسيقه مع تنورة متعددة الطبقات وحذاء أسود عالي الساق.

إلى جانب المعاطف التي كانت نجم العرض تألقت العارضات في فساتين بتفاصيل مميزة (بيربري)
إلى جانب المعاطف التي كانت نجم العرض تألقت العارضات في فساتين بتفاصيل مميزة (بيربري)

هذه هي خامس تشكيلة يقدمها دانيال لـ«بيربري» منذ التحاقه بها في عام 2022، والثانية بعد أن تسلم جاشوا شولمان وظيفته رئيساً تنفيذياً. استراتيجية هذا الأخيرة كانت العودة إلى جذور الدار، أي إلى تلك العلاقة التي تربط تصاميمها بالهواء الطلق، إضافة إلى إعادة النظر في أسعارها، والتي تم رفعها بشكل كبير في عهد الرئيس التنفيذي السابق رغبة منه في الارتقاء بها إلى مصاف بيوت الأزياء العالمية الأوروبية. لكن ما يصلح في باريس وميلانو لا يصلح بالضرورة في بريطانيا. فهذه لها ذائقة مختلفة تماماً في كل شيء، بما في ذلك روح النكتة.

هذا ما استوعبته الدار في هذه التشكيلة. جاءت متنوعة تخاطب الطبقات المتوسطة والأرستقراطية على حد سواء، بألوانها التي تباينت بين درجات متنوعة من البني، والرمادي، والأخضر والعنابي، وأيضاً بخاماتها التي تبث الدفء في الجسم بمجرد النظر إليها.

فساتين السهرة كادت أن تسرق الأضواء من المعاطف المتنوعة (بيربري)
فساتين السهرة كادت أن تسرق الأضواء من المعاطف المتنوعة (بيربري)

الجميل في المعاطف الصوفية مثلاً أنها على الرغم من أنها تبدو سميكة، فهي تنسدل على الجسم بشكل أنيق، والمعاطف الواقية من المطر مطبوعة بالجاكار ما يُدخلها مناسبات المساء من أوسع الأبواب، بينما صُنعت التايورات من البروكار المخملي وهلم جراً.

اللافت أيضاً، أن أزياء السهرة والمساء، التي لم تكن يوماً تُشكِّل قوة كبيرة للدار، نالت اهتمام المصمم. ضخها بجرعة عصرية أكسبتها جمالاً وجاذبية. غلبت عليها نغمة رومانسية خفيفة وتفاصيل عملية، كادت أن تسرق الأضواء من المعاطف التي كانت نجم العرض بلا منازع، خصوصاً المصنوعة من البروكار الدمشقي والمطرزة بالورود.