ستيفان رولان لـ«الشرق الأوسط»: الفن قوتي وزادي ومن الشرق أستمد قوَّتي

في تشكيلته الأخيرة يستحضر ماريا كالاس بالصوت والصورة

ستيفان رولان يحيِّي ضيوفه في نهاية العرض (رويترز)
ستيفان رولان يحيِّي ضيوفه في نهاية العرض (رويترز)
TT

ستيفان رولان لـ«الشرق الأوسط»: الفن قوتي وزادي ومن الشرق أستمد قوَّتي

ستيفان رولان يحيِّي ضيوفه في نهاية العرض (رويترز)
ستيفان رولان يحيِّي ضيوفه في نهاية العرض (رويترز)

في أحد أيام شهر يناير (كانون الثاني) الماضي الباردة، شهد قصر غارنييه بباريس حركة مثيرة للغاية. كان يتراءى من بعيد كعادته، شامخاً ومتأنقاً بمعماره الباروكي، وواجهاته المزينة بمنحوتات فنية، تجسد أبطالاً من الأساطير اليونانية، لكن مكتظاً بشريحة شابة من السياح والفضوليين تجمهروا حوله. كانوا يلتقطون صوراً لأنيقات ينزلن من سيارات فارهة، في فساتين فخمة. لم تكن المناسبة حفل أوبرا، بل عرض أزياء قدمه المصمم الفرنسي ستيفان رولان ضمن «أسبوع باريس» لخريف وشتاء 2024. طوابير من الأنيقات في فساتين تناسب الأعراس، أو حفلات الأوبرا، كما صورتها لنا الأفلام السينمائية القديمة.

صانعة المحتوى والإنفلونسر المعروفة بساناناس في فستان من تصميمه (ستيفان رولان)

تقف الواحدة تلو الأخرى للحظات أمام عدسات المصورين، ثم تدخل البوابة الكبيرة تحت حراسة مشدّدة لترتقي درجات السُّلم بخطوات متباطئة. فهي هنا تجر ذيلاً طويلاً من عدة أمتار من قماش الحرير أو الغازار، أو تحمل على صدرها إكسسواراً على شكل منحوتة مصوغة من الذهب.

النجمة يسرا لدى وصولها العرض (ستيفان رولان)

تقترب أكثر وتنتبه إلى أن ضيفات عرضه يختلطن مع نجمات من كل أنحاء العالم، من بينهن يُسرا، وغادة عبد الرازق، ومغنية الأوبرا البريطانية بريتي ياندي، وغيرهن. طبعاً لا يمكننا تجاهل حضور السوبرانو ماريا كالاس، التي لم تستطع أي واحدة من النجمات أن تسرق الأضواء منها، رغم وفاتها منذ عقود. كانت الحاضرة الغائبة في هذه المناسبة. روحها وعبقها وكُحل عينيها الدرامي يسكن المكان، بينما يتردد صوتها الذي بلغ 6.7 أوكتافات في جوانبه، فتسري في الأوصال قشعريرة من إعجازه.

المصمم ستيفان رولان في نهاية عرضه لخريف وشتاء 2024 (رويترز)

من يتابع ستيفان رولان يعرف أنه يعشق الفن بكل أشكاله، والموسيقى تحديداً. ومن يعرفه على المستوى الشخصي، يعرف أنه يملك صوتاً عذباً يُطرب سامعيه. لحسن الحظ فإن عالم الموضة سرقه، وكسبته أنيقات العالم. فهو ما فتئ يُمتِعنا بتصاميمه الفنية التي تخفي بين دراميتها المسرحية كثيراً من الإبهار والأناقة.

على الرغم من نفيه أنه يعيش في الماضي، وتأكيده أنه ابن عصره، فإن هناك نوعاً من النوستالجيا، دائماً ما يشده للزمن الجميل، وندين له بإدخالنا عالمه الخاص.

الأبيض والأسود كانا الغالبين باستثناء فستانين باللون الأحمر (أ.ف.ب)

يقول في مقابلة خاصة مع «الشرق الأوسط» بعد تقديمه تشكيلته الأخيرة من خط الـ«هوت كوتور»: «الفن قوتي وزادي. لا يمكنني الإبداع من دون الاستناد إلى تعبير فني يُشعل مخيلتي، ويحرك وجداني». أحياناً يستلهم من فنان، وأحياناً من مهندس معماري وهكذا.

«خريف وشتاء 2024» أحيا ذكرى السوبرانو ماريا كالاس التي يحتفل العالم بـ100 عام على مولدها، من خلال عرضٍ استعاد عظمتها، ووظّف فيه كل عناصر الإبهار، من مكان العرض إلى الموسيقى، مروراً بالأزياء. تصاميمها وموادها وزخرفاتها، وكل خيط من خيوطها لا يعترف بزمان، تماماً مثل صوت الأسطورة التي ألهمته ولن تتكرر.

استهلَّت العرض الإسبانية نيفيس ألفاريز في فستان أسود (أ.ف.ب)

كلما أطلَّت علينا عارضة بفستان جديد حضرت صورتها، وكأن روحها تحوم في قصر غارنييه الذي غنت فيه ثلاث مرات. أول مرة في عام 1958، وآخر مرة في عام 1964. في كل إطلالة كانت تتجلى لنا، إما في شخصية نورما، وإما في شخصية كارمن، أو مدام باترفلاي، أو ميدِيا... وهلم جراً من الشخصيات التي جسدتها عبر مسيرتها الغنية. كل ما فيها كان مُبهراً رغم غياب الألوان المتوهجة التي يميل إليها المصمم عادة. حل محلها الأبيض والأسود باستثناء فستانين باللون الأحمر. تبريره أن استخدام ألوان متوهجة لم يكن ليتناغم مع أجواء المكان، وسحر صاحبة الصوت.

هذه الدراما خدمت كثيراً المخرج الفرنسي كلود لولوش الذي كان قد اتفق مع ستيفان رولان على تصوير عرضه ليُضمّنه فيلمه الروائي المقبل Finalement (أخيراً). لم يكن يتوقع أن تكون التشكيلة بهذا الإبهار والحبكة، وهو ما سيُضفي على عمله كثيراً من الجمال والعُمق. عدَّها المخرج «هدية من السماء» حسب قول ستيفان رولان.

أنهت العرض الإسبانية نيفيس ألفاريز في فستان زفاف أبيض (إ.ب.أ)

افتتحت العرض عارضته المفضلة الإسبانية نيفيس ألفاريز بفستان أسود من حرير الغازار، واختتمته هي أيضاً بفستان زفاف مكسوّ بالشاش الأبيض. أسأله إن كان يشعر بالنوستالجيا لزمن مضى، فيرد نافياً بأنه لا ينسى أبداً أنه ابن عصره. ويتابع: «ربما ينتابني الحنين بين فينة وأخرى إلى حقبتَي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، لا سيما عندما أتذكر مساحة الحرية التي كانت متاحة لنا من ناحية التعبير عن الذات. كنا نعيش الحياة من دون توجّس أو خوف من اقتحام وسائل التواصل الاجتماعي، كل تفصيل في حياتنا من دون إذن أو رقيب». ويتابع: «هذا لا يعني أن هذه الوسائل غير مهمة... بل العكس، أدرك تماماً أنها لغة العصر، لكنها مع الأسف وضعت قيوداً، وفرضت نمط عيش قاسياً تسوده العزلة بالمقارنة مع نمط حياة أسلافنا. أنا مع تقدم التكنولوجيا، ولا أمانعها على شرط أن تستعمل بشكل صحيح. أما على المستوى الشخصي، فإني أراها قضت على عفوية العيش التي كنا ننعم بها قبل انتشارها».

عشق المصمم للموسيقى لم يضاهه سوى عشقه لفنون العمارة الهندسية (أ.ف.ب)

لسنوات طويلة ظل اسم ستيفان رولان يرتبط بمنطقة الشرق الأوسط. كلما طُرح اسمه في حديث عابر أو نقاش طويل، كان أول مأخذ عليه أو إشادة به أنه «مصمم الشرق». والمقصود هنا تلك العلاقة الوطيدة التي تربطه بزبونات الشرق الأوسط، وحجم إقبالهن على تصاميمه، الأمر الذي وضعه في خانة معينة. يُعلّق بأن سماع هذا النوع من التعليقات يُسعده أكثر مما يُزعجه، «فهناك فعلاً علاقة حميمة وطويلة تربطني بالمنطقة. فهي تُقدر الجمال والفن، ومن غموض الشرق ورومانسيته أستمد كثيراً من أفكاري» حسب تعليقه.

ويضيف: «أنا مدين لزبوناتي في فهم ثقافتها عن قُرب في عهد كان يلفُّها الغموض، وصور نمطية كثيرة. منذ أول يوم زُرتها فيها، عشقتها ورغبت في سبر أغوارها، لأكتشف سريعاً مكامن جمالها وقوتها».

ثم يُعلِّق بصوت خافت، وكأنه يبوح بسرٍّ كبير: «لا أخفيك أن إحساساً رائعاً بالتميز والنشوة كان يتملكني، وأنا أرى أن الأبواب الموصدة أمام غيري كانت مفتوحة أمامي». ويتابع سريعاً: «أتمنى ألَّا يفهمني أحد خطأً عندما أقول: إن انفتاح السعودية أزعجني قليلاً في البداية، لسبب أناني محض. فهي بيتي الثاني الذي كنت فيه الطفل المدلل. من هذا المنظور فقط، استخسرت أن يشاركني فيها غيري. لكني، وبكل صدق، وبعيداً عن مشاعر الأنانية؛ مبهور بالتغييرات الإيجابية التي تشهدها المملكة، وسعيد بها للغاية؛ خصوصاً وأنا أرى حماس شبابها وتفجّر قدراتهم الإبداعية. أكثر ما لفتني وأثلج صدري أن تطورها السريع لم يُؤثر على احترامهم للتقاليد واعتزازهم بهويتهم».

جموح المصمم الفني تجلى في أشكال مبتكرة شكَّلها من أقمشة متنوعة (أ.ف.ب)

هذه العلاقة بين ستيفان رولان والمنطقة لا تزال مستمرة، لكنها توسَّعت في السنوات القليلة الأخيرة إلى أسواق أخرى، زادت شعبيته فيها. يعترف بأنه تعلم من أخطاء الماضي، وأصبح قارئاً جيداً لنبض العصر وتغيراته. بات أيضاً يُدرك أهمية أن يبقى المصمم في دائرة الضوء، بالاعتماد على تقديم إبداعات مميزة لا تخطئ العين بصمتها، التي يجب أن تُميزه كما تُميز لابستها من دون تجاهل الجانب التجاري. بيد أنه، رغم النُّضج، لم يُغير جلده فيما يتعلق بأسلوبه. نعم لم يتوقف عن تطويره، وإضافة بهارات مثيرة عليه من خلال التفاصيل الفنية، بينما تحترم الأساسيات ثقافة المرأة، وما تفرضه من تضاريس جسدية. فكما أن الموضة، حسب رأيه، تقوم على الجمال والرقي، فإنها مثل كل شيء في الحياة «تحتاج إلى بعض الجنون» لتحريك المياه الراكدة، وإدخال السعادة على النفس.


مقالات ذات صلة

أسابيع الموضة العالمية لخريف وشتاء 2026 تنتهي في باريس ببدايات جديدة

لمسات الموضة شهد الأسبوع ثلاث بدايات: «دريز فان نوتن» و«جيڤنشي» و«توم فورد»

أسابيع الموضة العالمية لخريف وشتاء 2026 تنتهي في باريس ببدايات جديدة

بدايات جديدة في «جيڤنشي» و«دريز فان نوتن» و«توم فورد» تُوقظ الأمل بولادة عهد جديد

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة المصمم ديمنا عند تلقيه جائزة أحسن مصمم للأزياء الجاهزة في عام 2016 في لندن (أ.ف.ب)

ديمنا مديراً فنياً لدار «غوتشي»... هل ينجح في تلميعها؟

بعد قرابة 10 سنوات، سيغادر المصمم الجورجي ديمنا دار «بالنسياغا» لينضم إلى دار «غوتشي» ابتداءً من شهر يوليو (تموز) المقبل. كان الخبر مفاجئاً إلى حد ما. فرغم أن…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة اجتازت دوناتيلا العديد من الأزمات لكنها لم تصمد أمام قوة العاصفة الاقتصادية الأخيرة (أ.ف.ب)

دوناتيلا تتنحى عن منصبها في دار «فيرساتشي» وتسلم المشعل لداريو فيتالي

ابتداء من الشهر المقبل سيتسلم داريو فيتالي الإدارة الإبداعية لعلامة الأزياء الفاخرة «فيرساتشي» من دوناتيلا فيرساتشي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة ديمي مور وجين فوندا في حفل توزيع جائزة نقابة ممثلي الشاشة (رويترز)

ديمي مور وجين فوندا... قصة إدمان على التجميل كلّلها «الزمن» بالنجاح

اللقطة التي جمعت ديمي مور وجين فوندا، تؤكد أنه برغم فارق 25 سنة بينهما، فإن ما يجمعهما أكبر من مجرد رقم. هوسهما في مرحلة من حياتهما بالتجميل أمر معروف ومسجل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة من إبداعات شيمينا كامالي مصممة دار «كلوي»... (أ.ف.ب)

الفراء الاصطناعي يعود لعروض الأزياء أعلى نعومة وفخامة

لا تستغني عنه الموضة ولا المرأة المقتدرة، مهما تصاعدت نسبة مناهضي استعمالاته وتهديداتهم.

«الشرق الأوسط» (لندن)

دوناتيلا تتنحى عن منصبها في دار «فيرساتشي» وتسلم المشعل لداريو فيتالي

اجتازت دوناتيلا العديد من الأزمات لكنها لم تصمد أمام قوة العاصفة الاقتصادية الأخيرة (أ.ف.ب)
اجتازت دوناتيلا العديد من الأزمات لكنها لم تصمد أمام قوة العاصفة الاقتصادية الأخيرة (أ.ف.ب)
TT

دوناتيلا تتنحى عن منصبها في دار «فيرساتشي» وتسلم المشعل لداريو فيتالي

اجتازت دوناتيلا العديد من الأزمات لكنها لم تصمد أمام قوة العاصفة الاقتصادية الأخيرة (أ.ف.ب)
اجتازت دوناتيلا العديد من الأزمات لكنها لم تصمد أمام قوة العاصفة الاقتصادية الأخيرة (أ.ف.ب)

ابتداء من الشهر المقبل سيتسلم داريو فيتالي الإدارة الإبداعية لعلامة الأزياء الفاخرة «فيرساتشي» من دوناتيلا فيرساتشي، وفق ما أعلنته شركة «كابري هولدينغز ليمتد» المالكة للعلامة التجارية.

وقالت «كابري» التي استحوذت على الدار في 2018 إن «دوناتيلا فيرساتشي ستصبح السفيرة الرئيسية للعلامة التجارية اعتباراً من الأول من أبريل (نيسان) 2025»، فيما سيتولى فيتالي مهامه بصفته مديراً فنياً في التاريخ نفسه.

يأتي هذا التغيير في ظل تقارير تفيد بأن منافستها الإيطالية «برادا»، المالكة لعلامة «ميو ميو»، تجري محادثات لشراء فيرساتشي من كابري.

بعد عقود تتنحى دوناتيلا فيرساتشي عن منصبها مصممة إبداعية (أ.ب)

وكانت دوناتيلا قادت الدار منذ عام 1997، بعد مقتل أخيها جياني، في العام نفسه.

تعرضت دوناتيلا للكثير من النكسات كادت أن تؤدي بالدار للإفلاس، إلا أنها كانت دائماً تعود لتحقق نجاحات جديدة. هذه المرة، يبدو أن قوة الأزمة الاقتصادية اضطرتها للاستسلام، لتنتهي بذلك سيطرة العائلة على الإدارة الإبداعية لفيرساتشي. منذ انطلاقتها على يد جياني فيرساتشي، ارتبطت الدار بالجرأة والإثارة وخض المتعارف عليه. حققت الكثير من النجاح من ناحية الصورة والشهرة، لكن الأمر لم تترجمه أرقام المبيعات التي ظلت تراوغها. دار «ميو ميو» المملوكة لـ«برادا» التي تستهدف فئة الشباب، في المقابل لم تتأثر مبيعاتها بالأزمة. بالعكس تماماً، فمنذ عام 2023، وأسهمها في ارتفاع، الأمر الذي كان دافعاً لاختيار فيتالي. هو من كان يتولى إدارة تصاميم «ميو ميو» ما يجعل التحاقه بـ«فيرساتشي» مهماً لأنه يمنح الأمل بأن ينثر بعض السحر عليها.

نجحت الدار في تلميع صورتها لكنها فشلت في خلق التوازن بين هذه الصورة البراقة والأرباح (أ.ف.ب)

في هذا الصدد قالت دوناتيلا: «لقد كان شرفاً عظيماً لي أن أواصل إرث أخي جياني. كان عبقرياً بكل المقاييس، وآمل أن أتمتع ببعض من روحه ومثابرته»، مضيفة أنها ستظل من أكثر الداعمين للعلامة.

من جهته، صرح فيتالي بأن فيرساتشي تتمتع «بإرث فريد يمتد لعقود، وقد ساهم في تشكيل تاريخ الموضة».

في وقت سابق من هذا الشهر أفادت «بلومبرغ» بأن كابري تطلب ما يقرب من 1.5 مليار يورو (1.6 مليار دولار) مقابل العلامة التجارية.